الخبير لغة: يُطلق على العارف بالشيء العالم بحقيقته وبتفاصيله وخصائصه الدقيقة, ومن ذلك لما سأل أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- عائشة -رضي الله عنها-: "فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ" (مسلم), تعني أنه سأل من يعلم الجواب بتمامه؛ لأن...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون: إذا احتار الإنسان في أمر استشار، وكثيرًا ما يتم نصحه بأن يلجأ إلى خبير، خبير متخصص، جمع بين العلم والخبرة, ولذا يبحث الناس عن الخبراء في شتى مجالات الحياة يصدرون عن آرائهم، والله -سبحانه وتعالى- قال مادحاً نفسه: (الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) [الفرقان: 59], وقال تعالى: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر: 14].
إخوة الإيمان: جاء اسم الله الخبير في كثير من الآيات مقترنًا بغيره من الأسماء الحسنى, فقد جاء مقترناً باسم الله الحكيم، كقول الله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:18].
ومقترنا باسم الله العليم، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35].
وورد مقترنًا باسم الله اللطيف؛ كما في قوله تعالى: -جل وعلا-: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) [الأنعام: 103].
ومقترنا بالبصير كقوله -سبحانه-: (وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء: 17].
ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وصف ربه -سبحانه- بأنه الخبير، ففي قصة خروج عائشة -رضي الله عنها- خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة من الليالي في الظلام الدامس؛ غيرةً عليه -صلى الله عليه وسلم-، فقد ظنت أنه ذاهب لإحدى زوجاته، فإذا هو يذهب إلى البقيع حيث قبور أصحابه؛ ليستغفر لهم، فلما رجع, رجعت هي أمامه مسرعةً، فلما دخل وجدها ليست بحال النائم, بل تحت الغطاء وصدرها يخفق بشدة كأنها كانت تجري، ولم تكُ نائمة، فسألها، فلم ترد، فعندها قال لها النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (مسلم).
أيها الموحدون: والخبير لغة: يُطلق على العارف بالشيء العالم بحقيقته وبتفاصيله وخصائصه الدقيقة, ومن ذلك لما سأل أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- عائشة -رضي الله عنها-: "فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ" (مسلم), تعني أنه سأل من يعلم الجواب بتمامه؛ لأن الخَبِير الذي يَخبُرُ الشيء بتفاصيله.
والخبير -سبحانه- هو المنفرد بالعلم وحده، قال ابن القيم -رحمه الله-: "الخبير: الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها". (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59]؛ فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يتحرك متحرك ولا يسكن إلا بعلمه، ولا تستقيم حياة أي شيء إلا بأمره، قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34], ولا يجري شيء في الفلك والملكوت إلا والله يعلمه، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 73].
أيها المسلمون: إن من لوازم اسم الله الخبير: العلم والإحاطة، فلا يكون خبيرًا بغير علم وإحاطة، وإن اسم الله الخبير يدل تمام العلم والخبرة والإحاطة بتفاصيل الأشياء، قال تعالى: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف: 91]، أي: وقد أحطنا إحاطة تامة، بما كان لدى ذي القرنين من قوة وجنود وإمكانات وآلات وخبرة، وغير ذلك من أسباب النفوذ والملك والغلبة والسلطان. وقد ذكر الله كمال علمه بخلقه وإحاطته بهم، فقال -عز وجل-: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) [الملك14].
وإن من صور قصور علم البشر وخبرتهم أنهم لا يدركون حقيقة الشيء إلا بالتجارب، ولهذا إذا أردنا صنع دواء ما، فإننا نقوم بكثير من التجارب لإدراك مدى فاعليته، فعلوم البشر أساسها التجربة، لذلك سموه بالعلم التجريبي، لكن علم الله وخبرته لا يفتقر إلى التجربة، بل علم تام محيط شامل كامل، فسبحان العليم الخبير.
أيها المسلمون: هناك اجتماعٌ بين اسمي الله العليم والخبير من حيث أنهما تضمنا علم الله تعالى المحيط بكل شيء, ولكن الخبير أدق من حيث علمه بخفايا الأمور, قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "الخبرة هي العلم ببواطن الأمور، والعلم بالظواهر لا شك أنه صفة مدح وكمال، لكن العلم بالبواطن أبلغ، فيكون عليم بالظواهر، وخبير بالبواطن، فإذا اجتمع العلم والخبرة صار هذا أبلغ في الإحاطة، وقد يقال إن الخبرة لها معنى زائد عن العلم؛ لأن الخبير عند الناس هو العليم بالشيء الحاذق فيه، بخلاف الإنسان الذي عنده علم فقط، ولكن ليس عنده حذق، فإنه لا يسمى خبيراً، فعلى هذا يكون الخبير متضمناً لمعنى زائد على العلم". وقال السعدي عند قوله تعالى: (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ): "الذي لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى". قَالَ الْغَزَالِيُّ: "الْعِلْمُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْخَفَايَا الْبَاطِنَةِ سُمِّيَ خِبْرَةً وَسُمِّيَ صَاحِبُهَا خَبِيرًا".
فاتقوا الله -عباد الله- ولازموا الأعمال الصالحة، وأكثروا من فعل الطاعات، فإنها سبب للنجاة من المهلكات، العاجلة والآجلة.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الحمد لله العليم الخبير، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم القويم وسلم تسليمًا، أما بعد:
عباد الله: إن من عَلِمَ أن الله خبير بأحوالِهِ احترز في أقواله وأفعاله، محاسباً نفسه عن كل صغيرة وكبيرة, مستشعراً مراقبة الله إليه في جلواته وخلواته, فلا يحب أن يطلع الله من سره إلا ما هو أحسن من جهرة.
إذا ما خلوتَ الدهرَ يوماً فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تـحسبنَّ اللهَ يغفلُ ســـــاعةً *** ولا أنَّ ما يخفَى عليه يغيبُ
وليحذر العبد أن تكون ذنوبه سبباً في هلاكه يوم القيامة, فعن ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا" قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ, وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا". (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
أيها المسلمون: وينبغي للمسلم الموقن بعلم الله وخبرته المحيطة أن يرضى ويطمئن إلى اختيار الخبير والثقة به، فإن أثر اسم الله الخبير في سلوك العبد يتمثل في اعتماده على اختيار ربه في كل صغيرة وكبيرة من أمره، فطالما آمن العبد بأن الله هو الخبير، سلّم له في جميع شؤونه مطلق التدبير، وهذا شأن أهل التوحيد واليقين ألا يخالفوا مراد الله وتدبيره، بل يسلموا إليه أمورهم؛ ثقةً في كمال تدبيره، سواء كان تدبيرًا يتعلق بتوحيد الربوبية، وتصريف أمور الخلق كالإيجاد والإمداد، والمنع والعطاء على مقتضى حكمته في ترتيب الابتلاء، أو كان تدبيرًا شرعيًّا يتعلق بتوحيد العبودية، وما أمرهم به أو نهاهم، أو ندبهم أو دعاهم.
أيها المؤمنون: كما يجب على المسلم أن يجعل الله وكيلاً له ويتخذه كفيلاً، فكل من وحّد الله في اسمه الخبير لزمه أن يجعل الله وكيلاً له وكفيلاً عليه، فنعم المولى هو ونعم النصير، ونعم الخبير، والله -عز وجل- إذا تولى أمر عبده بجميل عنايته، كفاه وأغناه، وأسعده في الدنيا والآخرة، والله -سبحانه- لا يضيره من عبده كثرة مطالبه، كما لا يعجزه كثرة إلحاحه وسؤاله.
فالمسلم الذي يرضى بربه خبيرًا بأمره، هاديًا لعمله، وكيلاً على نفسه, فهو الموحّد لله حقًّا في اسمه الخبير، وترسخ في قرارة نفسه أن ما كُتب في اللوح المحفوظ سوف يناله، ومن ثَم تهون عليه الأمور، ويركن بإيمانه إلى اللطيف الخبير -سبحانه جل وعلا-.
أيها المسلمون: كما ينبغي أن يحرص كل مسلم على أن يتجلى اعتماده على اختيار ربه في كل صغيرة وكبيرة من أمره، فيجعل حوله وقوته، واعتماده وثقته وتوكله على ربه الحكيم الخبير، فيستخير الخبير -سبحانه-، ويرضى بما اختاره له.
ولقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- كل عبد موفق على اللجوء لعلم الله -تبارك وتعالى- وخبرته, عند إقدامه على أمر مستقبلي لا دراية له بعاقبته؛ كأن يرغب في عملٍ ما: سفرٍ أو زواجٍ أو وظيفة أو غير ذلك، حثه النبي -عليه الصلاة والسلام- على أن يستخير الله.
قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمنا الاستخارةَ في الأمورِ كلِّها، كما يعلِّمنا السورةَ من القرآن، يقول: "إذا هَمَّ أَحَدُكُمْ بالأمر فَلْيَرْكَعْ ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللَّهُمَّ إني أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ من فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فإنك تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ ولا أَعْلَمُ، وأنت عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ فإنْ كنتَ تَعْلَمُ هذا الأَمْرَ ويسميه باسمه خَيْرا لي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أمري، فَاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لي، ثم بارك لي فيه، اللَّهُمَّ وإنْ كنتَ تَعْلَمُه َ شَرًّا لي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أمري فَاصْرِفْنِي عنه، وَاصْرِفْهُ عني، وَاقْدُرْ لي الْخَيْرَ حيث كان ثم رَضِّنِي به". (البخاري).
فاستخيروا ربكم -أيها الإخوة- وارضوا باختياره لكم، واحرصوا على محبة الخبير -سبحانه-، واخضعوا لأمره، وانقادوا لشرعه، وارضوا بحكمه، وفوضوا أموركم إليه وحده، واحذروا غضبه، ولا تجعلوا الله أهون الناظرين إليكم، جنبني الله وإياكم مضلات الفتن، ووقانا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأسأل الله أن يسعدنا بتقواه، وأن يجعل خير أيامنا وأسعد لحظاتنا يوم أن نلقاه.
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ حيث أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي