ولذلك فإن للإيمان أهمية عظيمة في حياة البشر؛ به يتعرف الإنسان على ربه وخالقه والهدف من وجود ومصيره بعد الموت، وبه تستقيم أخلاقه وسلوكياته، وبه يخرج من ظلمات الجهل والخرافات والقلق والحيرة والاضطرابات النفسية، وبه ينال...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: إن الإنسان دائماً في حاجة إلى الإيمان والتَّدَيُّن والعقيدة، وإن الدين ضرورة من ضرورات حياته، وحاجة من حاجات نفسه، فلا غِنى له عن الإيمان بربه وعن عِبادته بحال من الأحوال، ومِن هُنا لم تخل أُمة وُجِدَت على وجه الأرض -ومُنذ عهد الإنسان بالحياة- من عقيدة ودين، ومِصداق ذلك قوله -تعالى-: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)[فاطر: 24]؛ والمُراد بالنذير: نبي أو رسول أو عالِم وارث لعِلم النُّبُوَة، يُنذر تِلك الأُمة عاقبة الكُفر بالله وبكتبه ورُسُله وشرائعه، ويُحذرها من نتائج الشرك بربها والمعصية له ولرُسُله وما يتبع ذلك من انحراف السلوك بالظلم والشر والفساد.
والحياة بلا إيمان حياة فارغة من جوهرها ومن أصالتها، ومن غايتها الحقيقية, وإن كانت ظاهريا وشكليا حياة بكل "معطيات الحياة ومفاهيمها", وإن كان الإنسان يبدو فيها سعيدا!.
وما ذلك إلا لأن الإنسان إذا فقد الإيمان خسر الاتصال بالله الخالق, وأصبح تائها في بيداء "الجاهلية" والجهالة رغم ما يمكن أن يحرزه من علم.
عباد الله: وحتى يسعى العبد في تحقيق الإيمان لا بد أن يعرفه كما عرَّفه أهل العلم, حيث ذكروا في اللغة والشرع فقالوا بأن معناه في اللغة: التصديق, واستدلوا بقوله -تعالى-: (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)[يوسف: 17]؛ أي: بمُصدِّق، فصدَّقت وآمَنت معناهما واحدٌ، فهو التصديق مطلقًا.
وأما في الشرع فقالوا هو: "التصديق الجازم، والإقرار الكامل، والاعتراف التام؛ بوجود الله -تعالى- وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، واستحقاقه وحده العبادة، واطمئنان القلب بذلك اطمئناناً تُرى آثاره في سلوك الإنسان، والتزامه بأوامر الله -تعالى-، واجتناب نواهيه، وأن محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، وخاتم النبيين، وقبول جميع ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -جل وعلا- وعن دين الإسلام, من الأمور الغيبية، والأحكام الشرعية، وبجميع مفردات الدين، والانقياد له -صلى الله عليه وسلم- بالطاعة المطلقة فيما أمر به، والكف عما نهى عنه -صلى الله عليه وسلم- وزجر؛ ظاهراً وباطناً، وإظهار الخضوع والطمأنينة لكل ذلك".
ويجب أن يتبع ذلك كله: قول اللسان، وعمل الجوارح والأركان، ولا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر؛ لأن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، وجزء منه، قال -تعالى-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة: 285], وقال سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)[آل عمران: 81], وقال -تعالى-: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا)[مريم: 76].
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "الإيمان بضعٌ وستُّون شُعْبَة، والحياء شعبةٌ من الإيمان"(رواه البخاري)، قال الشافعي –رحمه الله تعالى-: "كان الإجماع من الصحابة و التابعين بعدهم, ومن أدركناهم , يقولون: الإيمان قول وعمل ونية, و لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر", وقال الآجري -رحمه الله-: "إن الإيمان هو تصـديق بالقلـب، وإقــرار باللسان، وعمـل بالجوارح... ولا تجزئ معرفة بالقلب والنطق باللسان حتى يكون معه عمل بالجـوارح, فإذا كملت الخصال الثلاث كان مؤمناً؛ فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان, فمن لم يصدق الإيمان بعمله وبجوارحه مثل الطهارة والصــلاة والزكاة والصيـام والحـج والجهـاد أشبـاه لهـذه، ورضي لنفسه المعرفة والقول دون العمل لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول".
ويقول الإمام ابن القيم -رحمة الله-: "الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيماناً؛ لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما يعرفون أبناءهم مؤمنين صادقين", وقال الحسن البصري عليه -رحمة الله-: "ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن هو ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال".
معاشر المسلمين: وأركان الإيمان ستة؛ وهي: الإيمان بالله -عز وجل- وحده لا شريك له, الإيمان بالملائكة؛ أي الإيمان بوجودهم, الإيمان بالكتب السماوية, الإيمان بالأنبياء والرسل, الإيمان باليوم الآخر, الإيمان بالقدر خيره وشره.
كما أَخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل -عليه السَّلام- لما جاء يسأَله عن الإِيمان؛ فقال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "أَنْ تُؤْمنَ باللهِ، وَمِلاَئِكَته، وَكُتُبِهِ، وَرُسولِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشرِّه"(البخاري ومسلم)؛ فالإِيمان يقوم على هذه الأركان الستة, فإذا سقط منها ركن لم يكن الإنسان مؤمنا البتَّة؛ لأنَّه فقد ركنا من أَركان الإيمان؛ فالإِيمان لا يقوم إِلَّا على أَركانه تامة، كما لا يقوم البنيان إِلَّا على أَركانه مكتملة.
أيها المؤمنون: إن دعوى استغناء الإنسان عن الإيمان والعقيدة دعوى باطلة يُكذبها الواقع، ويُبطلها تاريخ البشرية الطويل؛ إذ واقع البشرية شاهد على أن الإنسان حيثما كان وفي أي ظروف وُجِد، وعلى اختلاف أحواله وتباين ظروفه لا يخلو من عقيدة أبداً.
وسواء كانت العقيدة حقاً أو باطلاً، صحيحةً أو فاسدةً، حتى الذين يَدَّعون اليوم أن العِلم قد أغنى عن العقيدة وعن التدين، وأن الإنسان في عصر الذَرة وغزو الفضاء لم يُصبح في حاجة إلى الإيمان بالله -تعالى-، وبالغوا في الكُفر والإنكار، وقالوا: إن الإنسان في الظروف الصعبة التي كان يعيشها والمخاوف التي تنتابه من كل ما حوله من مظاهر الكون؛ إذ هو يخاف المرض ويخاف الفقر ويخاف الرعد والبرق والفيضان والسيول والعواصف والزلازل وحتى الحيوانات، اضطر لأجل ذلك إلى الإيمان بقوة ذات قُدرة لا تعجز، وسلطان لا يُغلَب أو يُقهر، سَمَّاها إلهاً يفزع إليه عند الشدائد ويتقرب إليه بالعبادات؛ ليدفع عنه الشرور ويقيه من المهالك. لهذا قالوا: إن الإنسان هو الذي خلق الإله وليس الإله هو الذي خلق الإنسان. وهو قولٌ مُضحِك، وجهلٌ فاضح، وكُفرٌ صريح، وكذبٌ ممقوت، ومُغالطةٌ مكشوفة، وسُخف عقول لا حد له.
ولذلك فإن للإيمان فوائد عظيمة في حياة البشر؛ به يتعرف الإنسان على ربه وخالقه والهدف من وجود ومصيره بعد الموت، وبه تستقيم أخلاقه وسلوكياته، وبه يخرج من ظلمات الجهل والخرافات والقلق والحيرة والاضطرابات النفسية، وبه ينال القناعة والرضا والطمع فيما عند الله.
إنه الإيمان الذي يضبط السلوك حتى في أحلك الظروف وأصعب الأزمات هذه الخنساء -رضي الله عنها- عُرفت بالبكاء والنواح، وإنشاء المراثي الشهيرة في أخيها المتوفَّى إبان جاهليتها، وظلت ترثيه سنوات تقول فيه:
يذكرني طلوع الشمس صخرا *** وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي *** على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي، ولكن *** أعزي النفس عنه بالتأسّي
وما أن لامس الإيمان قلبها، وعرفت مقام الأمومة ودور الأم في التضحية والجهاد في إعلاء البيت المسلم ورفعة مقامه عند الله، وعظت أبناءها الأربعة عندما حضرت معركة القادسية تقول لهم: "إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لابْنُ أبٍ واحد وأم واحدة، ما خنث أباكم، ولا فُضحت أخوالكم". فلما أصبحوا باشروا القتال واحداً بعد واحد حتى قُتلوا، ولما بلغها خبرهم ما زادت على أن قالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".
لَقَد كان من أهداف الإيمان أنْ يصنع الإِنسان ويجعله مَثَلاً صَالحاً محمُود الخصال, شريف الشمائل, حسن السلوك, إن تكلم صَدَقَ، وإنْ وَعَدَ وَفَى بِوَعْده، وإن أؤتُمِنَ في أمْرٍ أَدَّى الأمانَةَ وَلَمْ يَخُنْ، وإنْ رَأى أمراً مُنْكراً غَيَّرهُ بيَدِه, فإِنْ لمْ يَسْتَطعْ فَبِلسانه، فإن لم يَسْتَطعْ فَبِقَلْبه, وإن تَكَلم خفضَ صَوتَه، وَإن مَشَى لَم يَكُن مُخْتَالاً وفخوراً في مشيتِه، وإنْ رأى كَبيراً وَقَّره أو صغيراً عطف أو محتاجاً أعانه.
اللهم زين قلوبنا بالإيمان.
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على نبيه الأمين, وعلى آله وأصحابه والتابعين، وبعد:
عباد الله: فالإيمان أفضل الأعمال عند الله وأزكاها؛ لما رَوى أبو ذر -رضى الله عنه- من سؤاله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: يا رسول الله: أي الأعمال أفضل؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله"(رواه مسلم).
وهو سبب للهداية والسعادة الدنيوية والأخروية، لقوله -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ)[الأنعام: 125].
والإيمان صارف للمؤمن عن المعصية، لقوله -جل وعز-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الأعراف: 201].
الإيمان شَرط لقبول العمل، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزمر: 65]؛ فالإيمان الخَالِص يُبارك الله به العمل، ويتقبل به الدعوات.
أيها الناس: الإيمان هو الحياة والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة؛ فحافظوا على إيمانكم وتعاهدوه، واعملوا على زيادته بالأعمال الصالحة، واحذروا ضياعه والتفريط فيه.
إذا الإيمان ضاع فلا أمانَ *** ولا دنيا لمن لم يحي دينَا
ومَن رَضِيَ الحياة بغير دِين *** فقد جعل الفناء لها قرينَا
تُسانِدُها الكواكب فاستقرَّتْ *** ولولا الجاذبيَّة ما بَقِينَا
وفي التوحيد للْهِمَمِ اتحادٌ *** ولن نصل العلا متفرِّقينَا
عباد الله سلوا الله أن يزين قلوبكم بالإيمان، واعلموا على تحقيقه في الأقوال والأعمال والجنان.
ثم اعلموا أن الله -تعالى- قال قولًا كريمًا تنبيهًا لكم, وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي