مهما أمعنا النظر في حقيقة اسم الله الجامع وفي الأدلة التي دلت على ثبوته؛ إلا أن ثمة صور لجمع الجامع لعباده، ومن ذلك: أنه جمع المسلمين على دين واحد وقبلة واحدة وشعائر واحدة، يصلون ويصومون ويحجون وغيرها من الشعائر في وقت واحد وزمن واحد...
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1], (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن من أعظم ثمرات الإيمان بأسماء الله وصفاته -عَزَّ وجَلَّ- تَنْزِيه الله وتقديسه عن النقائص، ووصفه بصفات الكمال، ومن أسماء الله التي ينبغي أن نتدبر معناها ودلالاتها وآثارها الإيمانية اسم الله الجامع.
ومعنى اسم الله الجامع: الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشوةى:11].
وقد ورد اسم الله الجامع في الكتاب والسنة، قال -تعالى-: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[آل عمران:9]، قال -تعالى-: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)[النساء:87]، وقال -تعالى-: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام:12]، وقال -تعالى-: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً)[الكهف:99]، وقال -سبحانه-: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التغابن:9].
أيها المؤمنون: مهما أمعنا النظر في حقيقة اسم الله الجامع وفي الأدلة التي دلت على ثبوته؛ إلا أن ثمة صور لجمع الجامع لعباده، ومن ذلك:
أنه جمع المسلمين على دين واحد وقبلة واحدة وشعائر واحدة، يصلون ويصومون ويحجون وغيرها من الشعائر في وقت واحد وزمن واحد، وتلك نعمة عظيمة يجب أن تشكر، وهو من يجمعهم يوم القيامة في دار كرامته ومستقر رحمته، قال -تعالى-: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)[الزمر:73-74].
وهو -سبحانه- يجمع الله بين القلوب ويؤلف بينها، قال -تعالى-: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 63].
ومن ذلك: جمعه -سبحانه- للكافرين والمنافقين في الدنيا، برؤية واحدة, ومعسكر واحد, ومخططات واحدة، ويوم القيامة سيجمعهم لا محالة، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)[النساء:140].
وكذلك جمعه لما تفرق واستحال من الأموات الأولين والآخرين ليوم الجمع، قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)[الواقعة: 49-50], وسُمي بيوم الجمع، قال -سبحانه-: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التغابن:9]؛ لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- يجمع بين الظالم والمظلوم، بين القوي والضعيف، بين المعطي والآخذ، بين المتكبِّر والمتواضع، بين القوي الظالم والمستضعف المظلوم، يجمع بينهم ليقتصَّ لله للضعيف من القوي، للمظلوم من الظالم، للمستضعف من المستكبر، ويجمع الله -تعالى- في هذا اليوم بين كلِّ نبيٍ وأمَّته، كلُّ نبيٍ يأتي مع أُمَّته ليكون شهيداً عليهم, فقد قال -تعالى-: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[المائدة:117].
وهو الجامع لأعمالهم وأرزاقهم، فلا يترك منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالله -سبحانه وتعالى- في هذا اليوم يجمع الأوَّلين والآخرين، ويجمع الإنس والجن، ويجمع أهل السماء وأهل الأرض، ويوم الجمع أيضا يجمع الله -سبحانه وتعالى- العبد وعمله.
ومن صور جمعه -تعالى-: أنه جامع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، ويا لها من نعمة عظيمة، قال -تعالى-: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69].
عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "جاء رجلٌ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنك لأحبُّ إليَّ من نفسي، وإنك لأحبُّ إليَّ من أهلي ومالي، وأحبُّ إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكركَ، فما أصبر حتى آتيكَ فأنظر إليكَ، وإذا ذكرتُ موتي وموتكَ عرفتُ أنَّكَ إذا دخلتَ الجنَّة رُفِعْتَ مع النبيِّين، وأنِّي إذا دخلتُ الجنَّة خشيتُ ألاَّ أراكَ، فلم يرُدَّ عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- شيئًا؛ حتى نزل جبريل -عليه السلام- بهذه الآية: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69]"(الصحيح المسند).
ويجمع الله -عزَّ وجلَّ- في هذا اليوم بين ثواب أهل طاعته، وعقاب أهل معصيته، وسمّى الله -تعالى- يوم القيامة يوم الجمع؛ لأنه يجمع فيه كلَّ هذه الخلائق من أوَّلها إلى آخرها، يجمع الإنس والجن، يجمع أهل السماء وأهل الأرض، يجمع كلَّ عبدٍ مع عمله، يجمع بين الظالم والمظلوم، والمستكبر والمستضعف، والقوي والضعيف، ويجمع كلَّ نبيٍ مع أمَّته؛ ذلك يوم الجمع.
فمن هذا الاسم يشتقُّ اسم الجامع فمن الذي جمع هؤلاء؟! فأحياناً تقف عقبة في سبيل إحقاق الحق، ذلك أنَّ الطرف الآخر لم يُبلَّغ لعدم وجود عنوان معروف له، فماذا يفعل المظلوم؟ أقام دعوة، فكيف يحضر الطرف الآخر ويأتي به إلى ساحة القضاء وهو ليس له عنوان وإبلاغه مستحيل؟ لكن الله -ولله المثل الأعلى- يجمع القوي مع الضعيف، والظالم مع المظلوم، والمستكبر مع المستضعف، يجمعهم يوم القيامة يوم الجمع, فالله -سبحانه- جامعٌ أي يجمع كلَّ هذه الخلائق ليحاسبها.
ويجمع الله بين القاتل والمقتول يوم القيامة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَجِيءُ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِرَأْسِ صَاحِبِهِ -وفي لفظ: يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا- يَقُولُ: رَبِّ سَلْ هَذَا لِمَ قَتَلَنِي؟"(صححه الألباني في صحيح ابن ماجه).
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: إن لاسم الله "الجامع" آثاراً إيمانية تتجلى في حياة الفرد المسلم, من ذلك:
تعظيم الرب -سبحانه-، فمن عظم الله -سبحانه- وقدره حق قدره تحقق فلاحه ونجاحه وسعادته في دنياه وأخراه، بل إنَّ تعظيمه -سبحانه- أساس الفلاح؛ فلا يفلح ويسعد قلب إلا بتعظيم ربه وخالقه ومولاه، ومن عظم الله ذل وخضع وخشع له، وعظّم شرعه ودينه وعرف مكانة رسله, وهذا التعظيم لله -سبحانه- يعد أساسا متينا يقوم عليه دين الإسلام؛ بل إن روح العبادة في الإسلام هو التعظيم، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يقول في ركوعه وسجوده بأبي هو وأمي -صلوات الله وسلامه عليه-: "سُبْحَانَ ذي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ".
ولننظرْ ونعتبر برفقاء الملوك والرؤساء كيف نجد حالهم مع ملوكهم ورؤسائهم؟! إنه الامتثال التام للأوامر والنواهي, فلا تجد أحدهم يستطيع أن يرد لهذا الملك أو الرئيس أمراً ولا نهياً, حتى وإن كان فيه ضره, وسر هذه الطاعة العمياء هو التعظيم لهذا الرئيس.
ومن ذلك: الرجاءُ في ما عند اللهِ -عز وجل- مع حسنِ العملِ، ومراقبةُ اللهِ -عز وجل- في السرِّ والعلانيةِ، والطمأنينةُ واليقينُ, والحياءُ من اللهِ -عز وجل- الذي يجمع الناس ويكلمهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان, فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله, وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم, وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة".
مثل وقوفك يوم العرض عريانا *** مستوحشاً قلق الأحشاء حيراناَ
النار تلهب من غيظٍ ومن حنقٍ *** على العصاةِ ورب العرش غَضباناَ
اقرأ كتابك يا عبدُ على مَهَل *** فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
فلما قرأت ولم تنكر قراءته *** إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي *** وامضوا بعبدٍ عصا للنار عطشانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا *** والمؤمنون بدار الخلد سكانا
فاتقوا الله الذي سيجمعكم جميعا في يوم عصيب؛ فيقتص من الظالم للمظلوم، ويجمع رسله وملائكته؛ ليشهدهم على الناس.
هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي