اسم الله الظاهر

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. اسم الله "الظاهر" في القرآن والسنة واقترانه بغيره من أسماء الله تعالى .
  2. معاني ودلالات اسم الله الظاهر .
  3. الحياة في ظلال اسم الله الظاهر .
  4. الآثار الإيمانية لا سم الله "الظاهر" .
  5. العبودية في ظلال اسم الله "الظاهر". .

اقتباس

الله ظاهر لكثرة البراهين النقلية الدالة عليه ولكثرة الدلائل العقلية والكونية التي تشير إليه، قيل لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-: متى كان الله؟ فقال -رضي الله عنه-: "ومتى لم يكن؟". يعني أن كل شيء يدل عليه -سبحانه-، فآثار وجوده -سبحانه- ظاهرةً لكل عاقلٍ تملأ الكون والآفاق...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].

أيها المؤمنون: قد ينسى البشر حقيقتهم، ويغترون بقوتهم وتقدمهم، ويظنون أنهم قادرون ظاهرون عليها؛ فيريهم الله -عز وجل- من آيات قدرته وعجائب صنعته، ما يردهم إلى الصواب ويعرفهم قدرهم وحقيقة أنفسهم، ذلك لأن البشر مهما علا أمرهم وارتفع شأنهم، فإن الله ظاهر عليهم، قاهر غالب لهم لا راد لأمره، ولا مفر من قضائه.

عباد الله: من أسماء الله الحسنى اسم الله "الظاهر", وهذا الاسم لم يرد في كتاب الله سوى مرة واحدة في سورة الحديد في قوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد: 3]. وأما وروده في سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- ففي الدعاء المأثور أمر رسول الله -عليه الصلاة والسلام-المسلم عند نومه أن يقول: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ, اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ, وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ, وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْر" (مسلم).

والمتتبع لكلمة الظاهر يجد أنها كثيرا ما تقترن في نصوص الوحي بالباطن, ومن ذلك قوله -عز وجل-: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) [الأنعام: 120], وقوله -سبحانه-: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20]، وقوله -تبارك تعالى-: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) [الحديد: 13], وهذا ليس بغريب على لغة القرآن الكريم؛ إذ أن كلّ شيء له ظاهر، فإن له باطنا في المقابل.

والظاهر في اللغة: يقال لمن اتصف بالظهور والبيان وهو خلاف الباطن, والظهور يرد على عدة معان في اللغة: منها العلو والارتفاع, ومنها بمعنى الغلبة ومنه يقال: أظهر الله المسلمين على الكافرين أي أعلاهم عليه, كما في قوله مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) [غافر:29], أَيْ غَالِبِينَ عَلَى أَرْضُ مِصْرَ. وقال تعالى عن حواري عيسى -عليه السّلام-: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [ الصف: 14], أيّ: غالبين لعدوّهم حتى صارت لهم القوة والغلبة.

ولاسم الله الظاهر معان ودلالات كثيرة, منها:

المعنى الأول: الظاهر هو الغالبُ لخَلْقه، فالله -جل جلاله- هو الغالب القاهر الفعّال لما يُريد، فأمره هو النافذ، ومشيئته هي المتحكمة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن فهو الظاهر؛ لأنه ظهر على خلقه فغلبهم وقهرهم، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21], فالظاهر يدل على عظمة صفاته -سبحانه- واضمحلال كل شيء عند عظمته.

المعنى الثاني للظاهر: هو العالم للخفايا المطلع على السرائر المحيط بالنوايا، ومنه يقال: "ظهرتُ على سره", والله -عز وجل- إضافةً إلى قوته وسيطرته وقدرته، وهيمنته، هو عليم بكل شيء، ظاهر على كل شيء.

المعنى الثالث للظاهر: أن الله ظاهر لكثرة البراهين النقلية الدالة عليه ولكثرة الدلائل العقلية والكونية التي تشير إليه، فهو ظاهر بما ظهر من آثار أفعاله وصفاته, وكل شيء يدل عليه، قيل لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-: متى كان الله؟ فقال -رضي الله عنه-: "ومتى لم يكن؟". فآثار وجوده -سبحانه- ظاهرةً لكل عاقلٍ تملأ الكون والآفاق.

وللهِ فِي كلِّ تحرِيكَة ٍ *** وفي كلّ تَسكينَة ٍ شاهِدُ

وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آية ٌ *** تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ

فالله -سبحانه- الظاهر لكثرة البراهين الظاهرة على وجوده, والدلائل على إلهيته وثبوت ربوبيته ووحدانيته, ظهرت قدرته وحكمته وعلمه في كل ذرةٍ من ذرات هذا الكون.

المعنى الرابع للظاهر: هو العلو بكل معانيه ومترادفاته التي تليق بالله -جل وعلا-، فليس فوق الله شيء بل هو العلي الأعلى على خلقه بذاته وقدرته, ظاهر على كل شيء، العالي فوق كل شيء، الظاهر القادر الذي ظهر فوق كل شيء بالقَهْرِ والقُوَّةِ والغَلَبَةِ، قال الطبري: "اسم "الظاهر" وهو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه".

يا مدرك الأبصار والأبصار *** لا تـدري لـه ولكنهـه إدراكـا

إن لم تكن عيني تراك فإننـي *** في كل شيء أستبيـن علاكـا

وللعلامة ابن القيم -رحمه الله- كلام نفيس يدور حول تفسير اسم الله الظاهر مقترنا مع باقي الأسماء الأربعة التي وردت في سورة الحديد، وفيه يقول: "فظاهريته -سبحانه- فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه، وبطونه -سبحانه- إحاطته بكل شيء، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، فهذا لون وهذا لون.

فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده.

فالأول قِدمُه، والآخر دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه، فسبق كل شيء بأوليَّته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه, فلا تواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضاً، ولا يحجب عنه ظاهرٌ باطناً، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية".

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين،   أما بعد:

عباد الله: إن الحياة في ظلال أسماء الله وصفاته، لها طعم مختلف، وشعور آخر، حياة طيبة ثمرتها الإيمان والعمل الصالح والاستقامة على أمر الله، ففهم مراد الله ورسوله يورث المرء مقامات إيمانية رائعة وعالية، سواء كان هذا التأثر في الظاهر أم في الباطن, فصلاته تختلف عن صلاة غيره، وصيامه يختلف عن صيام غيره، وذكره ودعاؤه ومناجاته، وتوكله ورجاؤه وخشيته وإقباله وإخلاصه وتبتله, وسائر مقاماته الإيمانية نابعة عن فهم وفقه ويقين، لذلك تجد النازلة أو الحادثة تنزل بالرجلين أحدهما يفقه أسماء الله وصفاته, والآخر لا يفقهها، فترى الأول ثابتا راسخا مستسلما راضيا صابرا محتسبا، وترى الآخر جزعا عجولا منوعا ساخطا فرِقا، وهذا الفارق بين من فقه أسماء الله وصفاته وبين من لا يفقهها.

عباد الله: الحياة في ظلال اسم الله الظاهر، هي أشبه ما تكون بالحياة في روض زاهر مليء بالرياحين والعبير الفوَّاح من الظواهر الإيمانية والآثار السلوكية، والمؤمن إذا تحقق في قلبه علو ربه تعالى المطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس فوقه شيء البتة وأنه ظاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم توجه إليه، وتبين له علمه المحيط بكل شيء, وقهره لكل شيء؛ فقد جمع قلبه على المعبود، وجعله ربه الظاهر صمداً يقصده في كل حوائجه، وملجأ يلجأ إليه.

فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسم الظاهر استقامت له عبودية القلب وانقادت له عبودية الجوارح, وصار معقلا وموئلا يلجأ إليه, ويفرُّ في كل وقت إليه، فيا سعادة من آثر رضاه وحده، وتوكل عليه وحده، واستغنى به عمن سواه.

وللإيمان باسم الله الظاهر آثار إيمانية منها:

تمام التوكل على الله الذي لا يقع في ملكه شيء إلا بإذنه وعلى علمه، فهو الظاهر القاهر الذي بيده ملكوت كل شيء وبيده المقادير، لا يغالب ولا يراجع في أمر قضاه، وعندها لا يحتاج العبد لأن يتجه لأحد من المخلوقين مهما علا قدره بين الناس؛ لأنه يعلم أن هناك العلي الأعلى الظاهر على كل ظاهر من أهل الدنيا.

ومن الآثار الإيمانية لاسمه الظاهر: الخوف منه وحده -جل وعلا-، وترك الخوف من المخلوقين مهما علا قدرهم وارتفع شأنهم، فهم مهما كانت قوتهم خلق من خلق الله وهو الظاهر عليهم، القاهر لهم، لا يخرجون عن قضائه، ولا يفرون من قدره (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) [البقرة: 102].

ومن الآثار الإيمانية لاسمه الظاهر: أن يكون المؤمن ظاهراً بمبادئه وقيمه, ظاهراً في إيمانه وطاعته واستقامته لربه, عزيزاً به-سبحانه وتعالى-, مستغنىً به عن الخلق. قال جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا مُحَمَّدُ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ". (الحاكم وصححه ووافقه الذهبي).

عباد الله: إذا تحقق للعبد علوُّ الله المطلق على كل شيء بذاته وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه ظاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم توجه إليه العبد بقلبه دعاء وعبادة وانقادت جوارحه له -سبحانه-؛ صار لقلبه قِبلة توجه نحوها ومعبوداً يتوجه إليه قصده، وصاحب هذه الحال ينير الله قلبه بالإيمان فينشرح صدره ويصغرُ كل شيء سوى اللهِ في عينه.

فأصلح له خلوتك فإنَّ الغيب عنده شهادة، وطهر له سريرتك فإنه عنده علانية, وراقبه في كل خطواتك وخطراتك، فإنه مطلع عليك، وزكِّ له باطنك فإنه عنده ظاهر.

ألا صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي