أن نستقبل هذه العشر بتوبة إلى الله -جلَّ وعلا- من جميع الذنوب، من الصغائر ومن الكبائر، أن يتوب الإنسان إلى الله -جلَّ وعلا-، وأن يقلع عن المعصية، وأن يندم على ما اقترفته يداه، وأن يعزم ألا يعود إلى الذنوب مرةً أخرى، قبل أن يدخل العشر الأوائل من ذي الحجة.
الحمدُ لله رب العالمين؛ نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللَّهم صلِّ على سيدنا محمدٍ النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت ربنا على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
أَيُّها الأحبة في الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله -جلَّ وعلا-.
حديثي اليوم إلى حضراتكم أَيُّها الأحبة، يدور حول أحكام العشر الأوائل من ذي الحجة.
نعم أَيُّها الأحبة، فنحن على موعدٍ بعد يومين مع دخول شهر من الأشهر الحرم، ألا وهو شهر ذي الحجة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لنا في حديث رواه الإمام البخاري فضل العشر الأوائل من ذي الحجة؛ فقال: «ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله -تعالى- من هذه العشرة أيام"، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال:
"ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثُمَّ لم يرجع من ذلك بشيء"؛ فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث ما للعشر الأوائل الأولى من ذي الحجة من فضلٍ عظيم عند الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، حتى قال بعض أهل العلم: "إنها أفضل عند الله من العشر الأواخر من رمضان، في قول".
وبعض أهل العلم يرى أن هذه العشر هي ما أقسم الله -جلَّ وعلا- عليه في قوله: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر:1-2]؛ فذهب عبد الله بن عباس ومعه طائفة من الصحابة إلى أن المراد بالليالي العشر في قوله: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: هي العشر الأوائل من ذي الحجة.
من أجل هذا أَيُّها الأحبة ينبغي على كل مسلم أن يعلم أمرين:
الأمر الأول: أن نستقبل هذه العشر بتوبة إلى الله -جلَّ وعلا- من جميع الذنوب، من الصغائر ومن الكبائر، أن يتوب الإنسان إلى الله -جلَّ وعلا-، وأن يقلع عن المعصية، وأن يندم على ما اقترفته يداه، وأن يعزم ألا يعود إلى الذنوب مرةً أخرى، قبل أن يدخل العشر الأوائل من ذي الحجة.
الأمر الثاني: أن يعزم الإنسان بقلبه أن يستغل هذه العشرة أيام في عبادة الله -جلَّ وعلا-، وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من العبادات التي تقرب الإنسان من الله -جلَّ وعلا- في العشر الأوائل من ذي الحجة من أولها الصيام، وذكر منها المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة، وذكر منها الإكثار من ذكر الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، الإكثار من قولك: لا إله إلا الله؛ لأنه وردت بعض الروايات: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله فيها من هذه الأيام أو من هذه العشرة أيام، فأكثروا فيها من التهليل والتسبيح والتحميد"( أخرجه الطبراني في المعجم الكبير11116).
والتهليل: قولك "لا إله إلا الله". والتحميد: الإكثار من قول: الحمد لله. والتسبيح: الإكثار من قولك: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله.
ولذا بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث ما نفعله في هذه الأيام، بل أقول، وأخبرك أخي الحبيب: إن عبد الله بن عمر كان يكثر من ذكر الله -جلَّ وعلا- في هذه الأيام العشرة؛ لدرجة أنه كان يكبِّر في السوق، فيكبِّر أهل السوق، ثُمَّ ترتج مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتكبير في أيام العشر، وهذه سُنة.
الحجيج الآن يتوافدون على بلاد الحرمين الشريفين لأداء مناسك الحج والعمرة، والله -جلَّ وعلا- بيَّن لنا أن هذا الشهر العظيم من الأشهر الحرم، فله حرمة عند الله -جلَّ وعلا-، فينبغي على المسلم أن يكثر من ذكر الله -جلَّ وعلا-.
وأعظم الذكر: قراءة القرآن الكريم، أن تكون لك ختمة في هذه الأيام، ولقد ثبت عن بعض أمهات المؤمنين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُن جَمِيعًا-: "أربعٌ لم يكن يدعُهن النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مات"؛ هكذا نص الرواية، وذكرت منها: "وصيام عشر من ذي الحجة"، هذه الرواية التي روتها أم سلمة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "أربعٌ لم يكن يدعهن النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مات"، وذكرت منها: "ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام يوم عاشوراء"، ثُمَّ ذكرت من هذه الخصال التي لم يكن يدعها النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مات: "وصيام العشر من ذي الحجة"( أخرج أحمد في مسنده 26459)، وتحديدًا أَيُّها الأحبة هم تسعة أيام؛ لأن اليوم العاشر يوافق يوم عيد الأضحى وصيام يوم العيد حرام.
وصيام اليوم التاسع من ذي الحجة يوافق يوم عرفة، وصيام يوم عرفة سُنَّة مؤكدة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لغير الحاج، يعني: الحاج لا يُسنُّ له أبدًا ولا يُشرع له أن يصوم يوم عرفة، لماذا؟ لأن الحاج يقوم بأعمالٍ عظيمة، ويقوم بدعاء ووقوف بعرفة وابتهال إلى الله -جلَّ وعلا-، ويكابد مشاق السفر والتحمل والحر الشديد، ويقف في عرفات الموقف في أرض عرفات، فمن أجل هذا شرب النبي -صلى الله عليه وسلم- الماء وهو على ناقته أمام أعين الناس جميعًا يوم عرفة وهو في الحج؛ ليثبت للناس أنه ليس بصائم في أرض عرفة.
فإذًا صيام يوم عرفة سُنَّة لغير الحاج، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضله: "إني لأحتسب على الله -جلَّ وعلا- أن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين"(رواه مسلم 1162)، السنة الماضية والسنة التي أنت فيها، وله روايات كثيرة جدًّا في هذا الموضوع.
إذًا يوم التاسع من ذي الحجة يوافق يوم عرفة، فليحرص المسلم: أولاً: على المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة في المسجد، وخاصة صلاة الفجر. ثانيًا: يحرص المسلم على قراءة وِرد ثابت من القرآن الكريم. ثالثاً: يحرص المسلم على أذكار الصباح والمساء، وعلى الإكثار من قولك: لا إله إلا الله، والإكثار من التسبيح وكثرة الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-. مع الإكثار من الصدقة، والإكثار من صلة الأرحام.
هذه أيام عظيمة على الله -جلَّ وعلا-، والأعمال فيها والأجور فيها مضاعفة، والأعمال فيها لها أجر عظيم عند الله -جلَّ وعلا-.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث: "إذا دخل العشر من ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يَقْرَبَنَّ من شعر جَسَده ولا من أظافره"(رواه مسلم1977)، وهذه سُنَّةٌ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن من أراد أن يضحي، والأضحية كما تعلمون أَيُّها الأحبة، سُنَّة مؤكدة على القول الراجح عند أهل العلم، بينما يرى السادة الحنفية من فقهاء الأحناف، يرون أن الأضحية واجبة على كل مستطيع.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في فضل الأضحية: "من آتاه الله -جلَّ وعلا- مالاً وسعةً فلم يضحِ فلا يقربن مُصلانا" (رواه ابن ماجه 3123)، يقصد: مصلى العيد، والأضحية كما تعلمون أَيُّها الأحبة، الذبيحة وأريد بها هنا الخروف يكفي عن عائلة بأكملها، يعني عائل الأسرة والزوجة والأولاد.
والجَمل يكفي عن سبعة، وبعض البلاد تذبح البقرة، فالبقرة تكفي أيضًا عن سبعة، إلى آخر ذلك أَيُّها الأحبة. فإذا وكَّل الإنسان مَن يذبح عنه الأضحية في أي بلدٍ منكوبة من بلاد المسلمين فهل في هذه الحالة يُمسك عن أخذ أشعاره وأظافره؟ نعم، المضحي يمسك عن الأخذ من أشعاره وأظافره، إلا ما كان له ضرورة قصوى، كأظفر انشق نصفه ويؤلم صاحبه ويضعه في حرج فإذا أزاله فلا بأس في ذلك، يعني: ما كان للضرورة فالضرورة تقدر بقدرها، كأنما رجل يتأذى من مرضٍ في رأسه فأزال شعره فلا إثمَ عليه حينئذٍ.
وكذلك إذا أراد رب الأسرة أن يضحي، فهو يمسك عن هذا، لكن الزوجة لا يجب عليها ولا يلزمها أن تمسك عن الأخذ من أشعارها، بل يجوز لها ولبناتها ولأبنائها وللأسرة بأكملها أن يتزينوا وأن يقصوا أظافرهم وأن يتنظفوا، فالأب فقط أو رب الأسرة فقط أو المضحي فقط الذي قام بذبح الذبيحة هو الذي يمسك فقط عن الأخذ من أشعاره ومن أظافره، أما بقية الأسرة من البنين والبنات والزوجة والأم والأب فلا يلزمهم ذلك على الإطلاق.
إذًا أَيُّها الأحبة، إذا وسَّع الله عليك وضحيت بهذه الأضحية العظيمة، إذا منَّ الله -جلَّ وعلا- عليك بذلك فاعلم أن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لن ينال من لحومها، من اللحوم ولا من الدماء، وإنما ينال الإخلاص والتقوى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الحج:37]؛ فاحذر يا أخي الكريم من الرياء، وعليك بالإخلاص لله -جلَّ وعلا- في ذبح الأضحية: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) النسك المراد بها هنا الذبح، (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162-163].
ثُمَّ ثانيًا: بعد الإخلاص لله -جلَّ وعلا- عليك أن تراعي حق الفقراء فيها، وهو الثلث، فتتصدق بثلث الأضحية على الفقراء والمساكين، (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)[الحج:28]، فالله -جلَّ وعلا- أجاز لنا وأباح لنا أن نأكل من لحم الأضحية بمقدار الثلث، وأن نتصدق بالثلث الثاني، وأن نُهدي إلى الأصدقاء والأقارب والجيران الثلث الثالث؛ إذًا فهي تُقسَّم ثلاثة أقسام.
ويجوز للإنسان أن يضحي عن الميت إذا أوصى الميت قبل وفاته بذلك، يعني: كأنما رجل قال لأبنائه: إذا أنا متُّ يا أبنائي فضحوا عني كل سنة، ففي هذه الحالة الأضحية تلزم الأبناء والورثة أن يُضحوا عن أبيهم، أما ما عدا ذلك فلا يجب، يعني لا يجب على كل إنسان مات أبوه أن يضحي عنه، ولكن متى يجب؟ إذا أوصاك الأب بهذه الأضحية كل سنة فهي تلزمك إن شاء الله -جلَّ وعلا-، ولك أجرٌ كبيرٌ عند الله -جلَّ وعلا-.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللَّهم صلِّ على سيدنا محمدٍ النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت ربَّنا على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
أَيُّها الأحبة في الله، وهناك بعض الأنواع من الشياه ومن ماشية الأنعام لا تجزئ في الأضحية، ومنها الشاة الجلحاء التي ليس لها قرنان، وكذلك الشاة العجفاء، والشاة الهزيلة الضعيفة، وكذلك العوراء البيِّن عورها، فالمسلم دائمًا ما يضحي لله -جلَّ وعلا- بما يحب: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران:92]؛ لأن بعض الناس شعارهم: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ)[النحل:62]، الله أكبر! هؤلاء هم المنافقون؛ ينتقي أخبث الشياه ويجعلها لله -جلَّ وعلا-، أو يجعلها إحياءً للسُّنَّة، وهذا خطر كبير، (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ) معاذ الله، ولكن نتذكر قول الله -جلَّ وعلا-: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)؛ فالمسلم يتخيَّر من الشياه ومن بهيمة الأنعام أسمنها وأفضلها؛ لأن هذه قربى لك عند الله -جلَّ وعلا- تقربك من الله، وتأتي يوم القيامة بأظلافها وأشعارها تحجب عنك النار يوم القيامة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا جميعًا، يا رب العالمين، اللَّهم اغفر لنا جميعًا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللَّهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، واجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، اللَّهم لا تجعل فينا ولا بيننا ولا حولنا شقيًّا ولا مطرودًا ولا محرومًا، اللَّهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكانٍ يا رب العالمين، اللَّهم احقن دماء المسلمين في كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللَّهم ارفع راية الإسلام وراية التوحيد عاليةً خفاقة في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين، اللَّهم إن أردت بالناس فتنةً فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مُبدِّلين ولا مُغَيِّرين، اللَّهم أدِمْ على هذا البلد نعمة الأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين، اللَّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى يا رب العالمين، اللَّهم يسر الحج لمن أراد حج هذا العام يا رب العالمين، وتقبل منا جميعًا صالح أعمالنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللَّهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي