المصور -سبحانه- هو الذي صور المخلوقات بشتى أنواع الصور والهيئات الجلية والخفية والحسية والعقلية، فلا يتماثل جنسان أو يتساوى نوعان, بل لا يتساوى فردان، فلكلٍ صورته وهيئته ويميزه عن غيره...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: يقول ربنا -جل في علاه-: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الحشر: 24]؛ فالله هو المصوّر للأشياء، المركِّب لها على هيئات مختلفة، وأنواع شتى من التصوير، وهو التخطيط والتشكيل.
والمصور لغةً: هو الذي يجعل الشيء على صورة وشكل وهيئة معينة. والمصور -سبحانه- هو الذي صوَّر المخلوقات، ونوَّعها بشتى أنواع الصور، وأبدع صور المخلوقات وجَمَّلها، وزيَّنها بحكمته، وأعطى كل مخلوق صورته الخاصة به.
قال ابن الأثير: "المصَوِّر في أسماء اللّه تعالى، هو الذي صوَّر جميعَ المَوُجُوداتِ ورتَّبها فأعْطَى كلَّ شيء منها صورةً خاصَّةً وهيْئةً مُنْفَرِدةً يتَميَّزُ بها على اختلافِها وكْثرتِها".
فالمصور -سبحانه- هو الذي صور المخلوقات بشتى أنواع الصور والهيئات الجلية والخفية والحسية والعقلية، فلا يتماثل جنسان أو يتساوى نوعان, بل لا يتساوى فردان، فلكلٍ صورته وهيئته ويميزه عن غيره.
المصور تعالى هو معطي كل مخلوق صورته على ما اقتضت مشيئته وحكمته، وهو الذي صور الناس في الأرحام أطوارا ونوعهم أشكالا, كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) [الأعراف:11], والله -عز وجل- كما صور الأبدان فتعددت وتنوعت؛ نوع أيضا في الأخلاق فتعددت صور الطباع والسلوك والمواهب والأفكار.
ومرحلة التصوير هي المرحلة الثالثة من مراحل الإيجاد بعد الخلق والبرء، فبعد تقدير الشيء, وإنفاذه في الوجود, تأتي مرحلة إضفاء الملامح والسمات التي يتميز بها كل مخلوق عن غيره.
أيها الموحدون: امتنَّ الله على عباده بأن صوَّرهم في أحسن صورة وهيئة، قال تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [التغابن: 3]؛ أي: فخلقكم في أحسن الأشكال، ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم.
فإذا أردت أن تعرف حُسْن الآدمي، فانظر إليه، عضوًا عضوًا، هل تجد عضوًا من أعضائه يصلح أن يكون في غير محله؟! وانظر إلى ما خصّه الله به من العقل والإيمان، والمحبة والمعرفة، التي هي أحسن الأخلاق المناسبة لأجمل الصور.
قال غير واحد من أهل التفسير: "إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة، الكاملة الشكل والوظيفة، أمرٌ يستحق التدبر الطويل والشكر العميق، والأدب الجمّ، والحب لربه الكريم، الذي أكرمه بهذه الخلقة، تفضلاً منه ورعاية ومنة, فقد كان قادرًا أن يركبه في أية صورة أخرى يشاؤها, فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة.
إن الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سَوِيّ الخِلْقة، معتدل التصميم، وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما يراه حوله, وإن الجمال والاستواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي، وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الروحي سواء، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء!"، قال -جل وعلا-: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 6]؛ والتصوير في الرحم هو إيجاد المادة التي سيوجد منها الإنسان على هيئة خاصة؛ هذه الهيئة تختلف نوعيتها من ذكورة وأنوثة، والذكورة والأنوثة تختلفان أشكالاً, وألوانا، قال تعالى: (وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم: 22].
ولا شك أن هذا الاختلاف في الألوان والألسنة والهيئة, يَدُل على أنها ليست من إنتاج مصنع يصنع قالبًا، ثم يشكّل عليه؛ فكل إنسان يُولد ويُصوّر على حدة في بطنه أمّه؛ فلا يشبه الآخر من كل وجه, إن أيّ صانعٍ الآن إذا أردت منه أن يصنع لك كوبًا يصنع قالبًا ويكرره، لكن في الخلق البشري كل واحد بقالبه الخاص، بشكله المخصوص، بصوته ولونه المميز؛ وهذا دليل إبداع الخالق في التصوير، (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة: 117].
وإذا نظرت -يا عبد الله- في صنعة الإنسان تجد أن أعضاء بني البشر كلّها متشابهة، فكل بني آدم يملك يدين، وكلهم يملك رجلين، وعينين ولسانًا واحدًا, ورأسًا واحدًا، ومع ذلك لن تجد في السبعة آلاف مليون من البشر إنسانًا يشبه الآخر من كل ناحية، لا بشكله، ولا بطوله، ولا بلونه، ولا بملامح وجهه، ولا بطريقة كلامه، ولا بنبرة صوته.
فالمصور هو من أحسن وأبدع وأخرج الشكل النهائي في كامل هيئته وبهائه, ويصور الله معظم الناس خلقًا سويًا، ويخلق قِلة من الناس خلقًا غير سويّ؛ فقد يُولد طفل أعمى أو مصاب بعاهة، وهذا الاختلاف أراده الله في الخلق؛ ليلفتنا الحق -سبحانه- إلى حسن وجمال خلقه؛ لأن من يرى إنسانًا آخر معوَّقًا عن الحركة، فإنه يحمد الله على كمال خلقته.
إن الله -عز وجل- هو الذي أعطى كل شيء صورته، وليس معنى الصورة الشكل الخارجي فقط, بل الشكل الكامل الداخلي والخارجي، النفس والبدن, وكما يظهر حسن التصوير في البدن تظهر حقيقة الحسن أتم وأكمل في باب الأخلاق، ولذا لم يمُنّ الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما منَّ عليه بحُسن الخلق؛ حيث قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].
وإذا علم العباد هذا فلا بد أن تنطق ألسنتهم تسبيحًا وتمجيدًا لله الخالق البارئ المصور -سبحانه-، خلق المخلوقات في أتم صورة وأجملها من أول مرة، وصدق الله العلي الكبير (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [لقمان: 11]؛ ولهذا أنكر الله على من يدعو غير الله والحال أن الله تعالى خلقهم، وجعل صورهم أحسن صور المخلوقات، ووصف نفسه بأنه أحسن الخالقين: (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) [الصافات: 125].
أيها المؤمنون: لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه ويثني عليه بأنه هو الذي صوَّر وجهه وجمَّل خلقه، كان رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا سَجَدَ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (مسلم).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: إن الإيمان التام بربنا المصوّر -سبحانه- يغرس في النفس اليقين والطمأنينة بأنه الملك الذي له الملك كله، فلا يخرج مخلوق عن ملكه، ويدفع العباد دفعًا كي يحمدوه حمدًا كثيراً على ما له من صفات الكمال والجلال، وحمدًا على ما أوجده من الأشياء، وأحسن خلقها، وحمدًا على ما شرعه من الأحكام، وأسداه من النعم العظام.
أيها المؤمنون: إن على المؤمن أن يسعى في تحسين ظاهره وباطنه؛ فالتصوير فيه معنى تزيين الشيء وتمييزه، والله جميل يحب والمؤمن ينبغي أن يكون جميلا على صورة حسنة, قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قالوا: أفرأيت الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا وسمته حسنا- شكله جميل- قال: "ليس ذاك, إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس".
لكن في نفس الوقت ينبغي أن لا يأخذ هذا التحسين الظاهري منه جل وقته, كأن يقف أمام المرآة وقتاً طويلاً؛ ليسرح شعره بطريقة معينة ويلبس بشكل معين، فلا يكون المسلم عبدا للصورة, ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعس عبد الخميصة". والخميصة هي الثوب، فبعضهم لا يقدر أن يتخلى عن مظهر ألفه الناس عليه فيعطل صلوات وعبادات؛ لأنه يجب أن يظهر طول الوقت بمظهر معين أمام الناس, بل المهم أن يسعى في تحسين باطنه أولاً مع الحفاظ على حسن المظهر ثانياً, إنهما صورتان: خارجية وداخلية, فلا يهمل أحدهما.
يا عباد الله: إن المصوِّر -سبحانه- حرَّم التصويرَ على خلقه، وتوعَّد المصوِّرينَ مِن خلقِه ولعَنَهم، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلُّ مصوِّرٍ في النار" (مسلم)، وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ، فَأَفْتِنِي فِيهَا -وفي رواية أحمد: مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ-، فَقَالَ لَهُ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ". وفي رواية قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "وَيْحَكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ وَكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ" (مسلم) أي: إِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فصوِّر وارسم الشَّجَر والحجر والجبال والبحار، وسائر الجمادات التي لاَ نَفْس لَها.
وأجمع العلماء على أن النحوت والتماثيل هي الصورة المنهي عنها, والخلاف في باقي الأنواع غير أن الرسم باليد يدخل تحت نطاق هذا النهي.
فتذكر -أيها العبد الضعيف- قول الله لبني البشر: (يا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار: 6- 8].
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ حيث أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي