ومن ثمرات الإيمان باسم الله الواحد الثبات في وجه الزعازع والمحن، وعدم الخوف من سوى الله -عز وجل-؛ فما دام لهذه الكون إله واحد لا شريك له، وهو الذي بيده وحده مقاليد الأمور كلها، فكيف يرهب العبد أو يهاب سواه؟! فتجد المؤمن بوحدانية الله -تعالى- راسخًا ثابتًا على الحق الذي طلبه الله كالطود الشامخ...
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: لقد طلب الله -عز وجل- من العباد أن يعبدوه، بل ما خلقهم إلا لأجل عبادته فقال -عز من قائل-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، ورأس العبادة وأصلها وأساسها هو توحيد الله -تعالى-، وفي القرآن يقول الله -سبحانه وتعالى-: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [إبراهيم: 52]، ويقول: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة: 163].
أيها الموحدون: إن من أسماء الله -تعالى- "الواحد"، ومعناه في اللغة: الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه أحد، الذي لا ثاني له ولا شريك له، وليس له مثيل ولا نظير، والذي تفرد بجميع الكمالات فلا يشاركه فيها سواه.
وقد ورد اسم الله الواحد والأحد في القرآن والسنة عدة مرات، ففي القرآن يقول الله -عز وجل-: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد: 16]، ويقول -عز من قائل-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1]، وعلى لسان نبي الله يوسف: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف: 39]، وقال -سبحانه-: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48]، وأمر -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [ص: 65].
وفي السنة تروي أم المؤمنين عائشة فتقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تضور من الليل قال: "لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار" (ابن حبان)، وعن محجن بن الأدرع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد، فإذا رجل قد قضى صلاته وهو يتشهد فقال: إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قد غفر له"، ثلاثًا (النسائي).
أيها المسلمون: قد أثبتنا بأدلة القرآن والسنة أن الله -تعالى- هو الواحد الأحد، والآن نقرر أن العقل إذا ما نظر في روعة المخلوقات ونظامها ودقتها وإحكامها تبين له أنه ما خلقها إلا إله واحد أحد لا شريك له، وصدق من قال:
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد
فدقة سريان الأفلاك وانتظامها وجريانها منذ ملايين السنين بلا خلل ولا تضارب، وحبك السماء وشدتها وارتفاعها، وجريان الكون الفسيح كله وفق نواميس واحدة محددة لا تتخلف... إن في كل ذلك كله لدليل جلي أنها صنعة واحد أحد فرد صمد، ولو كانت صنعة أكثر من واحد لاختل النظام وانهدم البنيان، قال -تعالى-: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء: 22].
ومن الأفلاك العملاقة الحشرات الصغيرة التي تنتظم -كذلك- في خلاياها أو في جحورها في طوائف متعددة كل طائفة تعرف عملها وتقوم به على خير وجه، ومن لاحظ عالم النحل والنمل أيقن "أنما هو إله واحد"، ومن راقب الطيور وهجرتها كل عام مرات في أوقات محددة وهي تسري أسرابًا مرتبة لها قائد يقودها... أدرك كذلك أن الخالق واحد لا شريك له؛ إذ لا تضارب ولا تعارض ولا اختلاف ولا فطور، فسبحان الواحد الأحد.
أيها المؤمنون: باسم الله الواحد الأحد: إنكم بإيمانكم ذلك قد جنيتم أروع الثمرات وحصَّلتم أثمن البركات، ومن تلك البركات والثمرات ما يلي:
اجتماع شمل القلب على الواحد -عز وجل-: فإن من آمن بالله -تعالى- ألهًا واحدًا لا إله سواه، صار غرضه غرضًا واحدًا؛ هو مرضاة الله وحده لا يلوي على رضا سواه إذا خالف ما يرضي الله -سبحانه وتعالى-، فيجتمع عليه شمل قلبه؛ إذ لو توجب عليه إرضاء إلهين -معاذ الله- لكان ما يرضي أحدهما يغضب الآخر! فيتشتت القلب والعمل ويقع العبد في الضيق والحرج، يضرب القرآن لذلك مثلًا فيقول: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 29]. والمعنى: واضرب يا محمد لقومك مثلًا وقل لهم: ما تقولون في رجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع، كل واحد يدعي أنه عبده، وهم يتجاذبونه في مهن شتى؛ فإذا عنت لهم حاجة يتدافعونه فهو متحير في أمره لا يدري أيهم يرضي بخدمته وعلوحدهى أيهم يعتمد في حاجاته! وفي رجل آخر مملوك قد سلم لمالك واحد يخدمه على سبيل الإخلاص، وذلك السيد يعين خادمه في حاجاته، فأي هذين العبدين أحسن حالًا وأحمد شأنًا؟! وهذا مثل ضربه الله -تعالى- للكافر الذي يعبد آلهة شتى والمؤمن الذي يعبد الله " (تفسير الخازن).
ومن ثمرات الإيمان بوحدانية الله: الثبات في وجه الزعازع والمحن، وعدم الخوف من سوى الله -عز وجل-؛ فما دام لهذه الكون إله واحد لا شريك له، وهو الذي بيده وحده مقاليد الأمور كلها، فكيف يرهب العبد أو يهاب سواه؟! فتجد المؤمن بوحدانية الله -تعالى- راسخًا ثابتًا على الحق الذي طلبه الله كالطود الشامخ الذي لا تزلزله محنة أو بلاء، ما دام ذلك في الله، لسان حاله دائمًا: (قُل إِنِّي لنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلتَحَدا) [الجن: 22].
وإنك لتجد هذا الثبات على الحق يقطر من قول إمام الموحدين محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد راوده أهل قريش ليميل عن الحق، فأجابهم بسؤال: "هل ترون هذه الشمس؟" قالوا: نعم، فقال: "ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا لي منها شعلة" (مسند البزار)، وأنى لمن آمن بالله واحدًا أحدًا أن يزلزله شيء، لسان حاله قول الشاعر:
ضع في يدي القيد، ألهب أضلـعي *** بالسوط، ضع عنقي على السكين
لن تستـطيع حصار فكري ساعة *** أو نزع إيمـاني ونور يـقيـني
فالنـور فـي قلبي، وقــلبي في يدي ***ربـي، وربي نـاصــري ومـعيـنـي
سأعيش معتصــمًا بـحبل عقـيـدتي *** وأموت مبتـسمـًا ليحيا ديني
فإذا تكاتفت هذه البركات والثمرات كانت محصلتها الكبرى هي دخول الجنة بفضل كلمة التوحيد، فعن عبادة بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" (متفق عليه)، وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" (أبو داود).
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: إن واجبات المسلم تجاه وحدانية الله -تعالى- وتجاه اسمه "الواحد" كثيرة، نجمل بعضها في ما يلي:
التضحية في سبيل الحفاظ على توحيد الله في الأرض: كما ضحى من أجل ذلك خير الأجيال؛ جيل الصحابة الأطهار، فهذا بلال بن رباح يلقونه في حر الظهيرة على الرمال الملتهبة، ويثقلونه بحجر عظيم ليردوه عن كلمة التوحيد، فلا يجيبهم إلا بقوله: "أحد أحد"، وهذا عمار بن ياسر يعذبونه ويقتلون أباه وأمه، فلا ينالون منه إلا كلمة بلسانه يكذبها قلبه، وهذا حبيب بن زيد يقطعون لحمه ليشرك مسيلمة الكذاب نبيًا، فيفضل الموت على ذلك، وهذا خبيب بن عدي يصلبه أهل مكة ويراودونه على ترك التوحيد فيطلقها كلمات تقطر تضحية وثباتًا:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا *** على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يــشأ *** يـبــارك علـى أوصــال شلو ممزع
ومن واجبات المسلم تجاه توحيد الله -تعالى-: محاربة كل مظهر من مظاهر الإشراك به -سبحانه-: فالمسلم غيور على مقام التوحيد أن يُمس أو يُخدش، وهو يحارب كل لفظة أو اعتقاد أو عمل يحمل شائبة من شوائب الشرك.
ومن الواجبات كذلك: إفراد الله -تعالى- بالتشريع والتحليل والتحريم: فذلك من تمام توحيد الله -تعالى- القائل في محكم تنزيله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف: 54]، والقائل: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام: 57]، ومن أسباب ذلك العمل على إقامة شرعه وإنفاذ أمره -عز وجل- في الأرض، فلقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ لما بعثه إلي اليمن: "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى" (متفق عليه).
ومن الواجبات: ظهور أثر التوحيد عليه في صورة عمل صالح: فقد أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا) [الكهف: 110]، فالعمل الصالح هو النتيجة الطبيعية لمن للإيمان بالله -تعالى- إلهًا واحدًا أحدًا.
ومن الواجبات: العناية بكلمة التوحيد؛ "لا إله إلا الله"، وكثرة ترديدها، وذلك لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله" (الترمذي)، وعن أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" (متفق عليه)، ومن تمام ترديدها بالقلب واللسان الإتيان بشروطها من علم ويقين وقبول وانقياد وصدق وإخلاص ومحبة.
فاللهم يا رب نسألك أن تجعلنا من الموحدين لك، الآمرين الناس بالتوحيد، المؤمنين بأسمائك وصفاتك.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي