فما أجمل الحِلْم، وكظم الغيظ، وضبط النفس، فكم من بيوت خرِبت بسبب الطيش والعجلة!, وكم من أرحام قُطعت!, وكم من سجين في غياهب السجون أضرته العجلة ونسيان الحلم!, وكم من علاقات قُطعت!, ودماء سُفكت بسبب الحمق وعدم الحلم!, وانظر لحوادث السيارات، فكثيرًا من أسبابها قد تكون بسبب...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أيها المؤمنون: فإن من أسماء الله التي يتكرر ذكرها في القرآن اسم "الحليم"، قال الله -سبحانه-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 235]، وقال -جل وعلا-: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) [البقرة: 263], وقال: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن: 17].
وقد وصف نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ربه بأنه الحليم؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (البخاري). وقَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ" (أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الألباني).
وحلم الله أعظم الحِلْم على الإطلاق قال النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ أحَدٌ، أوْ لَيْسَ شَيْءٌ أصْبَرَ عَلَـى أذًى سَمِعَهُ مِنَ الله؛ إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ" (متفق عليه).
والحلم لغة: الأناة والتعقل، ومعالجة الأمور بصبر وعلم وحكمة, فهو يتضمن الصبر والعفو، وحسن الخلق، وسعة الصدر, والحليم -سبحانه- هو الصبور المتصف بالحلم، ذو الصفح والأناة.
عباد الله: وحلم الله سبحانه وتعالى له صور ومظاهر يدركها المتأمل، ومن ذلك:
إمهال العصاة، فهو يشاهد معصية العصاة، ويرى مخالفة الأمر، ثم لا يستفزه غضبٌ، لم يعاجل الكفار بعذابٍ يستأصلهم، بل أمهلهم وتركهم، وهذا من صفات كماله.
فحِلْمُه -سبحانه- عليهم ليس لعجزه عنهم، بل إنه -سبحانه- يستر ويغفر، يمهل عباده الطائعين ليزدادوا من الخير والثواب، ويمهل العاصين لعلهم يرجعون إلى الطاعة والصواب، ولو أنه عجّل لعباده الجزاء ما نجا أحد من العقاب، فسبحان الحليم الغفور, (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل: 61].
وإمهال الحليم -سبحانه- للعصاة في الدنيا فيه حِكَم بالغة؛ فلعل الله يُخرِج من ظهور هؤلاء مَنْ يؤمن به، ومَنْ يحمل راية الدين ويدافع عنه، وقد حدث هذا كثيرًا في تاريخ الإسلام، فمِنْ ظَهْر أبي جهل جاء عكرمة، وأمهل الله خالد بن الوليد، فكان أعظمَ قائد في الإسلام.
ومن صور حلمه: أن يُدرّ على خلقه صنوف النعم الظاهرة والباطنة، فالله الكريم الحليم يرزق العاصي كما يرزق المطيع، ويقيته وهو منهمك في معاصيه، قال تعالى: (كُلاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء: 20]، كما أن حِلْمَه -سبحانه- ليس لحاجته إليهم، بل يحلم عنهم، ويصفح ويغفر مع استغنائه عنهم، قال تعالى: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) [محمد:38].
ومن صور حلم الله وعفوه -سبحانه-: أنه لا يؤاخذ عباده بلغوِ اليمين، الذي كثيرًا ما يقع فيه المسلم، قال الحليم -سبحانه-: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 225].
ومن صور حلمه: استقرار الحياة رغم كثرة المعاصي والفساد, قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [فاطر: 41]؛ فلولا حلم الله عن الجناة، لما استقرت البحار والسماوات والأرض لغضبهما وحنَقهما على العصاة، لما يحصل من شدة الكفر وعظيم الجرائم، قال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا) [مريم: 88 - 91].
فسبحان الحليم الذي (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء: 44].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات.
الحمد الله الذي خلق كل شيء فقدّره تقديرًا، والصلاة والسلام على من أرسله بالحق بشيرا ونذيرا، أما بعد:
عباد الله: فإن العيش في ظلال اسم الله الحليم يكسب العبد آثارا حميدة، ومن ذلك:
أن الحِلم سبب لأن يكون العبد هاديًا وداعيًا إلى الله -سبحانه-، والحِلم خُلق محبوب؛ إذ كاد الحليم أن يكون نبيًّا، وقد قيل: "الحلم سيد الأخلاق".
والحلم صفة تُكسِبُ المرء محبة الله في الدنيا، ورضوانه في الآخرة، وهو دليلٌ على كمال عقل العبد، وسعة صدره وهدوئه، وقدرته على امتلاك نفسه، وتزكيتها، فالحلم خُلُقٌ عظيم يحبه الله ورسوله، كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب الغني الحليم المتعفف، ويبغض البذيء الفاجر السائل الْمُلِحّ" (صحيح الترغيب والترهيب).
وللحليم في الآخرة الثواب العظيم, قال -النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ" (حسنه الألباني).
عباد الله: ينبغي للمسلم أن يسعى إلى الاتصاف بالحلم، حتى يكون واقعًا عمليًّا في حياته، من خلال تعاملاته مع الأهل، والإخوان والأصحاب، وجميع المسلمين.
واعلموا أن الحلم يُكتسب بالتحلم، فقد قَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّى الشَّرَّ يُوقَه" [السلسلة الصحية]، والتحلم هو السعي لكسر جماح النفس، حتى لا تَردّ السيئ بالمثل، ومحاولة التعامل مع المواقف السيئة بنوع من اللطف والهدوء، حتى يصبح ذلك طبعًا في النفس يحدث دون تكلف أو ادعاء.
واعلموا -عباد الله- أن هناك وسائل تعين الإنسان على أن يكون حليمًا، ومن ذلك:
أن يكون المسلم رحيمًا بالجهال؛ فمن أوكد الحلم رحمة الجهال، وأن يعفو عن المسيء مع القدرة على الانتصار، وهذا يدل على الحلم وسعة الصدر.
وعلى المسلم كذلك أن يترفع عن السباب، فذلك من شرف النفس وعلو الهمة، وعليه ألا يستهين بالمسيء ولا يحتقره؛ لأن هذا قد يؤدي إلى ضرب من الكبر والعجب.
ومن أسباب كون الإنسان حليمًا: أن يكرم الآخرين، وأن يصون لسانه، ويترفع عن أن يرد الأذى بالأذى، وقد حُكي عن الأحنف بن قيس أنه قال: "ما عاداني أحدٌ قط إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضلت عليه".
ومن وسائل نيل الحلم: الحزم وقطع السباب، قال الشعبي: "ما أدركت أمي فأبرّها، ولكن لا أسبّ أحدًا فيسبّها". وقال بعض الحكماء: "في إعراضك صونُ أعراضك". وقال بعض الشعراء:
وفي الحلم ردعٌ للسفيه عن الأذى *** وفي الخرق إغراءٌ فلا تك أخرقا
ومن آكد طرق نيل الحلم وتحصيله: الخوف من عقوبة الله -عز وجل-، فقد قيل: "الحلم حجاب الآفات".
فكن -عبد الله- حكيمًا في التعامل مع الأمور، واعلم أنك إذا سكت عن الجاهل فقد أوسعته جوابًا، وأوجعته عقابًا.
فما أجمل الحلم، وكظم الغيظ، وضبط النفس، فكم من بيوت خُربت بسبب الطيش والعجلة!, وكم من أرحام قُطعت!, وكم من سجين في غياهب السجون أضرته العجلة ونسيان الحلم!, وكم من علاقات قُطعت!, ودماء سُفكت بسبب الحمق وعدم الحلم!, وانظر لحوادث السيارات، فكثيرًا من أسبابها قد تكون بسبب اندفاع بعض الشباب وفقدهم الحلم والتروي، وكم من بلاء بسبب العجلة!, وكم، وكم، وكم في الحياة من بلايا سببها عدم الحلم وقلة الصبر، فسبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، وعلى عفوك بعد قدرتك.
قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: "فمن الواجب على من عَرَفَ أن ربَّهُ حليمٌ على من عصاه، أن يحلُم على من خالف أمره، فذاك به أولى حتى يكون حليمًا، فينال من هذا الوصف بمقدار ما يكسر سَوْرَة غضبه، ويرفع الانتقام عن من أساء إليه، بل يتعود الصفح حتى يعودَ الحِلم له سجية، قال تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43]، فكما تحب أن يحلُمَ عنك ربك، فاحلم أنت عمن تحت يديك؛ لأنك متعبَدٌ بالحلم مُثابٌ عليه".
ألا صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على الحبيب المصطفى، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي