إن الطعن في صحيح البخاري هو طعن في السنة كلها، بل في الدين لأنه أصح كتاب في السُّنَّة، ولهذا يحاول أعداء الدِّين النَّيْل منه، وهيهات هيهات، فقد تكفَّل الله بحفظه.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70 – 71].
أما بعد فيا أيها الناس: إن الله -سبحانه- جعل أمتنا خاتمة الأمم، وديننا صالحًا لكل زمان ومكان، ولهذا تكفّل بحفظه إلى قيام الساعة، ولا يُحفظ الدين إلا بحفظ القرآن والسنة، لأنهما هما الدين وعليهما يرتكز، ولا يمكن عبادة الله بدونهما، قال -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9]؛ والذكر هو القرآن، ولا حفظ للقرآن بدون حفظ السُّنّة.
وكنا تكلمنا في الخطبة الماضية عن حجية السنة ولزوم العمل بها، ردًّا على مَن ادَّعى كفاية القرآن، وأخذ يشكك في السنة، واليوم -بإذن الله- نترجم لعَلَم من أعلام المسلمين، له على المسلمين مِنَّة عظيمة، وهو من حُفَّاظ السُّنة والذابين عنها، ولهذا ذبَّ الله عن عرضه، فلا يتكلم فيه أحد إلا سقط وهلك وافتضح، وقيَّض الله مَن يدافع عنه.
لا شك أنكم عرفتموه؛ إنه الإمام البخاري -رحمه الله-، عرفه الكبير والصغير، والذكر والأنثى، نمرّ سريعًا على شيء من سيرته، وأهمية كتابه الصحيح؛ وذلك دفاعًا عنه لما تنقَّصه بعض المتعالمين.
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي أبو عبد الله البخاري الأوزبكي من مدينة بخارى في إقليم خراسان: أوزبكستان الحالية، وهو الحافظ إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدّم على سائر أضرابه وأقرانه، وكتابه الجامع الصحيح أجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه.
وُلِدَ الإمام البخاري في سنة أربع وتسعين ومائة 194هـ، ومات أبوه وهو صغير، فنشأ في حِجْر أمه، فتوجَّه إلى حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ستِّ عشرة سنة، حتى قيل: إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديثاً سندًا ومتنًا.
وكان أكثر من تأثر به البخاري وتعلم منه هو شيخه الإمام علي بن المديني -رحمه الله- وروى عنه خلائق وأمم كثيرون. وقد روى الخطيب البغدادي عن الفربري أنه قال: "سمع الصحيح من البخاري معي نحوٌ من سبعين ألفًا لم يبقَ منهم أحد غيري". وقد رُوِيَ صحيح البخاري من طريق الفربري كما هي رواية الناس اليوم.
تمتع الإمام البخاري بصفات عذبة وشمائل كريمة، لا تتوافر إلا في العلماء المخلصين، وهذه الصفات التي وهبه الله هي التي صنعت الإمام البخاري، منها: الإقبال على العلم: قام البخاري بأداء فريضة الحج وعمره ثماني عشرة سنة فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرُحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ.
وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريبًا من عشرين مرة في الليلة.
يقول البخاري: "كنت أستغل كل شهر خمس مائة درهم، فأنفقت كل ذلك في طلب العلم". فقلت: كم بين من ينفق على هذا الوجه وبين من كان خلوًا من المال فجمع وكسب بالعلم حتى اجتمع له. فقال أبو عبد الله: "ما عند الله خيرٌ وأبقى". كان يتصدق بالكثير، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين، وأقل وأكثر، من غير أن يشعر بذلك أحد، وكان لا يفارقه كيسه.
وكان الحسين بن محمد السمرقندي يقول: "كان محمد بن إسماعيل مخصوصًا بثلاث خصالٍ مع ما كان فيه من الخصال المحمودة؛ كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم".
وهَب الله الإمام البخاري منذ طفولته قوَّة في الذكاء والحفظ من خلال ذاكرة قوية تحدى بها أقوى الاختبارات التي تعرض لها في عدة مواقف. يقول البخاري: "أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتّاب"، وكان عمره حينذاك عشر سنين.
ولما بلغ البخاري ست عشرة سنة كان قد حفظ كُتبَ ابنِ المبارك ووكيع. قال البخاري عن نفسه: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح". فقد رُويَ أن أهل المعرفة من البصريين يَعدُون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يُغلّبوه على نفسه ويُجلسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوف، أكثرهم ممن يكتب عنه، وكان شابًّا لم تنبت لحيته.
ومن مقولاته السائرة: "لا أعلم شيئًا يُحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة"، وقال: "ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم، وحتى نظرت في عامة كتب الرأي، وحتى دخلت البصرة خمس مرات أو نحوها، فما تركت بها حديثًا صحيحًا إلا كتبته إلا ما لم يظهر لي".
وكانت وفاته في سمرقند ليلة عيد الفطر في عام ستة وخمسين ومائتين عند صلاة العشاء وصُلِّي عليه يوم العيد بعد الظهر ودُفِنَ، وكان عمره آنذاك اثنين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا.
رحم الله الإمام البخاري وأجزل مثوبته، وجزاه عن الأمة خيرًا، وجمعنا به في دار كرامته. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
أما بعد: فيا أيها الناس: بعد أن ترجمنا للإمام البخاري -رحمه الله-، نمر سريعًا بالتعريف بكتابه الصحيح الذي حاول أهل الأهواء أن يُسقطوه فسقطوا، وقد ذكر أهل الحديث أن الباعث للبخاري لتصنيف الصحيح أنه كان يوماً في مجلس عند إسحاق بن راهويه فقال إسحاق: "لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-"؛ فوقع هذا القول في قلب البخاري، فأخذ في جمع الكتاب.
وقال البخاري أنه قال: "رأيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذبّ عنه، فسألت بعض المعبرين فقال: إنك تذبّ عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الصحيح".
فرجّح بعض العلماء أن طلب إسحاق بن راهويه كان أولاً، ثم جاءه المنام، فأكّد ذلك عزم البخاري على تصنيف الكتاب.
اشتغل البخاري في تصنيف الكتاب وجمعه وترتيبه وتنقيحه مدةً طويلة، ذكر البخاري أنها بلغت ستة عشر عامًا، وذلك خلال رحلاته العلمية الواسعة إلى الأقاليم الإسلامية، فكان يرحل لطلب الحديث، ثم يعود لإكمال ما بدأ من التصنيف ممّا سمعه وصح لديه وتجمع عنده من الحديث الصحيح.
وقد ابتدأ تصنيفه في المسجد الحرام، قال البخاري: "صنفت كتابي هذا في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله -تعالى- وصليت ركعتين وتيقنت صحته"، وجمع تراجمه في المسجد النبوي، قال أبو أحمد بن عدي الجرجاني: "سمعت عبد القدوس بن همام يقول: سمعت عدّة من المشايخ يقولون: حوّل محمد بن إسماعيل البخاري تراجم جامعه بين قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين". وأكمله وبيَّضه في بخارى.
وقد حَرِص البخاري على الدقّة والتثبّت في إخراج الكتاب فأعاد النظر فيه عدَّة مرات وتعاهده بالتهذيب والتنقيح، ولم يكد يتم تصنيفه حتى عرضه على شيوخه وأساتذته ليعرف رأيهم فيه، قال العقيلي: "لما ألّف البخاري كتابه الصحيح عرضه على ابن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم فاستحسنوه، وكلهم قال: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث"، قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة".
وعدد أحاديث أربعة آلاف حديث بدون المكرر، ولم يدخل فيه إلا حديثًا صحيحًا، ولم يقصد الاستيعاب؛ فقد ترك كثيرًا من الأحاديث الصحيحة مما هي ليست على شرطه.
عباد الله: إن الطعن في صحيح البخاري هو طعن في السنة كلها، بل في الدين لأنه أصح كتاب في السُّنَّة، ولهذا يحاول أعداء الدِّين النَّيْل منه، وهيهات هيهات، فقد تكفَّل الله بحفظه.
اللهم ارفع راية السنة خفَّاقة في بلاد المسلمين ونكِّس راية البدعة يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي