إن التطورَ والرقي لا يعني التخليَ عن كل موروث قديم، واحتضانَ كل وليد جديد، بل إن الرقي الحقيقي يكون باصطفاء النافعِ النقي من كل حديثٍ جديد، مع المحافظةِ على أمهات الأخلاق والفضائل التي كانت مفخرةً للعرب، ووافقها الإسلام وزادها، ووضع لها ضوابط تضبطها.
الحمد لله في سـرِّي وفي علني *** والحمد لله في حُزني وفي سَـعدي
الحمد لله عمّا كـنت أعلَمُـهُ *** والحمد لله عَمَّـا غـابَ عن خَلَدي
الحمد لله من عمَّـت فضــائلُهُ *** وأنـعُمُ الله أعيـت منـطِق العددِ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281].
ما أجمل أن ترى الأجيالَ تحافظ على أعرافِها العريقة، ودروبِها المطروقة، ومسالكها السالكة.
ما أروع أن ترى الشبابَ يأخذون ممن قبلهم، أخلاقَ الشهامةِ والكرم والعفةِ والشجاعة، ويضيفون عليها لمساتٍ تزيدها بهاءً وجمالاً.
إن التطورَ والرقي ومحاكاةَ العصر لا تعني التخليَ عن كل موروث قديم، واحتضانَ كل وليد جديد، بل إن الرقي الحقيقي يكون باصطفاء النافعِ النقي من كل حديثٍ جديد، مع المحافظةِ على أمهات الأخلاق والفضائل التي كانت مفخرةً للعرب، ووافقها الإسلام وزادها، ووضع لها ضوابط تضبطها.
فالعربي الشهم لا يظلم ولا يخون، عفيفُ النفسِ غضيضُ الطرف، لا يتطلع على عورات الآخرين، ولا يتعرض لأعراض المؤمنين الغافلين، سخيٌ كريم، منزلٌ للرجال منازلَهم.
ألا وإن من كريم الشمائل والخلال: أن يقدر الرجلُ من هو أكبر منه سناً وقدراً، فإذا رأيت من لا يتقدم على كبير في مجلس أو مركب، فاعلم أن هذه أمارةٌ على كمال عقله وتمام مروءته، وإذا رأيت من يكرم ذا الشيبة الكبير، فتيقن أن هذا نسلُ كرامٍ فضلاء، فلا زال للكبار مكانةٌ ومنزلة، ولا زالوا محل تبجيلٍ وتقديرٍ بفضل الله.
وليس من المروءة ولا من الشهامة ولا من الدين ولا كرامة: أن يتقدم الصغار على الكبار، أو يُستثقلَ حضورُ الكبار ويُتندرَ بهم.
ولا خوف على مجتمع يوقر فيه الكبير، ويُصدر فيه عن رأيه، ويُستفادُ من خبراته وتجاربه، والعقول عند العقلاء لا تقدر بثمن.
وحيث إن ديننا الحنيف دين الكمال والعدل والوفاء فقد أولى الكبيرَ مكانةً تليق به، فقال رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ".
وعندما أراد أحدُهم أن يتكلم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيه من هو أسن منه، قال له نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "كبر كبر"(متفق عليه)، وفيه إشارة إلى أهمية تقديم الكبير في الكلام ونحوه.
وهكذا كان خلق المسلمين على مر العهود والعصور يبجلون كبيرَهم ومن سبقهم، ويدعون لهم، وينزلونهم منزلتَهم: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10].
إن إكرام الكبير -أيها المسلمون- دليل على الوفاء والخلق النبيل، فليس من الوفاء الإعراضُ عمن أفنوا أعمارهم لإسعاد من بعدهم، وليس من حسن العهد الانصرافُ عمن بذلوا أوقاتهم وأموالهم لإرشاد من خلفهم.
فاللهم اغفر لهم وأكرم نزلهم، وبارك لهم في أعمارهم وأجسادهم، ووفقنا للإحسان إليهم وتوقيرهم.
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد: فيا عباد الله: أكرموا كبيرَكم، وارحموا صغيرَكم، وحافظوا على أعرافكم، فنحن من يحق له أن يفخر بأخلاقه، ويشرفُ غيرُنا بتقليدنا، ولا يصحُ أن نقلدَ غيرَنا، ونكون تبعاً لهم في طباعهم وسلوكهم.
وختاماً -أيها المؤمنون-: هذه همسة في أذن كل كبير موقَّر، خبيرٍ بأمور الأمور وأبعادها بأن يعطفَ على الصغير، ويحسنَ تعليمَه ويصبرَ عليه، فقد أصبحت الفجوةُ بين الأجيال شاسعة، وذهابُ أخلاق ِالأوائل متوقعة؛ فللكبير حقُّه بالتبجيل والتقديم، وللصغير حقُّه في التعليم والتوجيهِ والمحاورة، والحوارُ والنقاشُ لا يعارض الاحترامَ والتقدير، وبه يحصل النفع والتعليم.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان.
اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين.
اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
اللهم صل على نبينا محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي