إن كثيراً من الناس يظن أنه نال كمال الرضا أو أكثره، ولكن عند الابتلاء يظهر له كم هو ضعيف في هذا الباب، تراه يُقدم رضا المخلوقين الضعفاء على رضا الخالق القاهر؛ رغبةً في جاه أو مال، أو دفعاً لأذىً مُتَوَهَّمٍ...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها الناس: إن الإيمان بالله -تعالى-، والتزامُ شرعه الحنيف، واتباع سُنة رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- من أعظم النعم التي يمنّ الله -تعالى- بها على من أراد سعادته، ويحرم منها من كتبت عليه الشقاوة.
ومما زادني فخرا وتيها *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن أرسلت أحمد لي نبيا
وإن الرضا بالله -تعالى- ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا؛ هو جوهر السعادة، وعنوان الفلاح، وبه يجد العبد المؤمن حلاوة الإيمان؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً"(رواه مسلم)؛ فللإيمان لذة وطعم حلو يجده من حقَّق هذا الرضا، وكلما امتلأ القلب بهذا الرضا كلما عظمت الحلاوة، وازداد الإيمان.
قال القرطبي -رحمه الله- يوضح حلاوة الإيمان: "هي عبارة عمّا يجده المؤمن المحقق في إيمانه، المطمئن قلبه به؛ من انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله -تعالى-، ومعرفة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومعرفة منَّة الله -تعالى- عليه في أن أنعم عليه بالإسلام، ونظمه في سلك أمة محمد خير الأنام، وحبَّب إليه الإيمان والمؤمنين، وبغَّض إليه الكفر والكافرين، وأنجاه من قبيح أفعالهم، وركاكة أحوالهم, وعند مطالعة هذه المنن، والوقوف على تفاصيل تلك النعم؛ تطير القلوب فرحاً وسروراً، وتمتلئ إشراقاً ونوراً، فيا لها من حلاوة ما ألذها! وحالة ما أشرفها! فإن المؤمن عند تذكُّر تلك النعم والمنن لا يخلو عن إدراك تلك الحلاوة، غير أن المؤمنين في تمكنها ودوامها متفاوتون، وما منهم إلا وله منها شِرْبٌ معلوم، وذلك بحسب ما قُسم لهم من هذه المجاهدة الرياضية، والمنح الربانية".
أيها المؤمنون: إن الرضا بالشيء هو القناعة به؛ فمن رضي بالله -تعالى- رباً لم يطلب غيره، ومن رضي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- رسولاً لم يسلك إلا ما يُوافق شريعته، ومن كان كذلك خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه وذاق طعمه.
والرضا بذلك عام وخاص؛ فالرضا العام: أن لا يتخذ غير الله -تعالى- رباً، ولا غير دين الإسلام ديناً، ولا غير محمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً، وهذا الرضا لا يخلو عنه مسلم؛ إذ لا يصح التدين بدين الإسلام إلا بذلك الرضا.
وأما الرضا الخاص: فهو الذي تكلم فيه أرباب القلوب، وأصحاب السلوك، ويحققه العبد إذا لم يكن في قلبه غير الله -تعالى-، ولم يكن له همّ إلا مرضاته، فيخالف هواه طاعة لله -سبحانه-.
أيها الإخوة: وقد ذكر المحققون أن الرضا أعلى منازل التوكل؛ فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض لله -تعالى- حصل له الرضا ولا بد، فمن رضي عن ربه رضي الله عنه، بل إن رضا العبد عن الله ما هو إلا نتائج رضا الله عنه, قال -سبحانه-: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)[المائدة: 119]؛ ولذا كان الرضا باب الله الأعظم، وفيه جماع الخير؛ كما كتب عمر بن الخطاب لأبي موسى -رضي الله عنهما- يقول: "إن الخير كله في الرضا".
إن من رضي بالله -تعالى- رباً وجد الراحة في الطاعة، واللذة في البعد عن المعصية؛ ومن كان كذلك فلن يجد مشقة في أداء الفرائض، والمحافظة على النوافل، وكثرة التطوع والذكر؛ لأن لذته في ذلك، ولن يعسر عليه ترك المعاصي والمحرمات، والبعد عنها، وإنكار قلبه لها؛ لأنها تفسد طعم الإيمان الذي يجده.
وسبب ذلك ما قام في قلب العبد من كمال الرضا بالله -تعالى- وبدينه وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، وفي حديث آخر: "أرحنا بالصلاة يا بلال"؛ فهو -عليه الصلاة والسلام- أكمل الناس رضا عن الله -تعالى-، ولأجل ذلك كان يستروح بالصلاة، وجعلت قرة عينه فيها، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه من طول القيام، ولا يحس بذلك؛ لما يجد من لذة في مناجاة الرب -جل جلاله-.
ولأهمية هذا الرضا واحتياج المسلم إلى تأكيده وتذكره على الدوام رُبط بالنداء إلى الصلاة المفروضة خمس مرات في اليوم والليلة؛ فشُرِع للمسلم عقب إعلان المؤذن دخول وقت الصلاة أن يقول من جملة ما يقول في الأذكار عقب الأذان: "رضيت بالله، رباً وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً"؛ فمن قال ذلك غُفر له ذنبه كما جاء في صحيح مسلم.
وشرع للمسلم -أيضاً- أن يفتتح صباحه ومساءه بهذا الذكر العظيم؛ فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من عبد يقول حين يمسي وحين يصبح: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، إلا كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة"(الترمذي وابن ماجه).
الله أكبر! ما قيمة هذا الإنسان لولا الإيمان؟! حتى يجعل الخالق البارئ حقّاً عليه لهذا العبد المخلوق؛ لأنه رضي بالله -تعالى- رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً، وهذا الرضا في الدنيا جعل له حقاً عند الله -تعالى- في الآخرة أن يرضيه، وما أعظمها من منزلة ينالها من حقَّق الرضا بذلك!.
عباد الله: إن كثيراً من الناس يظن أنه نال كمال الرضا أو أكثره، ولكن عند الابتلاء يظهر له كم هو ضعيف في هذا الباب، تراه يُقدم رضا المخلوقين الضعفاء على رضا الخالق القاهر؛ رغبةً في جاه أو مال، أو دفعاً لأذىً مُتَوَهَّمٍ، مع أنه يعلم أن النافع الضار هو الله -سبحانه-, وتلك هي طريقة المنافقين التي عابها الله -تعالى- فقال -سبحانه-: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)[التوبة:62]، وما أكثر مَن يقع في ذلك! فيقدم رضا المخلوقين على رضا الخالق؛ خوفاً من سطوتهم، أو رغبة في ثوابهم، نسأل الله العفو والعافية.
فأَقدار الله -تعالى- المختلِفة مهما تعاظمَت أو كانت كبيرةً على نفس المرء ينبغي له أن يستسلم لقضاء مولاه ويرضى به, وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رضِي فله الرِّضا، ومن سخطَ فله السُّخْطُ"(الترمذي), قال أبو الدَّرداء -رضي الله عنه-: "إنَّ الله إذا قضى قضاءً، أحبَّ أن يُرضَى به".
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
أيها المؤمنون: إن الرضا بالله -تعالى- رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً يحقق للعبد حياة طيبة وثمرات مباركة, منها:
رضا الله -سبحانه- عن عبده، قال ابن القيم -رحمه الله-: "رِضاه عن ربِّه -سبحانه- في جميع الحالات يُثمر رِضا ربِّه عنه؛ فإذا رَضِي عنه بالقليل من الرِّزق، رضي ربُّه عنه بالقليلِ من العمَل، وإذا رضِي عنه في جميعِ الحالات واستوَت عنده، وجَدَه أَسرع شيء إلى رِضاه إذا ترضَّاه وتملَّقه".
ولذلك انظرْ للمُخلصيِن مع قِلَّةِ عملهِم, كيف رضي اللهُ سعيهم؛ لأنهمْ رضُوا عنهُ ورضي عنهمْ, بخلافِ المنافقين, فإنَّ الله ردَّ عملهم قليلهُ وكثيرهُ؛ لأنهمِ (كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[محمد: 9], وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ"(الترمذي).
ومن ثمراته: انشراح الصدر وحلاوة الإيمان التي يمتلئ به قلبه، وبما يحصل له من تفريج الكروب، وزوال الهموم، والإمامة في الدين؛ فهذه أمكم هاجر -عليها السلام-، رحل بها إبراهيم -عليه السلام- هي ورضيعها إسماعيل -عليه السلام- إلى مكة المقفرة من الماء والزرع، الخالية من الأحياء، فلما وضعها وولَّى يريد الشام تعلقت به، ونادته من ورائه: "يا إبراهيم! إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيت بالله". وفي رواية قالت: "آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا"(رواه البخاري).
فأكرمها الله -تعالى- على رضاها به أن جعل ابنها إسماعيل -عليه السلام- رسولاً نبياً، وأعظم كرامة نالتها في الدنيا أن جعل من نسلها إمام المرسلين، محمداً -صلى الله عليه وسلم-.
والرضا يثمر الشكر والذي هو من أعلى مقامات الإيمان؛ فإنّ غاية المنازل شكر المولى، ولا يشكر الله من لا يرضى بمواهبه وأحكامه، وصّنعه وتدبيره، وأخذه وعطائه؛ فالشاكر أنعم الناس بالاً، وأحسنهم حالاً.
ومن أعظم ثمراته: القناعة؛ فمنْ ملأ قلبه من الرضا ملأ اللهُ صدرهُ غِنىً وأمْناً وقناعةً, وفرَّغ قلبه لمحبتِه والإنابِة إليه, والتوكُّلِ عليه، ومنْ فاته حظه من الرضا امتلأ قلبُه بضد ذلك, واشتغل عما فيه سعادتُه وفلاحُه.
فالرضا يُفرغُ القلب للهِ, والسخطُ يفرغُ القلب من اللهِ, ولا عيش لساخِطٍ, ولا قرار لناقم؛ فهو في أمر مريجٍ، يرى أنَّ رزقهُ ناقصٌ, وحظهُ باخسٌ, وعطيتهُ زهيدةٌ, ومصائبهُ جمةٌ، فيرى أنه يستحقّ أكْثر منْ هذا, وأرفع وأجلَّ, لكنّ ربه -في نظرِهِ- بخسهُ وحَرَمَه ومنعَهُ وابتلاه, وأضناهُ وأرهَقَه, فكيف يأنسُ؟! وكيف يرتاح؟! وكيف يحيا؟!.
والرضا سببٌ يوجب الجنة للعبد، يقول -تعالى-: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة: 119], وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً، وجبت له الجنة"(رواه مسلم).
فحري بالعبد أن يقف مع نفسه وقفات، ويساءل نفسه ويراجعها عن رضاه عن الله وأقداره وتشريعاته، ورضاه عن الحلال والاكتفاء به، وبغضه للحرام والانتهاء عنه، ومتابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل أحواله، ويرضى بالإسلام عقيدةً وشريعةً ومنهج حياة.
ألا فاتقوا الله ربكم، وارضوا به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً، واثبتوا على ذلك إلى الممات، جعلني الله وإياكم من أهل الثبات.
ثم صلوا وسلموا على الهادي البشير (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
المصدر: الرضا بالله تعالى ربا؛ للشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي