اسم الله الحكم

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. الحَكم من أسماء الله -تعالى- ودليل ذلك .
  2. مفهوم حاكمية الله -تعالى- .
  3. تضمن هذا الاسم لجميع الأسماء الحسنى .
  4. أقسام أحكام الله على خلقه .
  5. مقتضيات الإيمان بحاكمية الله تعالى. .

اقتباس

هو -سبحانه- الحَكَم بين عباده, المظهر الحق من الباطل, المنتصف للمظلوم من الظالم, لا يقع في وعده ريب, ولا في فعله عيب, حكم على القلوب بالرضا والقناعة, وعلى النفوس بالانقياد والطاعة، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50]، والله -عز وجل- هو الذي يحكم بين عباده بعدله وقسطه فلا يظلم مثقال ذرة, ولا يحمِّل أحداً وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه, ويؤدي الحقوق إلى أهلها, فلا يدع صاحب حق...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].

عباد الله: يطمئن قلب المؤمن, وينشرح صدره في هذه الحياة, مهما تعرض فيها من قهر وظلم؛ لأنه يعلم أن حقه محفوظ, مأخوذ له ممن ظلمه, وكيف لا يطمئن والله -سبحانه- (خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [الأعراف: 87].

إن "الحَكم" من أسمائه -تعالى- الحسنى التي وردت في السنة, فعن هاني بن يزيد أنه وَفَدَ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قومِهِ، فسمِعَهُمْ يُكَنُّونَهُ بأبي الحكم, فدعاه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنَّ الله هو الحكَمُ وإليه الحُكْمُ فلم تُكْنَى أبا الحَكَم؟". فقال: إنَّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمتُ بينهم، فرَضِيَ كلا الفريقَيْنِ بحكمي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحسَنَ هذا فما لكَ من الوُلْدِ؟" قال: لي شُرَيح، ومسلم وعبد الله، قال: "فمن أكبرُهم؟" قال قلتُ: شريح، قال: "فأنت أبو شريح" (رواه أبو داوود). ودل الحديث على أنه لا يجوز التسمي بـ (الحَكَم) ولا التكني به.

أما في القرآن فقد جاء وصف الله -تعالى- بالحكم مضمناً في عددٍ من الآيات, منها: قوله -تعالى-: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) [الأنعام: 114], وفي مناداة نوحٍ ربه: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود: 45], وقوله -تعالى-: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يونس: 109].

أيها الموحدون: أصل الحكْم: المنع، ومنه حكمة اللجام؛ لأنها تمنع الفرس من التمرد، وكذا الحكمة تمنع الرجل من السفاهة، ومنه الحكم؛ لأنه يمنع الخصمين من التعدي.

والحَكم من صيغ المبالغة وهو اسم فاعل بمعنى حاكم، قال تعال: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف: 40], وحكَّمه في الشيء: إذا جعل الحكم إليه.

والحَكم -سبحانه-: هو صاحب الفصل بين الحق والباطل، والبار والفاجر، والحكم –سبحانه-: هو المجازي كل نفس بما عملت، وهو -سبحانه-: حَكمٌ يفصل بين مخلوقاته بما شاء، المميِّز بين الشقي والسعيد بالعقاب والثواب، يحكم في خلقه حكماً إلزامياً لا يرد، قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد: 41].

والله -جل جلاله- هو الذي يحكم في خلقه بما أراد؛ لأنه لا يحتاج لشاهد، بل -سبحانه- يعلم كل شيء، فلا يعلم جانباً من القضية، وتغيب عنه جوانب أخرى, لذلك فحكمه الحق والعدل، قال -تعالى-: (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [الأعراف: 87]؛ فلم يزل حكيماً قبل أن يحكم، ولا ينبغي ذلك لغيره -سبحانه-.

وهو -سبحانه- الحَكَمُ بين عباده, المظهر الحق من الباطل, المنتصف للمظلوم من الظالم, لا يقع في وعده ريب, ولا في فعله عيب, حكم على القلوب بالرضا والقناعة, وعلى النفوس بالانقياد والطاعة، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].

والله -عز وجل- هو الذي يحكم بين عباده بعدله وقسطه فلا يظلم مثقال ذرة, ولا يحمِّل أحداً وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه, ويؤدي الحقوق إلى أهلها, فلا يدع صاحب حق إلا وصل إليه حقه, وهو العدل في تدبيره وتقديره، وأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة ليس فيها شائبة جور أصلاً، كلها دائرة بين الفضل والرحمة، وبين العدل والحكمة.

ولا يعطي -جل جلاله- الحكم لسلطة تنفيذية قد تنفذ أو لا تنفذ، بل هو -سبحانه- الذي ينفذ ولا يوجد شيء يعجزه، كأن يهرب المذنب، ويختف في مكان لا يعرفه أحد، بل لا يوجد شيء في كونه، إلا وهو -سبحانه- يعلم مكانه، وتحت قبضته ومشيئته, (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) [فاطر: 44].

والحَكم -سبحانه- لا يأخذ إلا بذنب، ولا يعذب إلا بعد إقامة الحجة, أقواله كلها عدل، لا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة, ولا ينهى إلا عما مضرته خالصة أو راجحة, وكذلك حكمه بين عباده يوم فصل القضاء، ووزنه لأعمالهم عدل لا جور فيه. قال -تعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين) [الأنبياء: 47].

إخوة العقيدة: لقد تضمن هذا الاسم جميع الصفات العُلى والأسماء الحسنى، إذا لا يكون حكماً إلا وهو سميع بصير، عالم خبير, قادر قوي... إلى غير ذلك من صفات الكمال اللازمة لكمال حكمه وعدله, فهو -سبحانه- الحكم النافذ حكمه في ملكه؛ الذي لا راد لقضائه, ولا معقب لحكمه.

وأحكام ربنا الحكم -سبحانه- قسمان:

الأول: حكم كوني: فالحكم -تعالى- يجعل هذا عقيماً وذاك ذا ولد، ويجعل هذا وسيماً، وذاك دميماً، هذا الإنسان ساق له بعض الشدائد، وآخر ساق له بعض الخير, فكل ذلك ليس للإنسان فيه قدرة ولا اختيار, وإنما اختاره الله -سبحانه- وحكم به، والحكم الكوني واقع لا محالة, فينبغي الصبر والرضا وعدم السخط والكفر. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عَجَبا لأمر المؤمن, إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر، فكان خيراً له، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيراً له" (أخرجه مسلم).

والثاني: حكم تشريعي تكليفي: وهو الذي أرسل الله به الرسل وأنزل معهم الكتب, حكم بوجوب هذا وحرمة ذاك, هذا حكم تكليفي يؤاخذ به الإنسان، وهذا حقه أن يتلقى بالتسليم، وترك المنازعة بل بالانقياد والإذعان والقبول, قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) [الأحزاب: 36].

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً, والصلاة والسلام على عبده ونبيه محمد, وعلى آله وأصحابه وأتباعه، أما بعد:

إخوة الإسلام: إن إيمان المؤمن بأن الله هو الحكم له مقتضيات, منها:

يقتضي بعد العبد عن مظالم العباد، وعدم الاعتداء على حقوقهم؛ لأن وراء ذلك يوم الفصل والقضاء, حيث يحكم الله بحكمه ولا يُظلم أحد: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [النمل: 78].

وحساب الحكم -سبحانه- دقيق, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه، أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" (رواه البخاري)، قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "إذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فتذكر قدرة الله عليك" (سير أعلام النبلاء).

أيها المظلوم: حقك محفوظ لا يضيع عند أحكم الحاكمين فلا تخف من أن تُظلم، وإنما خف من أن تَظلم: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) [طـه: 111-112].

ومن مقتضيات الإيمان باسم الله الحكم: أن الله -سبحانه- يحكم ما يشاء، وله الحكمة البالغة فلا اعتراض على أمره ولا على قدره: (إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة: 1]. وليس لأحد أن يراجع الله في حكمه كما يراجع الناس بعضهم بعضا في أحكامهم (وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد: 41]؛ فعليك بالصبر والرضا على قدره وقضائه.

ومن مقتضيات الإيمان باسم الله الحكم: أن الحُكم لله وحده لا شريك له في حكمه؛ كما لا شريك له في عبادته: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) [الأنعام: 57]، (وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 70]؛ فلا يجوز الحكم إلا بحكم الله، لا بالقوانين الوضعية، ولا بحكم الأعراف والقبائل، ولا غيرها، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، فكل تشريع من غير الحكم -سبحانه- باطل: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [الأنعام: 114]؛ يعني "ليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه؛ لأنه لا حكم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه" (تفسير الطبري).

وكيف يؤخذ بتشريع قوانين من صنع بشرٍ مخلوقين؟!، فهل هؤلاء البشر يملكون خلق السموات والأرض، أو يملكون خلق الإنسان؛ حتى يشرعوا هذه القوانين؟!، هل في هؤلاء البشر المشرعين إله؛ حتى يشرع شرعا يخالف فيه شرع الله -سبحانه- الحكم العدل؟!.

إخوة الإيمان: إن الإعراض عن تحكيم كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتحاكم إلى القوانين الوضعية البشرية, هو خلل في الإيمان بهذا الاسم العظيم, هو خلل عقدي خطير, نشأ لهم من فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعم ذلك الكثير؛ حتى ربى فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكرا. وكيف لا يكون منكراً عظيماً والله جعل التحاكم إلى شرعه شرط في الإيمان فقال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]. وأنكر التحاكم لغير شرعه فقال: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].

إذا علمت بأن الله -سبحانه- "الحكم" وعرفت معنى هذا الاسم العظيم ومقتضياته؛ أثمر ذلك الخوف من الله، والالتزام بشريعته، والقيام بما يرضيه، حتى إذا جاء يوم القيامة تكون من الفائزين.

ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ حيث أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي