فالكلمة الطيِّبة تُعْجِبُه -صلى الله عليه وسلم-؛ لما فيها من إدخال السرور على النفس، والانبساط والمضيّ قُدُمًا لما يسعى إليه الإنسان، وهذا مما يشجعُ الإنسان ويزيده طمأنينة وإقدامًا وإقبالاً، قال ابن الأثير: "وإنما أحب...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إنَّ أوجبَ الواجباتِ على العباد توحيدِ اللهِ -عز وجل-، ومعرفة ما يخل به من الشِّركِ والخرافاتِ؛ فالتوحيدَ هو الأساسُ في دين الإسلام، وهو الأصلُ الذي خُلقنا لأجله، ودعا إليه جميع الأنبياء والرسل، وقبولُ الأعمالِ متوقفٌ على تحقيقه، وكمالُ تحقيقِهِ من أسبابِ دخول الجنة بلا حسابٍ ولا عذاب.
ولقد كان الناس قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، يردهم كل ناعق، ويصدهم صوت طائر؛ خيالات وخرافات، وأوهام ومنكرات، وقد كان من عادات الجاهلية التي أبطلها الإِسلام وحذَّر منها: التشاؤم.
التطير والتشاؤم اعتقاد فاسد كان موجودًا في الأمم التي سبقت المشركين، قال ابن القيم: "لم يحك الله التطير إلا عن أعداء الرسل"، فقوم صالحٍ -عليه السلام- تشاءموا منه (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ)[النمل:47]، وأصحاب القرية تشاءموا بالمرسلين: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)[يس: 18-19]، وآلُ فرعون تشاءموا بموسى ومن آمن معه، كما أخبر الله -تعالى- عنهم بقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)[الأعراف:131].
والشؤم ضد اليُمْن الذي هو البركة، ويقال رجل مشئوم على قومه؛ أي جرَّ الشؤم عليهم، والتشاؤم سوء ظن بالله -تعالى- بغير سبب محقق، وسمي التشاؤم طيرة؛ لأن أهل الجاهلية كانوا ينفرون الطيور فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا بها فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم، ثم أطلق على كل تشاؤمٍ.
أيها المسلمون: إن الدين الإِسلامي دين تفاؤل وبشر، وانقياد لله واستسلام إليه، وعليه -سبحانه- يتوكل المتوكلون، وإليه يسعى المتقون، ولذا حذَّر الإسلام من التشاؤم وحرَّمه ونهى عنه، وقد ورد النهي والوعيد في التطير، وهو التشاؤم بالشيء بما يقع من المرئيات أو المسموعات في قلوب أهل الشرك والعقائد الضعيفة، الذين لا يتوكلون على الله؛ فنفاه الشرع وأبطله، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر، وإنما هو خواطر وتخمينات لا أصل لها، قال تعالى: (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)[الأعراف:131]؛ فبيَّن الله -سبحانه- في هذه الآية الكريمة أنَّ التَّطير من أعمال المشركين، وأنه مذمومٌ شرعًا، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا: "الطيرة شرك، الطيرة شرك"(رواه أبو داود).
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر"، وورد الوعيد الشديد للمتطيرين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا مَن تطير أو تُطير له"(الطبراني وصححه الألباني).
وجاء في الأثر: أنه مر طائر يصيح فقال رجل: خير خير، فقال ابن عباس -رضي الله عنه- "لا خير ولا شر" أنكر عليه لئلا يعتقد تأثيره، ومن ألفاظ الجاهلية التي يكون عند البعض ويجب تركها قول: خير يا طير.
الزجر والطير والكهان كلهم *** مضللون ودون الغيب أقفالُ
أيها المؤمنون: لقد كان التشاؤم من أعمال أهل الجاهلية التي جاء الإسلام بإزالتها والتحذير منها، ومن صور التشاؤم في الجاهلية ما يلي:
التشاؤم بالأرقام؛ كرقم ثلاثة عشر الذي يتشاءم منه النصارى ظنًّا أن له صلة بحادثة الصلب المزعومة التي نفاها الله -سبحانه- بقوله: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ)[النساء: 157].
ومن ذلك: التشاؤم ببعض الشهور والأيام؛ كالتشاؤم بشهر صفر، فقد كان أهل الجاهلية لا يتزوجون فيه، فأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الاعتقاد وقال: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ"؛ فشهر صفر كبقية الشهور لا أثر له في حكم الله وقضائه، ولا يَحصُل فيه إلاَّ ما قضاه الله وقدَّره؛ فالأزمنةُ لا دخلَ لها فيما يُقدِّرُهُ الله -سبحانه تعالى-.
ومنه: التشاؤم بالأشخاص؛ كقول بعضهم: فلان وجهه نحس، أو التشاؤم برؤية مبتلى كالأعور والأعرج، أو التشاؤم بالألوان كاللون الأسود وأنه علامة الحزن، ومنهم من يتشاءم بحركة جفنه الأيسر فإذا اهتزت جفن عينه اعتقد أن شراً سيصيبه.
ومن التشاؤم: ما يقوم به بعضهم عند فتح المصحف؛ طلبًا للتفاؤل عند سفر أو تجارة أو نحوها؛ فإذا وقع نظره على آية فيها ذكر الجنة تفاءل وأقدم على عمله، وإن وقع نظره على آية فيها ذكر النار تشاءم أو أحجم عن السفر؛ وهذا يشبه عمل أهل الجاهلية الذين كانوا يستقسمون بالأزلام.
ذكر ابن القيم -رحمه الله- في كتابه القيم (مفتاح دار السعادة) أن بعض الولاة خرج في بعض الأيام لبعض مهماته فاستقبله رجل أعور فتطيّر به وأمر به إلى الحبس، فلما رجع من مهمته ولم يلق شراً أمر بإطلاقه، فقال له الأعور: "سألتك بالله ما كان جرمي الذى حبستني لأجله؟"، فقال له الوالي: "لم يكن لك عندنا جرم، ولكن تطيرت بك لما رأيتك!"، فقال: "فما أصبت في يومك برؤيتي؟"، فقال: "لم ألق إلا خيراً"، فقال: أيها الأمير، أنا خرجت من منزلي فرأيتك فلقيت في يومي الشر والحبس، وأنت رأيتني فلقيت في يومك الخير والسرور، فمن أشأمنا والطيرة بمن كانت؟"، فاستحيا منه الوالي ووصله بالعطايا".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود: 88].
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، أما بعد:
عباد الله: لما حذر الإسلام من التشاؤم والطيرة، جاءنا بالعلاج؛ حتى يكون المسلم مطمئن القلب، ساكن البال، معتمدًا على ربه؛ فمن العلاج:
الثقة بالله -تعالى- وصدق التوكل عليه: واطراح الوساوس والأوهام، وقطع دابرها واجتثاث أصولها، وعدم الالتفاف إليها بالكلية، والمضي في الشأن المقصود بعزم وقوة؛ ففي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله كنا نتطير قال: "ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم".
وفي سنن أبي داود وسنن الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن يذهبه الله بالتوكل"، قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله -عز وجل-، ولا تسئ الظن بالله".
ومن العلاج: الفأل وهي الكلمة الحسنة يسمعها الإنسان يستبشر بها، والفأل مندوب ومحبوب، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعجبه مثل هذا؛ ففي الحديث عن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل". قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة"(أخرجه البخاري ومسلم).
وقال- النَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ؛ الكلمة الحسنة"(صحيح البخاري)؛ فالكلمة الطيِّبة تُعْجِبُه -صلى الله عليه وسلم-؛ لما فيها من إدخال السرور على النفس، والانبساط والمضيّ قُدُمًا لما يسعى إليه الإنسان، وهذا مما يشجعُ الإنسان ويزيده طمأنينة وإقدامًا وإقبالاً، قال ابن الأثير: "وإنما أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- الفأل؛ لأن الناس إذا أمَّلوا فائدة من الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير، وإن لم يدركوا ما أملوا فقد أصابوا في الرجاء من الله وطلب ما عنده، وفي الرجاء لهم خير معجَّل، فأما الطيرة، فإن فيها سوء الظن، وقطع الأرجاء، وتوقع البلاء، وقنوط النفس من الخير، وذلك مذموم بين العقلاء، منهي عنه من جهة الشرع".
ومن العلاج: الإيمان بالقضاء والقدر؛ فإنه لا يحصل شيء في الكون صغير أو كبير خير أو شر إلا بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته وإرادته، فرجع الأمر كله إلى الله وحده لا شريك، فوجب أن لا تتعلق القلوب خوفًا ورجاءً إلا به، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف"(الترمذي وصححه الألباني).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ردَّته الطيرة من حاجة فقد أشرك"، قالوا: يا رسول الله، ما كفارة تلك؟ قال: "أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك"(أخرجه أحمد وصححه الألباني).
ومن العلاج: استخارة الخالق، فإذا هَمَّ المرء بأمر دنيوي؛ كسفر، أو نكاح، أو وظيفة، أو تجارة، فليصلِّ صلاة الاستخارة، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن"، يقول: "إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسمي حاجته- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال عاجل أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي؛ ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال عاجله وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به"(رواه البخاري).
أيها المؤمنون: الطيرة لا تضر إلا المتطيّر، والشؤم يرجع على صاحبه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا طِيَرَةَ والطَّيَرَةُ على من تَطَيَّر". (صحيح ابن حبان وحسنه الألباني).
فالتشاؤم يُقعد عن العمل، ويُصيبُ بالإحباط واليأس، فيظل صاحبه أسير الأوهام والشكوك والوساوس والظنون الفاسدة، ويفتح بابًا للدجالين والكهان والمنجمين، ومن استعان بهم في أمر يريده وقع في الشرك، ولن يجني إلا ما كتب الله -تعالى- له.
فاتقوا الله -تعالى- ووحدوه، واحذروا الشرك واجتنبوه، وإياكم والاعتقادات الفاسدة والخرافات وعوائد أهل الجاهلية.
وصلوا وسلموا على السراج المنير والبشير النذير؛ حيث أمركم الله فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
المصدر: التشاؤم؛ للشيخ عبد الله بن ناصر الزاحم
ما جاء في التطير؛ للشيخ عبد الملك بن محمد القاسم
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي