وَرَدَ في القرآن الكريم والسنة النبوية ذكر الملائكة وأصنافهم وأعدادهم وأعمالهم، وقد ورد في القرآن بيان تعدد أوصافهم، فمنهم الصّافات صفًّا، ومنهم الزّاجرات زجرًا، ومنهم المرسلات عرفًا، وذلك دليلٌ على أن الملائكة طوائف وجماعات، وأنهم...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: لقد وَرَدَ في القرآن الكريم والسنة النبوية ذكر الملائكة وأصنافهم وأعدادهم وأعمالهم، وقد ورد في القرآن بيان تعدد أوصافهم؛ فمنهم الصّافات صفًّا، ومنهم الزّاجرات زجرًا، ومنهم المرسلات عرفًا؛ وذلك دليلٌ على أن الملائكة طوائف وجماعات، وأنهم سكّان السماوات يتصفون بالقرب، مقرّبون طائعون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وأن البيت المعمور الذي في السماء يَطُوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يُعودون إليه آخر ما عليه، وأنهم طوائف يجوبون الأرض كلٌّ مُوَكّل بوظيفة خاصة به؛ فكل حركة في هذا العالم وراءها ملائكة موكّلون بها، وقد وكَلَ الله إليهم أعمالاً كثيرة.
وقد شرَّفَهم اللهُ تعالى بوظيفة مهمة، وهي الاستغراق في عبادته -سبحانه- وتسبيحه وتنزيهه، وفضَّلَهُم على غيرهم من مخلوقاته، وأسكنهم سماواته، وجعل أفضلهم وأشرفهم وأقواهم جبريل -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- أمينًا على وحيه، كما جعله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- واسطة بينه وبين سائر الملائكة -عليهم السلام- يوضح ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها؛ خضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض".
وعن حكيم بن حزام فيما روى محمد بن نصر بسند صحيح كما في الصحيحة قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه إذ قال لهم: "هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد"(صححه الألباني).
معاشر المسلمين: ومع ذلك التشريف الذي حظيت به ملائكة الرحمن من العبادة لله -سبحانه وتعالى- إلا أنهم موكلون بأعمال كثيرة؛ في السماء والأرض وفي الدنيا والآخرة، ومن تلك الأعمال التي كلفهم الله بها:
أن منهم من هو موكل بالوحي؛ وهو الروح الأمين جبريل؛ قال الله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ)[البقرة: 97]، وقال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)[الشعراء: 193-194].
ومنهم الموكل بالقطر والسحاب وتصاريفه حيث أمره الله، وهو ميكائيل؛ ففي سنن الترمذي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرعد ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله"(صحيح الجامع)؛ والمخراق: "ثوبٌ يلف ويضرب به الصبيان".
وقد ثبت في الحديث: "أن اليهود سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أسئلة، قالوا عنها: لا يعلمها إلا نبي؛ فلما أخبرهم قالوا: من وليك من الملائكة؟ قال: (جبريل)، قالوا: جبريل الذي يأتي بالقتال والحرب! لو كان ميكائيل الذي يأتي بالرحمة والقطر والنبات لاتبعناك"(رواه أحمد).
ومنهم الموكَّل بالصور، وقد ثبت في الحديث قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كيف أنعم وقد التقم صاحب القَرْنِ القَرْنَ، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ؟!"، قال المسلمون: فكيف نقول يا رسول الله؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا، وربما قال سفيان: على الله توكلنا"(السلسلة الصحيحة).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن طرف صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دريان"(رواه الحاكم).
ومنهم ملك موكل بالرحم؛ لما جاء في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله -عز وجل- قد وكل بالرحم ملكًا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقًا، قال الملك: أي رب ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه".
ومنهم من هو موكل بقبض الأرواح، وهو "ملك الموت"، وله أعوان؛ قال تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)[السجدة:11]، وقال تعالى في بيان أعوانه: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)[الأنعام:61]، وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)[الأنفال:50].
ومنهم ملائكة الأرزاق، وسيدهم ميكائيل، ومنهم المكلَّفون بحفظ السماوات، ومنهم المكلَّفون بالرياح والسحاب، ومنهم المكلَّفون بالجبال، ومنهم المكلَّفون بالنبات، ومنهم المكلَّفون بالبحار، ومنهم المكلَّفون بأمور الحوت والطيور والدواب، ونحوها من الأمم والعوالم التي لا يحصيها إلا الله تعالى.
ومنهم المكلفون بتدبير أمر المكلَّفين من الخلق -الجن والإنس- والصلة الوثيقة بهم في أحوال كثيرة، في حياتهم وبعد مماتهم.
ومنهم الذين يُسدِّدون ويُعِينون المكلَّفين على الخير ويمدُّون المجاهدين المتَّقين.
ومنهم من يسيحون في الأرض لالتماس مجالس الذكر وحِلَقِ العلم، وهو من وظيفة الملائكة السيَّاحين ملائكة الروح الذين ينفُخون الأرواح في الأجنَّة في الأرحام، ويقبضونها عند انتهاء الآجال.
ومنهم كُتَّاب الناس يوم الجمعة على أبواب المساجد الأوَّل فالأوَّل.
ملائكة أقدامهم تحت أرضه *** وأعناقهم فوق السموات صعد
فمن حامل إحدى قوائم عرشه *** بأيد ولولا ذاك كلوا وبلدوا
قيام على الأقدام عانين تحته *** فرائصهم من شدة الخوف ترعد
أميناه روح القدس جبريل منهما *** وميكال ذو الروح القوي المسدد
ملائكة لا يفترون عبادة *** كروبية منهم ركع وسجد
فساجدهم لا يرفع الدهر رأسه *** يعظم ربا فوقه ويمجد
وراكعهم يحنو له الظهر خاشعا *** يردد آلاء الإله ويحمد
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: ومن الملائكة من هم مكلفون بالدعاء للمؤمنين إذا قاموا بأعمال البر والخير والصلاح؛ فمن ذلك:
دعاؤهم لطالب العلم ومعلمه؛ فعن أبي أمامة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلُّون على معلم الناس الخير"، فاحرص على العلم الشرعي وتعلمه؛ فالملائكة كذلك "تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع".
وكذا الملائكة تدعو لمنتظر الصلاة ولمن جلس في المسجد بعد الصلاة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ"(رواه البخاري).
وفي رواية لمسلم: "لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلَّاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، حَتَّى يَنْصَرِفَ أَوْ يُحْدِثَ".
ودعاؤهم لأهل الصفوف المتقدمة في الصلاة وأهل الصفوف الأولى، عن البراء بن عازب قال كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يتخلل الصفوف من ناحية إلى ناحية يمسح مناكبنا وصدورنا، ويقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وكان يقول: إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول"(رواه أبو داود)، وفي رواية عند النسائي: "على الصفوف المتقدمة" وعند ابن ماجه: "على الصف الأول".
فاحرصوا -عباد الله- على هذه الصفوف؛ فمن الخسارة أن ترى الرجل يأتي إلى المسجد ويجلس ينتظر إقامة الصلاة في آخر المسجد مسندًا ظهره إلى الجدران حتى إذا أقيمت الصلاة كان في الصفوف المتأخرة؛ فيفوِّت على نفسه خيراً كبيراً.
ومنها: دعاؤهم لمن صلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن عامر بن ربيعة عن النبي -صلى الله عليه و سلم- قال: "ما من مسلم يصلي عليَّ إلا صلت عليه الملائكة ما صلى عليَّ، فليُقِلَّ العبد من ذلك أو ليكثر"(رواه ابن ماجه).
والملائكة تدعو لأهل الصدقة والإنفاق، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَال: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"(متفق عليه).
وكذلك دعاؤهم للمتسحرين أهل الصيام والمحافظين على هذه العبادة الجليلة، فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ اللهَ وملائكتَه يصلُّون على المتسحِّرين"(رواه ابن حبان).
والملائكة تدعو لمن عاد مريضاً وزاره لله تعالى، عَنْ عَليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ أَتَى أَخَاهُ الْمُسْلِمَ عَائِداً، مَشَى فِي خرافَهِ الْجَنَّةِ (أي: جناها وثمارها) حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمةُ، فَإِنْ كَانَ غُدْوَهً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ"(رواه أحمد وابن ماجه).
عباد الله: استشعروا عظمة الله وقدرته، وسعة ملكه وملكوته، واستثمروا إيمانكم بالملائكة بالعمل الصالح والصحبة الصالح؛ فالملائكة لا تفارقكم ليلاً ولا نهاراً، حتى في نومكم وحلكم وترحالكم، وهم معكم في دنياكم وآخرتكم.
هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي