تعظيم الله

خالد بن عبدالله الشايع

اقتباس

إن عظمة الله لا يعلمها إلا الله -جل وعلا-، ولكن الله -جل وعلا- بين لنا ما يدل على عظمته بقدر ما تتسع له عقولنا وإلا فإن عظمة الله -تعالى- لا يحيط بها ولا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى-، وقد عرفنا الله -سبحانه وتعالى- بعظمته في قرآنه الكريم من أجل أن نجله ونعظمه ونعبده حق عبادته...

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها الناس: إن لنا ربا عظيما شأنه، جليلا قدره، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11]، كل كمال فينسب إلى الله، وكل نقص ينزه عنه سبحانه وتعالى.

عباد الله: إن شأن الله عظيم، ولا يقدر الله حق قدره إلا من عرف الله بأسمائه وصفاته، ولذا تجد أهل المعاصي هم من أجهل الناس بالله، قال الله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)[النساء: 17]، قال السلف: "كل من عصا الله فهو جاهل".

فكيف تعصي الله وهو في ذلك الكمال والجلال، بل كيف تعصيه وأنت تعلم أنه ينظر إليك، ويعلم خفاياك ونواياك؟

عباد الله: إن هذا ليدعونا للتحدث عن عظمة الله التي تصاغرت في نفوس كثير منا إلا من رحم الله.

إن عظمة الله لا يعلمها إلا الله -جل وعلا-، ولكن الله -جل وعلا- بين لنا ما يدل على عظمته بقدر ما تتسع له عقولنا وإلا فإن عظمة الله -تعالى- لا يحيط بها ولا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى-، وقد عرفنا الله -سبحانه وتعالى- بعظمته في قرآنه الكريم من أجل أن نجله ونعظمه ونعبده حق عبادته، يقول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- فإذا قيل لك: بما عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)[فصلت: 37]، ومن مخلوقاته: السموات السبع والأرضين السبع وما فيهن.

ومن مخلوقاته: ما ذرأه في هذا الكون من البحار والجبال والبراري والأشجار والأنهار، وغير ذلك مما لا تحيط به العقول ولا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى-.

فإذا تأملت في هذا الكون وتدبرته عرفت عظمة خالقه وحكمته وقدرته ورحمته: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ)[يونس: 101].

أولم يتفكروا فيما خلق الله في السموات والأرض، فالله -جل وعلا- أمرنا أن نتفكر وننظر فيما خلق، وأولي الألباب يتفكرون في خلق السموات والأرض ويقولون: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 191].

فعلى العاقل أن يتفكر في خلق السموات والأرض والبر والبحر، بل ويتفكر في خلقه هو: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الذاريات: 21].

وكذلك يتفكر في آيات الله المقروءة في القرآن الكريم ليعرف بذلك عظمة الله -سبحانه وتعالى- الذي تكلم بهذا القرآن وأنزله وجعله كتابا مشتملا على مصالح العباد ماضيا وحاضرا ومستقبلا: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)[الأنعام: 38]، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي هي وحي من الله: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 3-4]، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[ص: 29].

أيها الناس: من أسماء الله -تعالى- الحسنى: "العظيم"، ومن صفاته العلى: صفة العظمة؛ فهو العظيم الذي خضع كل شيء لأمره، ودان لحكمه، والكل تحت سلطانه وقهره، وهو ذو العظمة الذي كل شيء دونه فلا شيء أعظم منه: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)[البقرة: 255].

وكرسيه الذي وسع السموات والأرض ما السموات السبع فيه إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وعظمة العرش بالنسبة للكرسي كعظمة تلك الفلاة على تلك الحلقة، والله -تعالى- مستو على عرشه.

علم ملائكته المقربون عظمته فخافوه وأذعنوا وعظموه وسبحوا، ولم يستنكفوا عن عبادته ولم يستكبروا: (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)[الأنبياء: 19-20].

وهم عليهم السلام ماضون في تنفيذ أمره، ومع ذلك فهم وجلون مشفقون: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)[الأنبياء: 27-28].

معاشر المسلمين: من تأمل في الكون عرف عظمة الله التي لا يمكن إدراكها بالكامل، ولكنه يتعرف على ما يدعوه لتعظيم الله، والخضوع له، والخوف منه، وإجلاله، وتعبده قدر الاستطاعة.

اللهم اجعلنا ممن عرفك حق المعرفة فعظمك حق تعظيمك.

أقول قولي هذا...

الخطبة الثانية:

أما بعد: فيا أيها الناس: إن من تعظيم الله: تعظيم شعائره، وحرماته، واتباع شرعه، كما أراد الله منا، قال جل ذكره: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)[الحج: 30]، وقال: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32]، فالمرء عندما يلبس أحسن ثيابه ليقف بين يدي الله يدل هذا على تعظيمه لله، فأين الذي يصلي بملابس لا يجرؤ أن يقابل بها الناس في المناسبات؟ وما أكثرهم هذه الأيام نراهم في المساجد يصلي بلبس النوم أو البيت أو الرياضة، ولو دعي لمناسبة للبس أحسن ثيابه؟ والله يقول: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31].

فلنعظم الله ولنجله أن نقف بين يديه بملابس لا تليق.

ومن صور تعظيم الله: المحافظة على نظافة المسجد، فلا يرمي شيئا من الأقذار فيه، فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البصاق فيه، بل تغير وجهه وغضب لما رأى نخامة في المسجد فحكها بعود وأمر بطيب ووضع عليها.

أين الذين لا يجلون بيوت الله، فلا ضير عنده أن يرمي بعض القاذورات في المسجد ولو قلت؟ فالبعض يجد على ثوبه شعرة أو خيطا فيزيله ويرمي به على سجاد المسجد، وأهل العلم يقولون: إن المساجد تصان مما تصان منه عين الإنسان، فالواجب أن المسلم إذا رأى قذرا أو شيئا لا يليق بالمسجد أن يحمله خارج المسجد، لينال به الأجر وليعظم الله بتعظيم شعائره ، هو عمل يستحق صاحبه الإشادةَ به، أم مِحْجَن -رضي الله عنها- امرأة سوداء، لم يرد لها في السيرة النبوية تسمية سوى "أم محجن، أو محجنة"، كانت من ضعفة ومساكين أهل المدينة النبوية، ليس لها نسب تعتز به، ولا مال، ولا تفتقد إذا غابت، وكانت تقوم بتنظيف المسجد النبوي من الأذى، قال ابن الأثير: "مِحْجَنَةُ امرأة سوداء، كانت تَقُمُّ المسجد، فتوفِّيَت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

وقال ابن حجر في كتابه: "الإصابة في تمييز الصحابة": "مِحْجَنَةُ: وقيل أم مِحْجَن، امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد، وقع ذكرها في الصّحيح بغير تسمية".

وللنبي -صلى الله عليه وسلم- مع أم محجن -رضي الله عنها- موقف سجلته كتب السيرة النبوية، ففي إحدى الليالي ماتت -رضي الله عنها- فصلى عليها جمعٌ من الصحابة -رضوان الله عليهم-، ودفنوها ولم يخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمرها، فافتقدها النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها، اهتمامًا بها، وإكبارًا وتعظيمًا لشأنها وما كانت تفعله من تنظيفها للمسجد، فأخبره أصحابه بما كان منهم تجاهها، فقال صلى الله عليه وسلم: "دلوني على قبرها"، ثم أتى قبرها حتى وقف عليه وصلَّى عليها، وقد روى مسلم في صحيحه هذا الموقف النبوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنَّ امرأةً سوداءَ كانت تَقُمُّ المسجدَ (أو شابًّا) ففقدها رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فسأل عنها (أو عنه) فقالوا: مات، قال: "أفلا كنتُم آذَنْتُموني؟" قال: فكأنهم صَغَّروا أمرَها (أو أمرَه)، فقال: "دُلُّوني على قبرِها فدَلُّوه" فصلَّى عليها.

الله أكبر! أين الذين يبصقون في المسجد أو يمشي بنعله على الفرش؟ والبعض يقلم أظفاره في المسجد، ويقطع جلده الزائد، وينظف أنفه، وهام جرا مما يدل على ضعف تعظيم الله في القلوب.

أيها المسلمون: إن من تعظيم الله: الوقف على حدوده وعدم انتهاكها بالذنوب والمعاصي.

وإن من تعظيم الله وإجلاله: الاستجابة لأوامره، وإحسان تطبيقها وأدائها، وإن من تعظيم الله: الاستحياء منه، واستشعار أنه مطلع على العبد ويعلم خوافيه، نسمع بمن يسب الدين ويسب الرب، بلا خوف من الله، فأين تعظيمه في قلوب هؤلاء؟ لقد رأيت مقطعا مصورا يبين فيه صغر حجم الكرة الأرضية التي نعيشها، بالنسبة للمجرات السماوية، فاستشعرت معنى قوله تعالى: (أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)[الانفطار: 6].

فلنتعرف على الله بأسمائه وصفاته وأفعاله ليكون ذلك داعيا لنا لتعظيم الله، ونعيش في الحياة بسعادة ومحبة فإن تعظيم الله يدعو لذلك.

أيها المسلمون: استشعروا عظمة ربكم، ولا تكونوا من الغافلين.

اللهم وفقنا لتعظيمك وإجلالك والخوف منك يا رب العالمين...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي