إن موتَ الْفَجْأَةِ من أقدار الله التي يقضي بها في عباده بأن يصيبَ الموتُ العبدَ مفاجأة من غير إمهال ولا إخطار، وإنما هجوما تنسل به الروح من غير معاناة سكرات الموت ومقدماته. ثم إن موتَ الْفَجْأَةِ يحتمل أن يكون خيرا، ويحتمل أن يكون شرا، وذلك بحسب اختلاف حال المتوفى، وما له عند الله -عز وجل-، فإذا...
لقد أخبرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عن أعمال وأقوال تغضب الله -عز وجل- وتسخطه، وحذرنا من الوقوع فيها، فمتى ما حل على العبد غضبُ الله فقد هوى، قال تعالى: (وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)[طـه: 81].
أيها الإخوة في الله: كنت قد ذكرت لكم في ثماني خطبٍ سابقة، عن بعض الأعمال التي تغضب الله -عز وجل-، ولا يزال هناك العديد من تلك الأقوال والأفعال التي تؤدي إلى غضب الله -عز وجل- على العبد، ومنها: موت الفجأة، فموت الفجأة -أعاذنا الله جميعا منه-؛ هو علامة من علامات غضب الله على العبد إذا أماته وهو على معصية، أو مات ولم يتب من معاصيه بعد، فقد روى عُبَيْدُ بْنُ خَالِدٍ السُّلَمِي -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَوْتُ الْفَجْأَةِ أَخْذَةُ أَسِفٍ"(رواه أبو داود).
ومعنى: "أخذة أسف" أي أخذة غضب، وذلك لقوله عز وجل: (فَلَمَّا آسفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)[الزخرف: 55] أي فلما أغضبونا بمعاصيهم انتقمنا منهم، فموت الفجأة أخذة غضب من الجبار -جل في علاه-، إذ لم يتركِ العبد ليتوب ويستعد للآخرة، ولم يُمرضه ليكونَ المرضُ كفارة له، ومذكرا بقرب الأجل فيستعد للقاء الله، وإنما أخذه فجأة دون مقدمات؛ كما قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)[الأعراف: 95].
إن موت الفجأة قد كثر في هذا الزمان، فها هي تكثر الجلطات والسكتات القلبية وحوادث السيارات والطائرات التي تحصد الناس دون مقدمات، وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك من علامات اقتراب الساعة، إذ روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من اقتراب الساعة أن يُرى الهلال قبُلا فيقال: لليلتين، وأن تُتخذُ المساجد طرقا، وأن يَظهرُ مَوْتُ الْفَجْأَةِ"(رواه الطبراني وحسنه الألباني).
إن موتَ الْفَجْأَةِ من أقدار الله التي يقضي بها في عباده بأن يصيبَ الموتُ العبدَ مفاجأة من غير إمهال ولا إخطار، وإنما هجوما تنسل به الروح من غير معاناة سكرات الموت ومقدماته.
ثم إن موتَ الْفَجْأَةِ يحتمل أن يكون خيرا، ويحتمل أن يكون شرا، وذلك بحسب اختلاف حال المتوفى، وما له عند الله -عز وجل-، فإذا كان المتوفَّى من أهل الصلاح والخير، وله عند الله من الحسنات والأعمال الصالحة ما يُرجَى أن تكون نورا بين يديه يوم القيامة: فجميع صور الموت بالنسبة له من الخير، سواء موت الفجأة، أو بعد معاناة سكرات الموت.
فموت الفجأة في حقه رحمة وتخفيف وعفو من رب العباد، فلا يجد من ألم الموت وشدة سكراته ومعاناة مرضه شيئا يذكر، وإن وقع له ذلك ولم يكن موته فجأة، كان تكفيرا لسيئاته، ورفعة لدرجاته عند الله، وذلك تصديق لما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أمر المؤمن كله له خير، وأن موت المؤمن راحة له من نصب الدنيا وعذابها، إلى نعيم الآخرة.
أما إذا كان المُتوفَّى من المقصرين والمسرفين على أنفسهم، أو الفسقة الظلمة أو الكفرة: فموتُ الفجأة بالنسبة له نقمة وغضب، إذ عوجل بالموت قبل التوبة، ولم يُمهَل كي يستدركَ ما مضى من تفريطه وتقصيره، فأُخِذَ أخذةَ انتقام وغضب كما وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "مَوْتُ الْفَجْأَةِ أَخْذَةُ أَسَفٍ"، فهل نحن مستعدون لموت الفجأة؟
فالموت لا يميز بين شاب وكبير، ولا بين غني وفقير، فينبغي للمسلم أن يكون على استعداد لموت الفجأة؛ لأنه يأتي فجأة، والاستعداد له يكون بالتوبة المستمرة، فكلما عملت معصية أتبعها مباشرةً بحسنة تمحها، احذر أن تسوف التوبة أو تقع في معصية فتأخر التوبة؛ لأن الموت قد يأتيك فجأة. قال صلى الله عليه وسلم: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"(رواه الترمذي).
ومن كرم الله -عز وجل- على عباده: أن جعل ملك الشمال ينتظر ست ساعات كي يتوب العبد، وإن لم يفعل كتب عليه سيئة واحدة، فقد روى أبو أمامة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها، ألقاها، وإلا كتبت واحدة"(رواه الطبراني والبيهقي) لماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"؛ لأنه لا يريدنا أن نموت وإلا ونحن مستعدون للموت.
انظروا إلى بعض الذين ماتوا فجأة فلم يمهلهم الله تعالى ليتوبوا، فهناك العديد من القصص لبعض العصاة الذين ماتوا فجأة ولم يمهلهم الله ليتوبوا.
فموت الفجأة "أخذة أسف" إذا كان على معصية، فكن دائما على طاعة -يا عبد الله-، تجنب مجالس العصاة، فقد يأتيك الموت فجأة وأنت فيها، رطب لسانك بذكر الله، اختم يومك على طاعة، نم على طاعة، فقد تكونُ آخرَ نومة لك -نعوذ بالله من غضب الله- فربما تغلق عينيك في سقف غرفتك، فلا تفتحهما إلا أمام جبار السماوات والأرض؛ لقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- قولهُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ".
فاحرصوا على هذا الدعاء.
فاللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واحذروا غضب الله -عز وجل-، ويكون ذلك باتقاء كل الأعمال التي تسخط الله -عز وجل- وهي كثيرة، وها نحن نستعرض بعضها بين فينة وأخرى؛ فمن هذه الأعمال التي تسخط الله -عز وجل-: موت الفجأة.
إذا غضب الله على إنسان جعل وفاته وهو في لهوه ولعبه، وجاءه الموت فجأة، فلا يقدر على التوبة، أو يقول: لا إله إلا الله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
ولا يصل المسلم إلى هذا الحال إلا لذنوب كان يعملها في الخلوات ولم يتب منها، فيميته الله على سوء خاتمة -والعياذ بالله-، قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، لذلك بادر -يا عبد الله- بمراقبة الله والتوبة النصوح، ولا تسوف التوبة؛ لأن الموت ليس بيدك".
اللهم أحسن خاتمتنا، فاللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللهم اختم لنا بخير، واجعل عواقب أمورنا إلى خير، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وآمنا في بلادنا، وانصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان واشف مرضانا، وارحم موتانا وعليك بمن عادانا، وبلغنا بما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها الا أنت.
اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي