الاستغاثة والاستعاذة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. حقيقة الاستغاثة وأقسامها .
  2. بطلان دعاء غير الله والاستغاثة بغيره .
  3. حقيقة الاستعاذة .
  4. بطلان الاستعاذة بغير الله .

اقتباس

وأما الاستغاثة بالبشر فتنقسم من حيث الحل والحرمة إلى قسمين: الأول: استغاثة محرمة؛ كالاستغاثة بميت، أو غائب، أو حي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا شرك أكبر؛ لأن الاستغاثة عبادة لا تصرف إلا لله، والمستغيث...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

أيها المسلمون: يعيش الإنسان في هذه الدنيا تطرقه النوازل، وتتكرر عليه الابتلاءات، فقد جُبِل على التعرض لكل ذلك، وجعل الله الحياة مليئة بتلك المحن والشدائد وكتبها على سائر الخلق، قال الله تعالى: (وَلنبْلُوَّنَّكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوْعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)[البقرة:155]، فتلك سنة الله -تعالى- أجراها على خلقة، لا تتغير ولا تتبدل، قال عز وجل: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيْلاً، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيْلاً)[فاطر:43].

والإنسان بطبيعته ضعيف؛ كما قال -تعالى-: (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيْفَاً)[النساء: 28]، لا يملك لنفسه حولا ولا قوة، ويحتاج إلى ركن يأوي إليه، وملجأ يلجأ إليه، وصاحب القدرة المطلقة، والذي بيده الأمر هو الله -سبحانه وتعالى-؛ فهو كاشف الكرب، ومفرج الهم، وهو الذي يَلجأ الخلق إليه، ويستغيثون به؛ لأن بيده مقاليد الأمور، وعنده خزائن السماوات والأرض، وإذا أراد أمرا قضاه، قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُوْلَ لَه ُكُنْ فَيَكُوْنُ)[النحل:40].

فالله -سبحانه- هو المستحق أن يُلتجأ إليه، وأن يُستعان به، وأن يستغاث به، دون سواه، ومن وقع فيما يخالف ذلك فقد أعطى غير الله من المخلوقات ما لا يجوز أن يكون إلا لله -تعالى-، وذلك من أعظم الشرك؛ لأنه اعتماد على غير الله، ولجوء إلى من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، قال الله: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورً)[الفرقان:3].

أيها الناس: والاستغاثة المذكورة فيما سبق -رحمكم الله-: هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، وهي نوع من الاعتماد على المستغاث به، وتكون من مكروب يطلب كشف كربه، فلزم ألا تكون الاستغاثة بهذا الوصف بالله تعالى وحده القادر على كل شيء، كما استغاث النبي -صلى الله عليه وسلم- بربه يوم بدر لما نظر إلى كثرة المشركين فأمده الله بالنصر، قال -تعالى-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)[الأنفال: 9].

وأما الاستغاثة بالبشر فتنقسم من حيث الحل والحرمة إلى قسمين:

الأول: استغاثة محرمة؛ كالاستغاثة بميت، أو غائب، أو حي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا شرك أكبر؛ لأن الاستغاثة عبادة لا تصرف إلا لله، والمستغيث ساوى بين الخالق والمخلوق في الاستغاثة والاستعانة به، وما يُصيب العبد من فقر، أو مرض، أو غير ذلك، من أنواع الضر لا يكشفه إلا الله وحده، وكذلك إن أصابه الله بخير فلا راد لفضله، قال تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[يونس: 107].

وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"(الترمذي)؛ فهذا النوع من الاستغاثة لا يكون إلا بالله تعالى القادر على كل شيء -سبحانه-، ولا تجوز بغيره، من الأحياء أو الأموات.

الثاني: استغاثة جائزة، كالاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه، فهو من اتخاذ الأسباب، كما في قوله تعالى: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)[القصص: 15].

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "وإذا طلبتَ من أحد الغوث وهو قادر عليه، فإنه يجب عليك تصحيحًا لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة؛ لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد".

فالاستغاثة هنا إذاً لا تتعارض مع توحيد الله، والتوكل عليه، والاعتماد عليه في سائر شؤون العبد الدنيوية والأخروية؛ لأن المستغيث لم يتخذ المخلوق سوى سببا لقضاء أمر تحقق بأمر الله -تعالى- وتوفيقه.

عباد الله: إن الله -سبحانه- هو المستحق للعبادة، ومن العبادة الاستغاثة، والاستغاثة -كما سبق- طلب ودعاء؛ فمن دعا غير الله فهو أضل الضالين، قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)[الأحقاف: 5، 6].

وقد بينت هاتان الآيتان بطلان دعاء غير الله والاستغاثة بغيره، وجمعت أسباب ضلالهم وهي:

الأول: أن المدعو لا يستجيب دعاء من دعاه، ولو استمر في دعائه إلى يوم القيامة، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ)[الأحقاف: 5]؛ فصارت دعوته له غاية الضلال والخسران.

الثاني: أنهم غافلون عن دعائهم؛ فلا يشعر المدعو بدعاء من دعاه لأنهم: إما أموات، أو جماد، أو ملائكة مشغولون بما خلقوا له، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فكيف يملكون ذلك لغيرهم؟! قال -تعالى-: (وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)[الأحقاف:5].

الثالث: أنهم يكونون لهم أعداء؛ فتلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي، وعداوته له يوم القيامة، قال -تعالى-: (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء)[الأحقاف:6].

الرابع: أنهم يكفرون بعبادتهم؛ فيتبرأ المعبود من العابد حتى لو رضي بعبادته له في الدنيا، قال -تعالى-: (وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)[الأحقاف:3].

أيها الناس: ينبغي للمسلم أن يعلم أن لا منجا ولا ملجأ له من الله إلا إليه، قال تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)[النمل:62].

فالجئوا إلى الله -عباد الله- وتوبوا إليه، واستغيثوا به وتوكلوا عليه، ولا تستغيثوا بأحد من خلقه فيما لا يقدر عليه إلا الله، وتوكلوا عليه، فمن توكل على الله كفاه.

اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصينا إلى البر والتقوى.

أقول ما سمعتم واستغفروا الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

عباد الله: وإن من الأمور التي يحتاج المسلم إلى فهمها والعمل بها، والتزامها سائر الأحيان؛ الاستعاذة بالله -تعالى-، وهي طلب الحفظ والعون منه على كل مؤذ وباغ، وصرف كل الشرور وأنواع البلاء، قال ابن القيم -رحمه الله-: "اعلم أن لفظ "عاذ" وما تصرف منها يدل على التحرز والتحصن والنجاة، وحقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه".

وفي الاستعاذة تعظيم لله -سبحانه-؛ لأن المستعيذ يشعر بالخوف، فيلجأ إلى المستعاذ به؛ حتى يقيه ويحفظه، وهذا تعظيم لله -تعالى-، والتعظيم عبادة له وحده.

وقد أمر الله -سبحانه- عباده في كتابه الكريم بالاستعاذة به وحده، من كل مؤذ ومضر، قال الله- تعالى- : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ)[الفلق:1-2]، وقال -سبحانه-: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)[الناس:1]؛ فالاستعاذة عبادة لا تكون إلا به -سبحانه-، والاستعاذة بغيره -عز وجل- شرك أكبر ينافي التوحيد، ومن ذلك ما يقع فيه بعض الناس من أعمال تتضمن الاستعاذة بغير الله، كالذي يأتي إلى الأموات من الأنبياء، أو الصالحين، أو غيرهم، ويطلب منهم أن يحموه ويحفظوه من الآفات والشرور، ولو لم ينطق بكلمة: "أعوذ"، ففعله أبلغ من كلامه.

ولعظمها أمر الله عباده بالاستعاذة به لا بغيره في مواضع من كتابه منها ما سبق ذكره، ومنها قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[النحل: 98]، وقوله -سبحانه-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[فصلت: 36].

وتواترت السنة عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم- بذكر الاستعاذة والأمر بها؛ فمن ذلك ما رواه مسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال"، وفي البخاري عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْهُ"، وفي رواية: "فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ".

 

واستعاذة المخلوق بغيره من المخلوقات -ممن هو من جنسه أو غيره على السواء- باطل ومنكر، لا يجني من وراءه المستعيذ إلا خلاف ما يرجو، بل يجلب على نفسه بفعله ذلك، ما يضره ولا ينفعه، وقد ذكر الله -تعالى- ما كان عليه أهل الجاهلية من الاستعاذة بالمخلوق، فقال: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)[الجن: 6]؛ فأخبر -سبحانه- أن استعاذتهم بهم زادتهم رهقًا وهو الطغيان، وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا نزل واديًا أو مكانًا موحشًا وخاف على نفسه، قال: "أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه"، فلما رأت الجن أن الإِنس يعوذون بهم خوفًا منهم، ازْدَادُوا بِهَذَا التَّعَوُّذِ طُغْيَانًا، وازداد الإنس خوفًا وذعرًا، فذمهم الله بهذه الآية، وأخبر أنهم يزيدونهم رهقًا نقيض قصدهم.

وهذا من الجزاء العاجل لمن خالف أمر الله، واستعان بغير الله بفعل ما لا يكون إلا من أمر الله، الذي استأثر به لنفسه -سبحانه وتعالى- وجعله من العبادات، التي لا يجوز توجيهها إلا له –سبحانه-، دون سواه من الإنس والجن وغيرهم من المخلوقات.

اللهم اجعلنا من استعان بك فأعنته، واستغاث بك فأغثته، واستعاذ بك فأعذته، وتوكل عليك فكفيته.

وصلوا وسلموا على خير البرية، -عليه الصلاة والسلام-، فقد أمركم الله بذلك فقال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].

المصدر: من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره؛ للشيخ عبد الملك بن محمد القاسم


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي