احترام الآخرين

هلال الهاجري
عناصر الخطبة
  1. قصة معاوية مع وائل بن حجر .
  2. احتقار الآخرين ليس من الإسلام .
  3. كمال أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وثناء القرآن عليه .
  4. التعامل الحسن يدل على كمال العقل .
  5. حث الإسلام على حسن التَّعامل .
  6. العفو من أخلاق العظماء .

اقتباس

الرَّجل العاقلُ يوازن في التَّعاملِ بينَ مشاعرِه، ولا يأمن الزَّمانَ وتَقلُّباتِ أيامِه ومخاطرِه، فإذا أحببتَ فأَّحببْ من يستحقُّ الحبَّ بالمقدارِ الذي ينبغي به أن يُحبَّ، وإذا أبغضتَ فأبغضْ من يستحقُّ البُغضَ بالمقدارِ الذي ينبغي بِه أن يُبغضَ، دونَ غلوٍّ ولا تكلُّفٍ ولا مُبالغةٍ...

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ العزيزِ الجبارِ، القويِ القهارِ، مُكورِ النَّهارِ على الليلِ، ومُكورِ الليلِ على النَّهارِ، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه على فضلِه وخيرِه المدرارِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، يُعزُّ من يَشاءُ، ويُذلُّ من يشاءُ، ويخلقُ ما يشاءُ ويختارُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه المصطفى المختارَ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه الأطهارِ، وصحابتِه الأخيارِ، وسلمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ القَرارِ.

أما بعد: عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ وارعوا حُرماتِ ربِّكم، وقفوا عندَ حدودِه، وأدُّوا حقوقَ خلقِه قبل أن لا يكونَ درهمٌ ولا دينارٌ، وإنما هي الحسناتُ والسيئاتُ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7-8].

جلسَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يوماً بينَ أصحابِه، فقالَ لهم: "يأتيكم بقيةُ أبناءِ الملوكِ"، فَقدمَ عليهِ الصحابيُّ الجليلُ وائلُ بنُ حِجرٍ الحَضرميُّ -رضيَ اللهُ عنه- سَليلُ ملوكِ اليمنِ مُعلنًا إسلامَه.

فلما أتى وائلٌ رحَّبَ به النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وأَدناه، ثم أَعطاهُ أرضًا نَظيرَ ما تَركَ خَلفَه من المُلكِ والزَّعامةِ، وأَرسلَ معه مُعاويةَ بنَ أبي سفيانٍ -رضيَ اللهُ عنهما- ليَدُّلَه على مكانِها، وكانَ معاويةُ وقتَها من شدةِ فقرِه لا ينتعلُ حذاءً، فقالَ معاويةُ لوائلٍ: أَردفني على النَّاقةِ خَلفَك؟ فَقالَ وائلٌ: ليسَ شُحًّا بالنَّاقةِ، ولكنَّكَ لستَ رَديفَ الملوكِ، قالَ معاويةُ: إذن أعطني نعلَك، فقالَ له وائلٌ: ليسَ شُحًّا بالنَّعلِ، ولكنَّكَ لستَ ممن ينتعلُ أحذيةَ الملوكِ، ولكن امشِ في ظِلِّ النَّاقةِ.

ثُمَّ ما لَبثَ أن دَارَ الزَّمانُ دورتَه، ووَلَّى الفاروقُ -رضيَ اللهُ عنه- معاويةَ على الشامِ، ثم أبقاهُ عثمانُ -رضيَ اللهُ عنه-، ثم آلتْ خِلافةُ المسلمينَ بعد ذلك إلى معاويةَ -رضيَ اللهُ عنه-، فَجاءَ وائلُ بنُ حجرٍ -رضيَ اللهُ عنه- إلى الشَّامِ وقد جَاوزَ الثَّمانينَ من عُمرِه، ودخلَ على معاويةَ وكانَ جَالسًا على كُرسي المُلْكِ، فنَزلَ وأجلسَ وائلًا مكانَه، ثم ذَكَّره بالذي كانَ بينهما فيما مَضى، وأَمرَ له بمالٍ، قالَ وائلٌ -رضيَ اللهُ عنه- في المالِ: أَعطِه من هو أحقُّ به مِني، وقالَ في الموقفِ القَديمِ: واللهِ، وَددتُ بعدما رَأيتُ من حلمِك، لو رَجعَ بنا الزمانُ لأحملنَّكَ يَومَها بين يديَّ.

وهكذا الأيامُ تدورُ، والزَّمانُ يتبدَّلُ، والأحوالُ تتغيَّرُ.

وائلُ بنُ حجرٍ -رضيَ اللهُ عنه- كانَ حديثَ الإسلامِ، وتعاملَ مع معاويةَ -رضيَ اللهُ عنه- بما كانَ يتعاملُ به الملوكُ عادةً مع النَّاسِ، ثُمَّ نَدِمَ على موقفِه لا لأجلِ حُطامِ الدُّنيا، فهو لم يقبلْ عطيةَ معاويةَ، وإنما نَدمَ بعدَ إن استقرَّ الإيمانُ في قلبِه، وعلمَ أنَّ القاعدةَ الرَّبانيةَ، وميزانَ الإنسانيةَ، في التَّعاملِ مع الآخرينَ هو في قولِه تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13].

أيُّها الأحبَّةُ: ليسَ من الدِّينِ احتقارُ الآخرينَ، والتَّكبُّرُ عليهم، فكتابُ اللهِ -تعالى- مليء بالحثِّ على كريمِ الأخلاقِ، وحُسنِ الآدابِ، واقرأَ قولَه تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لقمان: 18-19].

ولقد مدحَ اللهُ -تعالى- نبيَّه -صلى اللهُ عليه وسلمَ- في القرآنِ بأخلاقِه العظيمةِ، فقالَ سُبحانَه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4]، ومع مكانتِه العاليةِ، ومنزلتِه السَّاميةِ، لم نسمعْ في سيرتِه أنَّه احتقرَّ أو أساءَ إلى أحدٍ، وعندما أعرضَ مرَّةً عن ابنِ أمِّ مكتومٍ -رضيَ اللهُ عنه- لا لشيءٍ إلا لانشغالِه في دعوةِ سادةِ قُريشٍ طَمعاً في إسلامِهم، جاءَه العِتابُ السَّماويُّ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)[عبس: 1-4].

وليسَ من العقلِ: إساءةُ المعاملةِ مع الآخرينَ واحتقارُهم والتَّعالي عليهم، فالصَّغيرُ قد يطولُ به الزَّمانُ فيكبرُ، والفقيرُ قد يُحالفُه الحظُّ فيغتني، والمرؤوسُ قد يجتهدُ في عملِه فيَرأَسُ، وذلكَ الذي لم تحترمْه قد يكونُ مُديراً، وذلكَ الذي احتقرتَه قد يُصبحُ وزيراً، فيأتي اليومَ الذي تحتاجُ فيه إليه، وقد تُجبرُكَ الظُّروفُ فتشتكي إليه، وقد يدورُ الزَّمانُ فتقفُ بينَ يديهِ، والأيامُ حُبلى، وكما قالَ القائلُ:

الليالي من الزمانِ حُبالى *** مُثْقَلاتٍ يَلدْنَ كلَّ عَجيبِ

فإذا لم يمنعْكَ دِينٌ عن حُسنِ المُعاملةِ، فلتمنعْكَ دُنيا دوَّارةٌ لا ينفعُ بعدَها المجاملةُ، فما أقبحَ أن يتلَّونَ الإنسانُ في معاملتِه مع النَّاسِ، بحسبِ المكانةِ والمنصبِ والمالِ والأجناسِ، فتجده اليومَ جافياً غليظاً مُتكبِّراً يحتقرُ الضُّعفاءَ، وغداً بشوشاً سَمحاً يحترمُهم بعدَ أن أصبحوا أقوياءَ.

وَلاَ خَيْرَ فِي وِدِّ امْرِئٍ مُتَلَوّنٍ *** إِذَا الريحُ مَالَتْ مَالَ حَيْثُ تَمِيلُ

فالرَّجلُ العاقلُ يوازنُ في التَّعاملِ بينَ مشاعرِه، ولا يأمن الزَّمانَ وتَقلُّباتِ أيامِه ومخاطرِه، فإذا أحببتَ فأَّحببْ من يستحقُّ الحبَّ بالمقدارِ الذي ينبغي به أن يُحبَّ، وإذا أبغضتَ فأبغضْ من يستحقُّ البُغضَ بالمقدارِ الذي ينبغي بِه أن يُبغضَ، دونَ غلوٍّ ولا تكلُّفٍ ولا مُبالغةٍ؛ كما قَالَ عليُّ بنُ أبي طَالبٍ -رضيَ اللهُ عنه- لابنِ الكَوَّاءِ: "هل تَدْرِي ما قال الأولُ؟ أَحْبِبْ حَبيبَكَ هَوْنًا ما، عَسَى أنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يومًا ما، وأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا ما، عَسَى أنْ يَكُونَ حَبيبَكَ يومًا ما".

أيُّها الأحبَّةُ: لقد جاءَ الإسلامُ بحُسنِ التَّعاملِ مع الآخرينَ وعدمِ احتقارِهم، وهكذا كانَ رَسولُنا -صلى اللهُ عليه وسلمَ- هيِّناً ليِّناً طيِّباً، بسَّاماً متواضعاً رقيقَ القلبِ، يعفو ويستغفرُ ويُشاورُ؛ كما أخبرَ اللهُ -تعالى- عَنه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران: 159].

وأخبرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن أخلاقِ المؤمنِ، فقالَ: "الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"، فهو يُحَبُّ ويُحِبُّ، ويُذكرُ بالخيرِ مِن كلِّ من عَرفَه وتعاملَ معَه وصاحبَه، وذلكَ لحُسنِ أَخلاقِه، وسُهولةِ طِباعِه، ولِينِ جَانبِه.

مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ *** لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ

أقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروهُ إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وإخوانِه، وسلمَ تَسليماً كثيرًا.

أما بعدُ: وأما أنتَ يا مَن أُسيءَ إليكَ ثُمَّ قَدَرتَ، فتذكَّرْ قولَه تعالى: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[التغابن: 14]، وقولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا".

ذكرَ ابنُ رَجبٍ في ذَيلِ طَبقاتِ الحنابلةِ: أنَّ رَجلاً قَدمَ إلى الوزيرِ ابنِ هُبيرةَ -رحمَه اللهُ- ومعه آخرُ ادَّعى عليه أنَّه قتَل أَخاهُ، فقالَ له الوزيرُ: أقتلتَه؟، قالَ: نعم؛ جرَى بيني وبينه كلامٌ فقتلتُه، فقالَ الخصمُ: سلِّمْه إلينا حتى نقتلَه فقد أقرَّ بالقتلِ، فقالَ الوزيرُ: أَطلقوه ولا تَقتلوه، قالوا: كيفَ ذلك، وقد قتَلَ أخانا؟ قال: فتبيعُونِيهِ؟ فاشتراه منهم بسِتمائةِ دينارٍ، وسلَّمَ الذهبَ إليهم وذهبوا، وأعطى الوزيرُ القاتلَ خمسينَ دينارًا، فسألوا الوزيرَ: لقد أحسنتَ إلى هذا، وعملتَ معه أمرًا عظيمًا، وبالغتَ في الإحسانِ إليهِ، فقالَ الوزيرُ: منكم أحدٌ يعلمُ أنَّ عيني اليُمنى لا أُبصرُ بها شيئًا؟ فقلنا: مَعاذَ اللهِ، فقالَ: بلى واللهِ، أتَدْرونَ ما سببُ ذلكَ؟ قلنا: لا، قالَ: هذا الذي خلَّصتُه مِن القتلِ جاءَ إليَّ، ومعي كتابٌ في الفقهِ أقرأُ فيه، ومعَه سلَّةُ فاكهةٍ، فقالَ: احملْ هذه السلَّةَ، فقلتُ له: ما هذا شُغلي، فاطلبْ غَيري، فشاكَلَني ولكَمَني، فقَلَعَ عَيني، ومضَى، ولم أرَه بعدَ ذلك إلى يومي هذا، فذكرتُ ما صنعَ بي، فأردتُ أنْ أقابلَ إساءتَه إليَّ بالإحسانِ مع القُدْرةِ.

وهكذا تكونُ أخلاقُ العُظماءِ.

فاللهمَّ أعنَّا بمنِّك وكَرَمِكَ على أحسنِ الأقوالِ والأعمالِ والأخلاقِ لا يقدرُ على ذلكَ إلا أنتَ.

اللهمَّ اهدنا لِمَا تُحبُّ وتَرضَى، وزيِّنا بِزِينَةِ الإيمانِ والتَّقوى، واجعلنا هداةً مُهتَدِينَ غَيرَ ضَالِينَ ولا مُضلينَ.

اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمِّر أعداءَ الدينِ، واجعل بلدَنا آمنا مُطمئنِّاً وسائِرَ بلادَ المُسلمينَ.

اللهم آمنا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، وَفِّقْ إخوانَنا المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، واحَفَظْ عليهم دينَهم ودماءَهم، وهيئ لهم من أمرِهم رَشَدا.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي