ماذا بعد الحج؟

صلاح بن محمد البدير
عناصر الخطبة
  1. دعوة للمحاسبة .
  2. الاستمرار على العمل الصالح .

اقتباس

إن الحاج منذ أن يُلبي وحتى يقضي حجه وينتهي فإن كل أعمال حجه ومناسكه تعرفه بالله، تذكره بحقوقه وخصائص ألوهيته جل في علاه، وأنه لا يستحق العبادة سواه، تعرفه وتذكره بأن الله هو الأحد الذي تُسلَم النفس إليه، ويوجَّه الوجه إليه، وأنه الصمد الذي له وحده تصمد الخلائق في طلب الحاجات، والعياذ من المكروهات، والاستغاثة عند الكربات؛ فكيف يهون على الحاج بعد ذلك أن يصرف حقًا من حقوق الله إلى غيره؟!

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله فإن تقواه أربح بضاعة، واحذروا معصيته فقد خاب عبد فرط في أمر الله وأضاعه، (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70، 71].

أيها المسلمون: إن عبادة العبد لربه هي رمز خضوعه ودليل صدقه وعنوان انقياده، شرف ظاهر، وعزّ فاخر، العبودية أشرف المقامات، وأسمى الغايات، اختارها المصطفى لنفسه على سائر المراتب والمقامات، فعن أبي هريرة قال: "جلس جبريل إلى النبي فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خُلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد، أرسلني إليك ربك، أفملِكا نبيًا يجعلك أم عبدًا رسولا؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد، فقال: بل عبدًا رسولاً" أخرجه أحمد بإسناد صحيح.

أيها المسلمون: في الأيام القليلة الخالية قضى الحجاج عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أعظم القربات، تجردوا لله من المخيط عند الميقات، وهلت دموع التوبة في صعيد عرفات على الوجنات، خجلاً من الهفوات والعثرات، وضجت بالافتقار إلى الله كل الأصوات بجميع اللغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفة للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلة من أروع الرحلات، وسياحة من أجمل السياحات، عاد الحجاج بعد ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضله، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، خير من الدنيا وأعراضها وأغراضها التي ما هي إلا طيف خيال، مصيره الزوال والارتحال، ومتاعٌ قليل، عرضة للآفات، وصَدَف للفوات، فهنيئًا للحجاج حجُهم، وللعُبَّاد عبادتهم واجتهادهم، وهنيئًا لهم قول الرسول فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: "إذا تقرب العبد إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة" أخرجه البخاري.

حجاج بيت الله الحرام: اشكروا الله على ما أولاكم، واحمدوه على ما حباكم وأعطاكم، تتابع عليكم برّه، واتصل خيره، وعم عطاؤه، وكملت فواضله، وتمت نوافله، (وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53]، (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل: 18].

حجاج بيت الله الحرام: ظنوا بربكم كل جميل، وأملوا كل خير جزيل، وقوّوا رجاءكم بالله في قبول حجكم، ومحو ما سلف من ذنوبكم، فقد جاء في الحديث القدسي: "قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي" أخرجه الشيخان، وعن جابر أنه سمع النبي قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل" أخرجه مسلم، وعند الحاكم وصححه أن رسول الله قال: "حسن الظن بالله من حسن العبادة" .

أيها المسلمون: يا من حججتم البيت العتيق، وجئتم من كل فج عميق، ولبيتم من كل طرف سحيق، ها أنتم وقد كمل حجكم وتم تفثكم، بعد أن وقفتم على هاتيك المشاعر، وأديتم تلك الشعائر، ها أنتم تتهيؤون للرجوع إلى دياركم، فاحذروا من العودة إلى التلوث بالمحرمات، والتلفع بالمعرات، والتحاف المسبات، (وَلاَ تَكُونُواْ كَلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـاثًا) [النحل: 92]، امرأة حمقاء خرقاء، ملتاثة العقل، تجهد صباح مساء في معالجة صوفها، حتى إذا صار خيطًا سويًا ومحكمًا قويًا عادت عليه تحل شعيراته، وتنقض محكماته، وتجعله بعد القوة منكوثًا، وبعد الصلاح محلولاً، ولم تجن من صنيعها إلا الإرهاق والمشاق، فإياكم أن تكونوا مثلها، فتهدموا ما بنيتم، وتبددوا ما جمعتم، وتنقضوا ما أحكمتم.

حجاج البيت العتيق: لقد فتحتم في حياتكم صفحة بيضاء نقية، ولبستم بعد حجكم ثيابًا طاهرة نقية، فحذار حذار من العودة إلى الأفعال المخزية، والمسالك المردية، والأعمال الشائنة، فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة، وما أقبح السيئة بعد الحسنة.

أيها المسلمون: إن للحج المبرور أمارة، ولقبوله منارة، سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحج المبرور؟ فقال: "أن تعود زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة"، فليكن حجكم حاجزًا لكم عن مواقع الهلكة، ومانعًا لكم من المزالق المتلفة، وباعثًا لكم إلى المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، واعلموا أن المؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلول الأجل.

أيها المسلمون: ما أجمل أن يعود الحاج بعد حجه إلى أهله ووطنه بالخلق الأكمل، والعقل الأرزن، والوقار الأرصن، والعرض الأصون، والشيم المرضية، والسجايا الكريمة، ما أجمل أن يعود الحاج حسن المعاملة لقِعاده، كريم المعاشرة لأولاده، طاهر الفؤاد، ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد، المضمر منه خير من المظهر، والخافي أجمل من البادي، وإن من يعود بعد الحج بتلك الصفات الجميلة هو حقًا من استفاد من الحج وأسراره ودروسه وآثاره.

أيها المسلمون: إن الحاج منذ أن يُلبي وحتى يقضي حجه وينتهي فإن كل أعمال حجه ومناسكه تعرفه بالله، تذكره بحقوقه وخصائص ألوهيته جل في علاه، وأنه لا يستحق العبادة سواه، تعرفه وتذكره بأن الله هو الأحد الذي تُسلَم النفس إليه، ويوجَّه الوجه إليه، وأنه الصمد الذي له وحده تصمد الخلائق في طلب الحاجات، والعياذ من المكروهات، والاستغاثة عند الكربات؛ فكيف يهون على الحاج بعد ذلك أن يصرف حقًا من حقوق الله من الدعاء والاستعانة والذبح والنذر إلى غيره؟! وأي حج لمن عاد بعد حجه يفعل شيئًا من ذلك الشرك الصريح والعمل القبيح؟!

أيها المسلمون: أين حج لمن عاد بعد حجه يأتي المشعوذين والسحرة، ويصدق أصحاب الأبراج والتنجيم وأهل الطيرة، ويتبرك بالأشجار، ويتمسح بالأحجار، ويعلق التمائم والحروز؟!

أيها المسلمون: أين أثر الحج فيمن عاد بعد حجه مضيعًا للصلاة، مانعًا للزكاة، آكلاً للربا والرشا، متعاطيًا للمخدرات والمسكرات، قاطعًا للأرحام والغًا في الموبقات والآثام؟!

حجاج البيت العتيق: يا من امتنعتم عن محظورات الإحرام أثناء حج بيت الله الحرام، إن هناك محظورات على الدوام، وطول الدهر والأعوام، فاحذروا إتيانها وقربانها، يقول جل وعلا: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ) [البقرة: 229].

أيها المسلمون: من لبى لله في الحج مستجيبًا لندائه كيف يلبي بعد ذلك لدعوة أو مبدأ أو مذهب أو نداء يناهض دين الله الذي لا يقبل من أحد دين سواه؟!

من لبى لله في الحج كيف يتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعته، أو ينقاد لغير حكمه، أو يرضى بغير رسالته؟!

من لبى لله في الحج فليلبِّ له في كل مكان وزمان بالاستجابة لأمره أنى توجهت ركائبه، وحيث استقلت مضاربه، لا يتردد في ذلك ولا يتخير، ولا يتمنع ولا يضجر، وإنما يذل ويخضع، ويطيع ويسمع.

يا عبد الله: يا من غابت عنه شمس هذه الأيام ولم يقضها إلا في المعاصي والآثام، يا من ذهبت عليه مواسم الخيرات والرحمات وهو منشغل بالملاهي والمنكرات، أما رأيت قوافل الحجاج والمعتمرين والعابدين؟! أما رأيت تجرد المحرمين، وأكفّ الراغبين، ودموع التائبين؟! أما سمعت صوت الملبين المكبرين المهللين؟! فما لك قد مرّت عليك خير أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُد عليك الوثاق؟!.

يا من راح في المعاصي وغدا، يقول: سأتوب اليوم أو غدًا، يا من أصبح قلبه في الهوى مبددًا، وأمسى بالجهل جلمدًا، وبالشهوات محبوسًا مقيدًا، تذكر ليلة تبيت في القبر منفردًا، وبادر بالمتاب ما دمت في زمن الإنظار، واستدرك فائتًا قبل أن لا تُقال العثار، وأقلع عن الذنوب والأوزار، واعلم أن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار.

ويا من تقلبتَ في أنواع العبادة، الزم طريق الاستقامة، وداوم العمل فلست بدار إقامة، واحذر [الإدلال] والرياء فربّ عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية، يقول بعض السلف: من سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته.

وكن على خوف ووجل من عدم قبول العمل، فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية: (وَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60]، فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تقبل منهم (أُوْلَـئِكَ يُسَـارِعُونَ في الْخَيْرتِ وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ)" أخرجه الترمذي.

فاتقوا الله عباد الله في كل حين، وتذكروا قول الحق في كتابه المبين: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27].

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي آوى من إلى لطفه أوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له داوى بإنعامه من يئس من أسقامه الدوا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله من اتبعه كان على الخير والهدى، ومن عصاه كان في الغواية والردى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد، واعلموا أن الدنيا مضمار سباق، سبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فرحم الله عبدًا نظر فتفكر، وتفكر فاعتبر، وأبصر فصبر، ولا يصبر على الحق إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته (إِنَّ الْعَـاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود: 49].

عباد الله: أنتم في الدنيا أغراض المنايا، وأوطان البلايا، أنتم الأخلاف بعد الأسلاف، وتكونون الأسلاف قبل الأخلاف، فاغتنموا زمنكم، وجاهدوا أنفسكم، فإن المجاهدة بضاعة العُبَّاد، ورأس مال الزُهَّاد، ومدار صلاح النفوس، وسددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا.

أيها المسلمون: يا من قضيتم حجكم، وأنعم الله عليكم بالوصول إلى طابة، تذكروا وأنتم تطؤون هذه الأرض المباركة أنها الأرض التي وطئتها أكرم قدمين، والبلدة التي عاش عليها سيد الثقلين محمد، فالله الله في تعلم سنته، ومعرفة سيرته، والسير على طريقته، واتباع هديه، واقتفاء منهجه، ولن يتحقق لكم ذلك الهدف المنشود إلا بالاستعانة بالله المعبود، (وَمَن يَعْتَصِم بِللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرطٍ مّسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101].

حجاج بيت الله العتيق: ليكن حجكم أول فتوحكم، وتباشير فجركم، وإشراق صبحكم، وبداية مولدكم، وعنوان صدق إرادتكم، تقبل الله حجكم وسعيكم، وأعاد الله علينا وعليكم هذه الأيام المباركة أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، والأمة الإسلامية في عزة وكرامة، ونصر وتمكين، ورفعة وسؤدد.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي