عنيت الشريعة الإسلامية بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وما ذاك إلا لأهميتها من جهة، ولحساسيتها من جهة أخرى، فإن بعض النفوس قد لا تصبر وخاصة عندما ترى أثرة واستئثارا بحظوظ الدنيا، وقد لا تصبر كذلك عندما ترى بعض المنكرات، فحسم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المسألة العظيمة، ولم يجعلها راجعة إلى اجتهاد المكلف، فأمر...
الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)[سبأ: 1] أحمده -تعالى- وأشكره حمدا وشكرا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله -تعالى- بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمانة، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى-؛ فإنها أعظم وصية، وإنها وصية الله للأولين والأخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا([الأحزاب: 70-71].
عباد الله: قد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن من أشراط الساعة أن تكثر الفتن، وفي حديث حذيفة لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- فتنا عظيمة، وذكر ما يكون في آخر الزمان من الفتن، قال له حذيفة: أرأيت يا رسول الله إن أدركت ذلك فما تأمرني؟ قال: "الزم جماعة المسلمين وإمامهم".
عباد الله: إن لزوم جماعة المسلمين وإمامهم واجتماع الكلمة، ووحدة الصف مقصد شرعي عظيم؛ لما يترتب عليه من المصالح العظيمة في أمور الدين والدنيا، وإنك لتعجب حينما تقرأ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو أن يفرق جماعتكم فاقتلوه"(رواه مسلم)، وفي رواية أخرى عند مسلم: يقول عليه الصلاة والسلام: "إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان".
فمع عظم شأن القتل في الإسلام إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل من يسعى لتفريق كلمة الأمة، وشق عصاها، وما ذاك إلا للعناية العظيمة من الشريعة الإسلامية باجتماع الكلمة، ونبذها للفرقة والاختلاف.
ولتحقيق هذا المقصد العظيم عنيت الشريعة الإسلامية بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وما ذاك إلا لأهميتها من جهة، ولحساسيتها من جهة أخرى، فإن بعض النفوس قد لا تصبر وخاصة عندما ترى أثرة واستئثارا بحظوظ الدنيا، وقد لا تصبر كذلك عندما ترى بعض المنكرات، فحسم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المسألة العظيمة، ولم يجعلها راجعة إلى اجتهاد المكلف فأمر بالسمع والطاعة لولي الأمر بالمعروف، يقول الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في كتابه: "مسائل الجاهلية التي خالف فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل الجاهلية": "المسألة الثالثة من مسائل الجاهلية أنهم أي: أهل الجاهلية يرون أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، ويجعله بعضهم دينا، فخالفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وأمرهم بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة، والنصيحة لهم، وغلظ في ذلك، وأبدأ وأعاد".
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله".
قال النووي -رحمه الله- معلقا على هذا الحديث: "الأثرة: هي الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا، أي: اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم".
وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال لأجل اجتماع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم.
وفي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كره من أميره شيئا فليصبر عليه؛ فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية"، وقوله: "خرج من السلطان شبرا" فيه إشارة إلى أدنى خروج.
عباد الله: إن شحن نفوس العامة ضد ولاة الأمر بتصيد الأخطاء، والنفخ فيها، قد يتسبب في فتح أبواب من الفتن، ولهذا جاء في صحيح البخاري عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أنه قيل له: لو أتيت فلان، أي: أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- فكلمته؟ فقال أسامة: "إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم إني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه" فخشي أسامة من أنه لو ناصح عثمان علنا أن يفتح على المسلمين باب فتنة وشر.
وعن عياض بن غنم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده له علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه".
عباد الله: ينبغي التواصي على اجتماع الكلمة، ونبذ الفرقة، وتأليف القلوب، قال النووي -رحمه الله-: "من النصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيهم، وتنبيههم، وتذكيرهم برفق ولطف، وتأليف قلوب الناس لهم".
وإن التاريخ ليعلمنا أن شحن قلوب الناس تجاه ولاة الأمر يجر أبواب عظيمة من الشرور والفتن؛ ولهذا كانت شرارة الفتن التي وقعت زمن أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- كانت الشرارة في ذلك هي: شحن قلوب العامة تجاه عثمان، وتولى كبرها عبدالله بن سبأ اليهودي الذي أظهر للناس إسلامه، وأظهر موالاته لآل البيت، وأظهر صلاحه، وأنه يحمل لواء الإصلاح، لكنه كان خبيثا، أصبح يؤلب الناس على عثمان -رضي الله عنه- ويحرضهم على ذلك، حتى حصل ما حصل من الفتن العظيمة، مع أن كثيرا من علماء الصحابة كانوا موجودين في مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن لما شحنت النفوس تجاه الخليفة الراشد عثمان، أصبح أولئك العامة الخارجون عليه لا يقبلون من علماء الصحابة بل ويتهمونهم بمداهنة الخليفة.
عباد الله: وإن هناك دعوات من خارج هذه البلاد لأبناء هذه البلاد للقيام بمظاهرة وما يسمونه بحراك، وما دام ولي الأمر قد منع من ذلك، فإن الخروج لهذه المظاهرات نوع من المنازعة له، فهو لا يجوز شرعا، وعلينا أن نستحضر أنه ليس كل من ادعى ولبس لباس الإصلاح يكون صادقا.
فعلينا أن لا ننخدع، وأن لا نسير خلف كل ناعق، بل لابد من أن نرد الأمر إلى أولي العلم، وأهل الحل والعقد؛ كما قال الله -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء: 83].
عباد الله: ينبغي أن نستحضر عظيم نعم الله -تعالى- علينا في هذه البلاد، وأن نشكره على ذلك، فإن من أول مراحل الشكر: أن يعرف الإنسان قدر النعمة التي هو فيها، فنحن نعيش في أمن وأمان، وفي رخاء ورغد من العيش، فينبغي أن نستحضر قدر هذه النعم، وأن نحمد الله ونشكره على ذلك، وإلا فإن الإنسان إذا بطر النعمة، ولم يعرف قدرها، واستخف بها، وتململ منها؛ فإنها يوشك أن تذهب وأن تزول، وكما يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إن بعض الناس يكون في نعمة، ويبدأ يتململ منها، ويتململ حتى تسلب منه تلك النعمة فيندم ندما عظيما".
بنو إسرائيل أنعم الله عليه بالمن والسلوى، لكنهم تململوا من هذه النعمة، وطلبوا من موسى قالوا: (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ)[البقرة: 61] فبعض الناس حالهم كحال بني إسرائيل لا يعرفون قدر النعمة التي هم فيها، حتى إذا فقدوا تلك النعم، وسلبوها، ندموا حين لا ينفع الندم.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رجلا سأله: "هل يحل له أن يأخذ من العطاء؟ وقال: ألست من الفقراء؟ قال: «ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: وإن لي خادما، قال: فأنت من الملوك" أي: تعيش عيشة الملوك.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة، والخادم، والدار، سمي ملكا"، وقرأ قول الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا)[المائدة: 20]أي: تعيشون عيشة ملوك، فلنحمد الله -عز وجل- ولنشكره على ما من به علينا من النعم العظيمة، والألاء الجسيمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: إذا عُلم شأن وحدة الكلمة في الشريعة، والنهي عن الفرقة، فليس من كياسة العقل والحكمة أن يساق المرء إلى من يريد تصديع هذه الوحدة؛ لما يراه من حق لم يؤدى إليه؛ لأنه إن فقد بعض حقه حال الوحدة فسيفقده كله إذا وقعت الفرقة، ولن يأمن على نفسه، ولا على عرضه، ولا على ماله.
عباد الله: لا يعرف فضائل الأمن والوحدة إلا من اكتوى بنار الخوف، والرعب، والفوضى، والتشريد، والغربة، ولنعتبر بما تنقله وسائل الإعلام من صور لبلدان ليست ببعيدة عنا تجتاحها فتن، وحروب، ومجاعات، وقلاقل في فوضى عارمة، ودماء تراق، ورقاب إلى الموت تساق، في أعمال نكراء، وفتن عمياء، فلنعتبر بما يجري حولنا في تلك البلدان، ولنحافظ على هذه النعم التي نحن فيها من الأمن والأمان، واجتماع الكلمة، ووحدة الصف، ورخاء العيش، فلنحمد الله -عز وجل-، ولنشكره على هذه النعم.
اللهم إنا نحمدك ونشكرك على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة.
اللهم أدم علينا الأمن والأمان والاستقرار والرخاء واجتماع الكلمة، ووحدة الصف، واجعلها عونا لنا على طاعتك ومرضاتك.
اللهم أعنا على ذكرك وعلى شكرك وعلى طاعتك وعلى حسن عبادتك.
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين شرا، اللهم فأشغله في نفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميرا عليه يا قوي يا عزيز.
اللهم وأعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.
اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك والعمل بكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمة لرعاياهم.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه إذا ذكر وتذكره إذا نسي، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا أخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي