مفهوم الوطنية في الإسلام

د ماجد بن عبدالرحمن آل فريان
عناصر الخطبة
  1. غريزة حب الوطن .
  2. النبي -عليه السلام- وحب الوطن .
  3. معنى حب الأوطان .
  4. عدم تعارض هذا المفهوم مع الدين .
  5. المزايدين على حب الأوطان .
  6. تناقضات ليبرالية .
  7. الفردوس الأعلى الوطن الأم .

اقتباس

شعورٌ كمْ خفقت به القلوب، وشوقٌ كم كلَفَت به الأفئدةُ، وحنينٌ يزلزل مكامنَ الوجدان، حبٌّ أطلقَ قرائحَ الشعراءِ، وهوى سُكبت له محابر الأدباءِ، حبٌّ لم تخلُ منه مشاعر الأنبياء، ووُدٌ وجدَ في قلوب الصحابة والأصفياء، بل هو شعور تغلغل في دواخل الحيتان تحت الماء، ورفرفت لأجله أجنحة الطير في السماء، إنه -أيها المسلمون- حب الأوطان.

 

 

  

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره...

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.

معاشر المسلمين: شعورٌ كمْ خفقت به القلوب، وشوقٌ كم كلَفَت به الأفئدةُ، وحنينٌ يزلزل مكامنَ الوجدان، حبٌّ أطلقَ قرائحَ الشعراءِ، وهوى سُكبت له محابر الأدباءِ، وحنينٌ أمضّ شغافَ القلوب، وإلفٌ يأوي إليه كرام النفوس، حبٌّ لم تخلُ منه مشاعر الأنبياء، ووُدٌ وجدَ في قلوب الصحابة والأصفياء، بل هو شعور تغلغل في دواخل الحيتان تحت الماء، ورفرفت لأجله أجنحة الطير في السماء، إنه -أيها المسلمون- حب الأوطان.

قال أهل الأدب: "إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه".

والمحبة للأوطان والانتماء للأمة والبلدان أمرٌ غريزيٌ، وطبيعةٌ طبعَ اللهُ النفوس عليها، وحينَ يولدُ الإنسانُ في أرضٍ وينشأُ فيها فيشربُ ماءَها، ويتنفسُ هواءَها، ويحيا بين أهلها؛ فإن فطرته تربطه بها، فيحبُّها ويواليها، ويكفي لجَرْح مشاعر الإنسان أن تشير بأنه لا وطن له.

وقد اقترن حب الأرض بحب النفس في القرآن الكريم؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ...) [النساء: 66]، بل ارتبط في موضع آخر بالدين؛ قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].

ولما كان الخروج من الوطن قاسيًا على النفس، فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم هجرةً في سبيل الله، وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح: عن عبد الله بن عدي قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفًا على راحلته فقال: "إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت".

قال العيني -رحمه الله-: "ابتلى الله نبيه بفراق الوطن".

ولما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سيبقى مهاجرًا دعا بتحبيب المدينة إليه؛ كما في الصحيحين.

وفي صحيح البخاري: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته -أي أسرع بها-".

قال ابن حجر -رحمه الله-: "فيها دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".

أيها المسلمون: البشر يألفون أرضهم على ما بها حتى ولو كانت قفرًا موحشة، وحب الأوطان غريزةٌ مستوطنةٌ في النفوس تجعل الإنسان يستريح للبقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص، والوطنية بهذا المفهوم الطبيعي أمرٌ غير مستغرب، وهذه السعادة به، وتلك الكآبة لفراقه، وهذا الولاء له، كلُّها مشاعرُ إنسانيةٌ لا غبار عليها ولا اعتراض، ولا يجوز أن تكون مفهومًا مشوهًّا يُعارَض به الولاءُ للدين؛ فالإسلام لا يغير انتماءَ الناسِ إلى أرضِهم ولا شعوبِهم ولا قبائلهم، فقد بقي بلالٌ حبشيًّا، وصهيبٌ روميًّا، وسلمانُ فارسيًّا، ولم يتضارب ذلك مع انتمائهم للإسلام.

وعندما يفكرُ الإنسانُ في طبيعته فسيجدُ أن له محبةً وولاءً وانتماءً لأسرته وعشيرته وأهلِ قريته؛ كما يُـحِسُّ بانتمائه الكبيرِ للأمة الإسلامية باتساعها وتلون أعراقها ولسانها، ولا تعارض بين هذه الانتماءاتِ ولا مساومةَ عليها، بل هي دوائرُ يحوي بعضُها بعضًا.

أيها المسلمون: إن من المغالطة الإيهام بالتعارض بين الوطنية بمفهومها الطبيعي وبين الإسلام، إن تصوير هذا التعارضِ ليس إلا حيلةً للنيل من الإسلامِ، واستغلالاً للمحبةِ الغريزيةِ للوطن؛ لإيهام الناسِ بأنَّ التمسكَ بتفاصيل الشريعة يُعَطِّلُ بعضَ مصالح الوطن، وذلك عبرَ مصادمةِ أحكامِ الشريعةِ لمطالب الوطنية.

وإننا لا نريد أن نقابل غلوًّا بغلو، يجب أن لا نُستفزَّ من قِبل من غالى في الوطنيةِ ورفعَ شعارها ندًّا للإسلام ليجعلنا نتجاهلُ حقوقَ الوطنِ ونتساهلُ فيها، يجبُ أن لا نسيرَ بغفلةٍ خلف الشعاراتِ المستوردة والمصطلحات الدخيلة، وإن المفهوم المستورد للوطنية مفهومٌ يرفضه الإسلام، وهو مستحدث في ثقافتنا وحضارتنا، وهو معنى فاسد حين يَجعلُه الإنسان وثنًا تُسخَّر له كلُّ المبادئ ولو عارضت الإسلام، فالوطنية ليست ولاءً وبراءً فوق العقيدة، وليست مجرد احتفالاتٍ ومظاهرَ شكلية، وليست مجرد مادة دراسية باسم "التربية الوطنية"؛ إن الوطنية عقيدة فكرية، وتربية نفسية، نزرعها في نفوس أبنائنا.

وجوهر الوطنية: عقيدة صحيحة، وبيعة في العنق، وأداء للحق، وولاء وطاعة، وعدمُ خروجٍ على الجماعة، وثمة فروع وقشور ربما تختلف فيها أنظار العلماء، وربما يكون بعضها دخيلاً على الوطنية، ولا يدل عليها، وإنَّ من الخطر أن تختطفَ الوطنيةُ، وتُبْتدعَ لها المعايير الشكليّة، ثمَّ يفتنُ الناس بها ويمتحنون بناءً عليها، فتُربط الوطنية بتعليق الصور أو تحية العلم الوطني أو الاحتفال بيوم الوطن، أو منح الإجازات للموظفين، وتجعل هذه الأمور هي محكات المواطنة الصحيحة، فمن قام بها فهو المواطن المخلص، ومن تحرّج منها فوطنيّتُه مشكوكٌ فيها، وولاؤه فيه نظر، ولو كان أمينًا مخلصًا مطيعًا بالمعروف، ولو كان قد أخذ بفتوى علماء الوطن الكبار، وهل علماؤنا الكبار الذين أفتوا بتحريم هذه المسائل الجزئية ليس عندهم وطنية أو لا يحبون الوطن؟! فربما يترك بعض الناس المظاهرَ الشكليةَ؛ تأثّمًا لفتوى تحرمها، لا كرهًا أو استخفافًا بالوطن، ويبقى حب الوطن في قلوبنا ونربي عليه أبناءنا، بل نُشهدُ الله أن في كثيرٍ من المواطنين الصالحين الذين يأخذون بفتاوى علماء البلاد الكبار في تحريم بعض المظاهر؛ أن فيهم من الحب للوطن ما لو نزلت نازلة لبذلوا أرواحهم رخيصة دونه ودون ولاة أمره، ولم يفروا كبعض المرتزقة الجبناء الذين لا يعرفون من حق الوطن سوى الأغاني الوطنية وتمجيد العلم، وإن في كثيرٍ من شيبنا وعجائزنا من الحب والدعاء لولاة الأمر ما يغنيهم عن تعليق صورته؛ لأنها محفورة في قلوبهم، وبيعته في أعناقهم.

وإن من التناقض العجيب اتخاذ بعض العلمانيين والليبراليين والتغريبيين دعوى المواطنة وحب الوطن مركبًا لتسويغ أفكارهم، ومحاصرة وإرهاب كل من يخالفهم، ورميه بالإرهاب والتمرد على الوطن، وينسى هذا المتعسف صاحب الإرهاب الفكري أنه هو أول من ينقض دعواه بأطروحاته التي لا تخدم المصلحة الوطنية، ولا تتفق والأسس التي قامت عليها البلاد، واجتمع عليها شمل الوطن.

ومن التناقضات في المواطنة أن يَخُونَ المسؤولون عن الأمانات، ويظلموا الآخرين، ويستخفوا بالمسؤولية، أو يوظِّفَوها لمصالحهم الشخصية؟! ولو علَّقوا صورة ولي الأمر فوق رؤوسهم وزينوا بـها مكاتبهم، وجعلوا النشيد الوطني وِردَهم اليومي.

ومن التناقضات في المواطنة أن يحتفل بعض الشباب باليوم الوطني ويقوموا بأعمال الشغب، ويعتدوا على المحلات والسيارات والأسواق والعائلات.

وقد حدث هذا في العام الماضي في المنطقة الشرقية، وحدث هذا بالأمس في الرياض والمدينة المنورة وتبوك وغيرها كما نشرت ذلك كثير من وسائل الإعلام المحلية، وهنا نتساءل بكل أسف وحزن: هل حب الوطن في الفوضى وتكسير المحلات وسرقتها، والتفحيطِ والإخلال بالأمن في الطرقات؟! هل حب الوطن في الإزعاج والرقص وهز الوسط على الموسيقى المحرمة؟!

نقول لهؤلاء المتناقضين جميعًا: إن حبَّ الوطن بالقيام بمسؤولياته وحفظ أماناته وأدائها إلى أهلها، وليس بسرقة الوطن والمواطنين.

إن حب الوطن يكون بالدفاع عنه وعن دينه ومقدساته ومواطنيه وليس بأذيتهم.

إن حب الوطن يكون بحفظ نظامه، وإصلاح أهله وليس بإفسادهم.

إن حبَّ الوطن باحترام الكبير، والعطف على الصغير، واحترام الجار، واحترام النظام ونظافة الشارع وعدم مضايقة المسلمين.

إنَّ حبَّ الوطن بالحرص على كل ممتلكاته، والتعامل بأخلاق المسلم مع المسلم في كل مكان.

إنَّ حبَّ الوطن ليس يومًا في السنة فقط!! أو صورةً أو عَلَمًا، بل حب الوطن في كل يوم وفي كل حين.

نسأل الله أن يهدي شبابنا، ويسلك بهم سبيل الرشاد، وأن يجعلهم مواطنين صالحين، مصلحين في أسرهم ومجتمعهم، إنه جواد كريم.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا عباد الله: إن العقيدة الإسلامية هي أساس وطنية المسلمين، ولذلك فحدود الوطن -التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره- لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء، بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى، ومن ثم يوفق الإسلام بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة؛ لأن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص فيها: أن يعمل كل إنسان الخير لبلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب، رحمًا وجوارًا، حتى إنه لم يُجز أن تُنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر -إلا لضرورة- إيثارًا للأقربين بالمعروف، فكل مسلم عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها، وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية، وأعظمهم نفعًا لمواطنيه؛ لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين، وأشد الناس حرصًا على خير وطنه، وتفانيًا في خدمة قومه، وهو ينتمي لهذه البلاد العزيزة المباركة، بلاد العزة والمجد والتقدم والرقي.

معاشر المسلمين: إن الحديثَ عن الوطنِ وحبه والحنين إليه يذكر المؤمن بالله -تبارك وتعالى- بالوطن الأول لبني آدم وهو الجنة، فذلك هو موطننا الأصلي الذي غفل عنه معظم الناس، قال الفضيل بن عياض –رحمه الله-: "المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزينٌ، همه التزود بما ينفعه عند العود، فمن حين خلق الله آدم -عليه السلام- وأسكن هو وزوجته الجنة ثم أُهبط منها ووعد بالرجوع إليها وصالحو ذريتهما، فالمؤمن أبدًا يحن إلى وطنِه الأول، وحبًّ الوطن من الإيمان".

قال ابن القيم -رحمه الله- في قصيدته الميمية:

فحي على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم

وقال أبو تمام:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدًا لأول منزلِ

فأعظم حنين ينبغي أن يكون إلى وطننا الأول سكنِ الأبوين، ودار الخلد والنعيم.

قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".

اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، وأن تحرم وجوهنا على النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
 

 

  

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي