1/صيغ اليمين وبيان الشريعة لآدابه وأحكامه واستعمالات اليمين 2/جواز اليمين وعدم الاكثار منه 3/الحلف الله أو بصفة من صفاته 4/صور الحلف بغير الله 5/أنواع الأيمان الجارية على ألسنة الناس وآدابها وأحكامها 6/مسائل مهمة متعلقة باليمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: أُقسمُ بالله، أَحلفُ بالله، والله وبالله وتالله، والذي نفسي بيده، أو أُقسم بكذا، أو وكذا إنه كان كيت وكيت، هذه جملة من صيغ التي تجري على ألسنة الناس حين إرادة اليمين وتأكيد الأمور.
ولا شك أن هذه المسألة من مسائل الدين التي بينتها الشريعة الإسلامية؛ فذكرتْ آدابها، ووضحت أحكامها.
وعلينا نحن المسلمين أن نعرف ذلك؛ حتى نعلم الحلال فنأتيه، وندري بالحرام فنجتنبه.
ومن المشاهد في الواقع وجود جهلٍ بهذه المسألة لدى بعض المسلمين؛ حيث يقعون في محظورات، وأخطاء تتعلق بهذه بالأيمان.
فجدير بنا أن نتفقه في هذا الموضوع؛ حتى لا نقع فيما حرم الله -تعالى- ورسوله في الإقسام والأيمان.
عباد الله: يستعمل الإنسانُ اليمين حينما يريد أن يؤكد خبراً، أو يحث على فعل شيء، أو يمنع منه، فهو وسيلة له عندما يريد أن يقنع مخاطبه بصدقه إن كان خبراً، أو بعدم إخلافه إن كان قوله وعداً أو وعيداً، وهو وسيلة له لتقوية عزمه على فعل شيء يخشى تركه، أو ترك شيء يخشى فعله.
إن اليمين مشروعة ولا منعَ منها؛ فقد أقسم الله -تعالى- في مواضع كثيرة من كتابه؛ كقوله تعالى: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)[الذاريات: 23]، وقال: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)[الضحى: 3]، وأقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحوال مختلفة، كقوله عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"(متفق عليه)، وقوله عليه الصلاة والسلام: "وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة وإن وكان لمن أحب الناس"(متفق عليه).
واليمين يختلف حكمها باختلاف موضوعها الذي جاءت له؛ فقد تكون اليمين واجبة إذا كان المقصود بها إثباتَ الحق لصاحبه، وذلك حينما يتوقف إثبات الحق على اليمين، وتكون اليمين محرمة إذا كانت على فعل محرم، أو ترك واجب، مثل لو حلف رجل على ترك الصلاة، أو شرب الخمر، وتكون اليمين مستحبة إذا توقف عليها فعل مستحب، وكذلك تكون مكروهة إذا توقف عليها فعل مكروه.
أيها الإخوة الفضلاء: ومع كون اليمين مشروعة إلا أن الأفضل للمسلم أن لا يكثر منها؛ لأنه ربما يعجز عن الوفاء بما حلف عليه، إلا أن تكون اليمين في طاعة من فعل واجب أو مندوب وترك حرام أو مكروه، يقول الله -تعالى-: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)[المائدة: 89] أي: "قلِّلوها، ولا تكثروا منها، أو احفظوها إذا حلفتم عن الحنث"، والمقصود: ولا تكثروا من الأيمان الصادقة، فضلاً عن الأيمان الكاذبة، وهو وجه في قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)[البقرة: 224]، وإذا حلفتم فلا تنسوا ما حلفتم عليه ولا تحنثوا فيه إلا لضرورة عارضة أو مصلحة راجحة".
ومن الأحوال المؤسفة -معشر المسلمين-: أن نجد بعض الناس قد لانت ألسنتهم بكثرة الأيمان من غير حاجة، فصاروا لا يستطيعون عدَّ ما يحلفون من الأيمان كل يوم، فهم يسرفون في القسم في أمور لا تحتاج إلى قسم، في بيوتهم وأماكن أعمالهم ومجالسهم مع غيرهم.
وتعظيمُ الله وتقدسيه يقتضي التقليل من ذلك.
أيها المسلمون: إن على المسلم إذا أراد أن يحلف: أن لا يحلف إلا بالله -تعالى- وحده، ولا يحلف بغيره، فيقسم باسم من أسماء الله -تعالى-؛ مثل: والله، ورب الكعبة، أو أقسم برب العالمين، أو يقسم بصفة من صفاته تعالى؛ مثل: وعزة الله، وقدرة الله، والذي رفع السماء بلا عمد، ونحو ذلك من الصفات، قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"(متفق عليه)، وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا أيوب يغتسل عريانًا فخرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتُك عما ترى؟ قال: بلى، وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك"(رواه البخاري).
وعلى هذا لا يحل للمرء أن يحلف بغير الله -تعالى-، وإنما يحلف المخلوق بالخالق، ولا يحلف بشيء من الخلائق؛ من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين أو الأولياء أو العظماء أو الآباء، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله وإلا فليصمت" قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها ذاكراً ولا آثراً(متفق عليه).
وعن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يُحلَف بغير الله؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"(رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرطهما)، وفي رواية للحاكم: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل يمين يحلف بها دون الله شرك".
عباد الله: إن للحلف بغير الله -تعالى- صوراً متعددة؛ فمنها: الحلف بالأمانة، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: "من حلف بالأمانة فليس منا"(رواه أحمد وابن حبان وأبو داود، وهو صحيح) قال العلماء: "معناه: "ليس على هدينا، وجميل طريقتنا".
ومنها: الحلف بغير ملة الإسلام كأن يقول: هو يهودي أو نصراني ما فعل هذا، أو أنه سيفعل كذا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمداً فهو كما قال"(متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فهو كما حلف؛ إن قال: هو يهودي فهو يهودي، وإن قال: هو نصراني فهو نصراني، وإن قال: هو بريء من الإسلام فهو بريء من الإسلام"(رواه الحاكم وأبو يعلى، وهو صحيح).
ومنها: الحلف بالنبي، أو الشرف، أو رؤوس الأولاد، أو الرتبة العسكرية، أو الحياة أو العيش، أو حق فلان وعلان، أو غير ذلك، فمن حلف بصورة من هذه الصور ونحوها معتقداً أن للمحلوف به منزلةً مثل الله -تعالى- فهو مشرك شركاً أكبر، وإن كان لا يعتقد ذلك ولكن كان في قلبه من تعظيم المحلوف به ما حمله على أن يحلف به دون أن يعتقد أن له منزلة مثل منزلة الله فهو مشرك شركاً أصغر.
ولا ريب أن الحالف بغير الله على كل حال آثمٌ، وليس هناك كفارة على اليمين بغير الله في حال الحنث عند أكثر العلماء؛ لأنها لم تنعقد يمينًا شرعية، وذهب بعضهم إلى الكفارة.
ولكن عليه أن يقول: لا إله إلا الله؛ كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق"(متفق عليه).
فقد "كان أهل الجاهلية قد جرى على ألسنتهم الحلف باللات والعزى، فلما أسلموا ربما جروا على عادتهم من ذلك من غير قصد منهم، فكان من حلف بذلك فكأنه قد راجع حاله إلى حالة الشرك، وتشبه بهم في تعظيمهم غيرَ الله، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من عرض له ذلك بتجديد ما أنساهم الشيطان أن يقولوا: لا إله إلا الله، فهو كفارة له؛ إذ ذلك براءة من اللات والعزى ومن كل ما يعبد من دون الله ... وقول ذلك واجب عليه مع إحداث التوبة، والندم على ما قال من ذلك، والعزم على ألا يعود، ولا يعظم غير الله".
أيها الإخوة الفضلاء: إن اليمين التي تجري على ألسنة الناس ليست نوعًا واحداً، بل ثلاثة أنواع: فإما أن تكون يمينًا غموسًا، وإما أن تكون لغوَ يمين، وإما أن تكون يمينًا معقودة.
فأما اليمين الغموس فهي اليمين الكاذبة، بحيث يتعمد فيها الحالف الكذب، وهذه اليمين يأثم صاحبها إثمًا عظيمًا؛ لأنها استهانة بالله -تعالى-، فمن ارتكبها فعليه أن يتوب إلى الله -تعالى- توبة نصوحًا ويستغفر من هذا الذنب العظيم، ولا كفارة لهذه اليمين الفاجرة عند الجمهور؛ لأن الذي أتى به حالفها أعظم من أن تمحوه الكفارة، فيكون في هذا زجر لمن تسول له نفسه ويزين له شيطانه أن يقول: أحلفُ، وبعد ذلك أكفِّر، والكفارة سهلة عليّ، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كنا نعد من الذنب الذي ليس له كفارة اليمين الغموس"(رواه الحاكم، وهو صحيح).
عباد الله: إن المشاهد للواقع يجد بعض الناس قد تهاونوا في شأن اليمين الكاذبة، فصاروا يحلفون بالله -تعالى- كاذبين من غير خوف من الله ولا وجل؛ فالمرأة تحلف لزوجها أو للنساء كاذبة، جادة أو مازحة، وبعض الرجال يحلف كاذبًا لأخذ حقوق الناس كالأراضي والأموال والشهوات الدنيوية، ولا يفكر في لقاء ربه وقد حلف به كاذبًا، بل من الدواهي أن صارت اليمين الغموس وسيلة للتكسب يتكسب بها بعض من لا يخافون الله حيث يقفون على أبواب بعض المحاكم ليبيعوا شهادة الزور لمن يطلبها ويحلفون على شهادتهم كاذبين: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[المطففين: 4-6].
فاسمعوا -عباد الله- هذه الزواجر الدالة على خطر هذه اليمين، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس"، وفي رواية: أن أعرابيًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله" قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس" قال: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال امرئ مسلم" يعني بيمين "هو فيها كاذب"(رواه البخاري والترمذي والنسائي).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس مما عُصي الله به هو أعجل عقابًا من البغي، وما من شيء أُطيع الله فيه أسرع ثوابًا من الصلة، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع"(رواه البيهقي، وهو حسن) أي: خالية من سكانها إذا توافقوا على التجرؤ على الأيمان الفاجرة.
وعن عبد الله بن أنيس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، والذي نفسي بيده لا يحلف رجل على مثل جناح بعوضة إلا كانت كيًا في قلبه يوم القيامة"(رواه الترمذي، وهو حسن صحيح).
وكم في التاريخ والواقع من أمثلة تدل على العاقبة السيئة للحالفين اليمينَ الغموس، خاصة في أموال الناس ودمائهم، فقد روى البخاري عن ابن عباس قصة تبين أثر اليمين الكاذبة خلاصتها: أن رجلاً من قريش استأجر في الجاهلية رجلاً من بني هاشم ليكون معه على إبله في رحلة له، فمر بالأجير رجلٌ يحتاج عقالَ بعير فأعطاه، فلما نزلوا عقل الإبل كلها إلا بعيراً، فقال صاحب الإبل: لم لم تعقل هذا البعير؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟! فحذفه بعصا كان فيها أجلُه، فمر به رجل من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؟ قال: نعم، فأوصاه أنه إن جاء مكة أن يقول لأبي طالب: إن فلانًا قتله بعقال. فرجع ذلك القرشي إلى مكة فسأله أبو طالب عن صاحبهم، فأخبره أنه مرض فأحسن إليه حتى مات. ثم إن ذلك اليمني وافى الموسم فبحث عن أبي طالب فأخبره الخبر، فذهب أبو طالب إلى القاتل فخيّره بين ثلاث: إما أن يدفع الدية مائة من الإبل، وإما يحلف قومه خمسين يمينًا أنه ما قَتل، وإما أن يُقتل بصاحبهم. فاختار قومه اليمين، فاجتمع الخمسون رجلاً، فجاءت امرأة فأدت عن ابنها إلى أبي طالب بعيرين حتى لا يحلف، وجاء رجل ففدى نفسه عن يمينه ببعيرين كذلك، قال ابن عباس: وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا، فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف" يعني: ما دارت السنة إلا وقد مات أولئك الحالفون الكاذبون جميعًا.
عباد الله: وأما النوع الثاني من أنواع اليمين فهو: يمين اللغو، ومعناها: أن يحلف الإنسان على شيء في الماضي أو الحال أنه كذا فيتبين الأمر بخلاف ذلك، ومن صورها: ما يجري على اللسان من القسم من غير قصد، بأن تسبق اليمين إلى اللسان بدون عزم وعقد.
فهذه اليمين لا إثم فيها ولا كفارة إذا حصل الحنث؛ لقوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[البقرة: 225]، وقوله: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ)[المائدة: 89] يعني: لا يعاقبكم الله -أيها المسلمون- إذا حنثتم أو نكثتم ما عقدتم، فيما لا تقصدون عَقْدَه من الأيمان، ولكن يعاقبكم فيما قصدتم عقده بقلوبكم.
وأما النوع الثالث فهو: اليمين المنعقدة أو المؤكدة، وهي اليمين على أمر مستقبل أن يُفعل أو يُترك، كأن يقول: والله لأفعلن كذا، أو والله لا أفعل كذا، فهذه اليمين واجبة الوفاء إذا كان الحلف على فعل أمر واجب، أو على ترك شيء محرم، فإن كانت اليمين على ارتكاب أمر محرم فإن الحنث حينئذ يصير واجبًا.
فإذا حنث الحالف في هذه اليمين بأن فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله وجبت عليه الكفارة، قال تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 89].
وفي هذه الكفارة أمران: الأمر الأول: نرى في الكفارة مظهراً من مظاهر رحمة الله -تعالى- بعباده؛ حيث شرع لهم اليمين عند الحنث محواً للإثم، وتخفيفًا عن النفس؛ لأنه لو لم يُشرع ذلك لوجب على الإنسان أن يفي بما حلف عليه، وقد يكون عليه في ذلك إثم أو مشقة، فخفف الله عن العبد بالكفارة.
والأمر الثاني: أن الله -تعالى- نص على أن الكفارة على التخيير ثم على الترتيب، فالحانث مخير أولاً بين الإطعام والكسوة وتحرير رقبة، فإذا لم يجد أو يقدر على واحد من ذلك فيصوم ثلاثة أيام.
فأما الإطعام فهو أن يصنع أو يشتري طعامًا وسطًا كافيًا لعشرة مساكين، أو يعطي كل مسكين كيلو ونصف الكيلو من الطعام من حنطة أو أرز، أو مما يؤكل طعامًا هناك في حال الاختيار.
وأما الكسوة فهي أن يكسو كل مسكين بما يسمى كسوة في تلك البلاد، وهذا يختلف باختلاف عادة البلدان، فقد يكون قميصًا وبنطالاً، وقد يكون ثوبًا وطاقية، وقد يكون إزاراً ورداء.
فإذا عجز الحانث عن ذلك صام ثلاثة أيام متتابعة أو متقطعة، وإن كان التتابع أفضل، والله أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: أيها المسلمون: هناك مسائل مهمة تتعلق باليمين ينبغي أن نعرفها، فمن تلك المسائل: أولاً: أن يستحسن في اليمين المنعقدة أن يقول الحالف: إن شاء الله عقب يمينه مباشرة؛ حتى لا تلزمه اليمين ولا تجب عليه كفارة إذا حنث، فمن قال: والله إن شاء الله سأفعل كذا -ولم يكن واجبًا عليه- فلم يفعله فلا كفارة عليه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه"(رواه الترمذي وابن ماجه، وهو صحيح).
ثانيًا: أن الحنث يُشرع في اليمين إذا كان خيراً من المضي في الحلف، فيكون الحنث مستحبًا، بل قد يكون واجبًا كمن حلف على فعل أمر محرم كعقوق والديه أو قطع رحمه، عن أبي موسى الأشعري قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان فاستحملناه، فحلف أن لا يحملنا، ثم قال: "والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها"(متفق عليه).
ثالثًا: يستحب للمسلم أن يبر يمين أخيه المقسم إذا لم يكن في إبراره معصية لله، أو ضرر على نفسه، فلو قال لك أخوك المسلم: والله إنك ستأخذ كذا، وليس عليك ضرر في ذلك فإنه يستحب لك أن توافقه؛ لأن هذا من حق المسلم على أخيه المسلم، ففي حديث البراء -رضي الله عنه- في الصحيحين قال: "أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا باتباع الجنائز وعيادة المريض، وإجابة الداعي ونصر المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس..."، ولولا أنه عليه الصلاة والسلام ذكر في هذه السبع الخصال بعض الأشياء المستحبة باتفاق كإفشاء السلام لكان إبرار المقسم واجبًا.
رابعًا: من حلف على فعل شيء أو تركه فحنث في يمينه مكرَهًا أو ناسيًا أو نائمًا أو فاقداً للوعي؛ فليس عليه كفارة؛ لأنه لا تكليف في تلك الأحوال، قال تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)[البقرة: 286]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسيانَ، وما استُكْرِهُوا عليهِ"(رواه ابن ماجه والبيهقي، وهو صحيح).
خامسًا: إن حلف الإنسان محرِّمًا على نفسه شيئًا حلالاً بقصد حث نفسه على الامتناع من ذلك فإن ذلك الشيء لا يصير حرامًا بتحريمه على نفسه، فإذا قال: والله لا آكل هذا الطعام أو لا أشرب هذا الشراب، ثم أكل أو شرب فعليه كفارة يمين ويبقى الطعام حلالاً، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[التحريم: 1]، (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[التحريم: 2]، وقد نزلت الآيتان في تحريم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نفسه العسل، في قصة مشهورة(متفق عليه).
أيها الأحباب الكرام: من المسائل المتعلقة باليمين أيضًا: أنه يُكره كثرة اليمين الصادقة في البيع والشراء، أما اليمين الكاذبة فإنها حرام صراح وهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم تغمسه في النار إذا مات ولم يتب منها. وقد بُلي بعض الباعة اليوم بكثرة اليمين الصادقة واليمين الكاذبة من أجل ترويج بضاعته وحصوله على ربح أكثر؛ لكن ذلك يعود عليه في عاقبة أمره بالخسارة في دينه وماله، وإن ظن أنه رابح، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحلف مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقَةٌ للبركة"(متفق عليه)، وفي رواية: "ممحقة للربح"(رواه مسلم)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم وكثرة الحلف في البيع؛ فإنه يُنفِق ثم يُمحِق"(متفق عليه).
إن من المسائل الخطيرة في باب اليمين -عباد الله-: تساهلَ بعضِ الناس بالحلف بالطلاق، كأن يقول: عليه الحرام والطلاق، وما أشبهها من العبارات التي يقصد بها الزوج الحث أو المنع أو التصديق، فعلى المسلمين: أن يتجنبوا مثل هذه الكلمات، وأن لا يتساهلوا في إطلاق الطلاق؛ لأن الأمر خطير عظيم، وإذا أرادوا أن يحلفوا فليحلفوا بالله عز وجل أو ليصمتوا، والحلف بالطلاق سواء كان على الزوجة أم على غيرها اختلف في شأنه أهل العلم؛ فأكثرهم يرون أنه طلاق وليس بيمين، وأن الإنسان إذا حنث فيه وقع الطلاق على امرأته، ويرى آخرون أن الحلف بالطلاق إن قصد به اليمين فهو يمين وإن قصد به الطلاق فهو طلاق؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرئ ما نوى"، وهذا القول هو الراجح.
ومن مسائل اليمين بين الزوجين: قول بعض الأزواج: إن زوجته عليه حرام، أو يقول لزوجته: أنت علي حرام، ولم يضفها إلى أمه أو إحدى محارمه؛ مثل: كظهر أمي أو مثل أختي، ونحو ذلك، فإذا قال الزوج: إن زوجته عليه حرام فله أربع حالات: إن نوى بهذه الجملة الظهار فهو ظهار، وإن نوى بها الطلاق فهو طلاق، وإن نوى بها اليمين فهي يمين، وإن لم يحدد في نيته إحدى تلك الأمور فهي يمين.
فاتقوا الله -عباد الله- واعرفوا ما شُرع لكم في الأيمان فافعلوه، وما نُهيتم عنه فتجنبوه، واعلموا أن الخير كل الخير في امتثال أوامر الشريعة، وتجنب مناهيها، فطوبى لمن علمَ فعمل، ولم يتجاوز حدود ما شرع الله ورسوله له.
هذا وصلوا على خير البشر...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي