إن الإسلام يريد للمسلم أن يكون في منزلة رفيعة تقوم على أماكن الفضيلة والارتقاء بالروح والقلب والعقل إلى درجات الصفاء والبهاء لتحلق في آفاق السعادة الدنيوية والأخروية. وينأى به عن مهاوي الانحطاط إلى سخط الله وإهانة النفس التي كرمها الله. ولهذا جعل للمجالس آداباً دعا إلى التحلي بها، ونهى عن آفات من الأقوال والأفعال لكي...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبيه محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: لقد كان الحديث في خطبة الجمعة الماضية عن الجليس وأثره على جليسه، وفي هذا اليوم -بعون الله -تعالى- يكون الحديث عن المجالس، فإذا كان اختيار الجليس مهماً فاختيار المجالس كذلك؛ إذ ليست كل المجالس صالحة لأن يجلس فيها المسلم الحريص على دينه وأخلاقه.
إذا تكلمنا اليوم عن المجالس وآدابها وآفاتها فلا نعني بالمجلس ذلك المكان الذي يجتمع فيه الناس في بيت من البيوت فحسب، وإنما يراد بالمجلس كل مكان يجلس فيه الإنسان سواء كان في البيوت أم الطرقات أم الأسواق أم أماكن العمل أم الحدائق والمتنزهات.
عباد الله: إن مما يدعو المتكلم للحديث عن هذا الموضوع رؤية كثير من مجالس المسلمين تحولت من مجالس خير وفائدة إلى مجالس شر ومضرة؛ فبدل أن تكون مجالس نفع وذكر لله -تعالى- وتداول للكلمة الطيبة وحلول لمشكلات الواقع الخاص والعام؛ أصبحت مجالس قيل وقال وضياع للأعمار والأموال والأوقات، هذا إذا لم تصل إلى مجالس سخط وإثم في الأقوال والأفعال.
إن الإسلام يريد للمسلم أن يكون في منزلة رفيعة تقوم على أماكن الفضيلة والارتقاء بالروح والقلب والعقل إلى درجات الصفاء والبهاء لتحلق في آفاق السعادة الدنيوية والأخروية. وينأى به عن مهاوي الانحطاط إلى سخط الله وإهانة النفس التي كرمها الله.
ولهذا جعل للمجالس آداباً دعا إلى التحلي بها، ونهى عن آفات من الأقوال والأفعال لكي يتخلى عنها؛ لتصبح المجالس بذلك شاهدة للإنسان لا عليه.
أيها المسلمون: إن القرآن الكريم قد أدبنا إذا جلسنا مجلساً أن نختار مجالس الصلاح والخير وأن نبتعد عن مجالس السوء والشر، قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام: 68]، وقال: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)[النساء: 140].
وهذا الترغيب الكريم في حضور المجالس الطيبة والتحذير من المجالس الأخرى لكون المجلس الذي يجلس فيه الإنسان إما أن يكون له وإما أن يكون عليه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة يوم القيامة"(رواه أبو داود والحاكم، وهو صحيح).
فلكي تكون المجالس التي يجلسها المسلم أجراً له ورفعة عند الله وعند خلقه، وليست عليه وزراً ومنقصة فليتأدب بآداب الإسلام فيها؛ فمن تلك الآداب: إلقاء السلام دخولاً وخروجاً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة"(رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وهو صحيح).
هذه تحية الإسلام تحية الاقتداء والأجر والأمان والسلامة، ولن تصل إلى رتبتها أي تحية أخرى مهما حملت من الألفاظ والمعاني الجميلة.
ومن الآداب: اختيار أطايب الكلام والبعد عن العبارات التي تجرح الدين والخلق والناس؛ فالإنسان يوزن بكلامه وتعظم منزلته أو تدنو في النفوس من خطابات لسانه، قال تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)[البقرة: 83].
ومن الآداب: تهادي النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجلس.
إن المجالس الخالية من سقط الكلام وأفعال السوء مما يرغب إليها ويدعى إلى ملازمتها، لكن قد يحتاج الإنسان أن يجلس في مجالس أخرى لمصلحة ما، فإذا كان لابد من الجلوس هناك فليجلس المسلم وهو حذر على دينه وأخلاقه، فلا يشارك أهل السوء في سوئهم، بل يأمر بالمعروف إن رآهم بعيدين عنه، وينهى عن المنكر إن وجده بينهم، بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن، ولا يسكت عن منكر حصل في ذلك المكان؛ فالساكت مشارك. فقيام هذه الشعيرة في المجالس تكثِّر مجالس الخير وتقلل مجالس الشر.
ومن الآداب أيضاً: الحرص على جمع الكلمة وإصلاح ذات البين واستغلال تلك الجلسات لتقريب وجهات النظر وجمع القلوب على الحق، والبعد عن تأجيج الصراعات والاختلافات فلا يخرج الجالسون إلا وقد شحنوا حقداً وبغضاً من بعضهم لبعض، خاصة في أيامنا هذه التي تموج بالفتن وتطفح بالصراع والاختلاف الذي قد وصل إلى البيوت ليفرق بين الأخ وأخيه، فالحكمةَ الحكمة معشر المسلمين، قال تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[النساء: 114].
ومن آداب المجالس: الابتعاد عما يؤذي الجالسين من قول أو فعل أو هيئة. فليحرص المسلم عند جلوسه مع غيره أن يكون نظيف الظاهر والباطن طيب الرائحة حلو اللسان، لا تصدر من قبله أفعال تكدر على الجالسين مجلسهم.
ومن الآداب: استعمال اليد اليمنى في الأخذ والإعطاء والأكل والشرب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها"(رواه مسلم).
عباد الله: الستر على عورات الجالسين القولية والفعلية والمحافظة على الأسرار أدب آخر، فمن رأى من أخيه المسلم شيئاً يستحيا من ذكره فليستره؛ فالمجالس بالأمانة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة.
التوسع في المجلس وإبداء البشاشة والارتياح للقادم للمجلس أدب من آداب المجالس، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا)[المجادلة: 11].
عدم إقامة أحدٍ أحداً من مجلسه ليجلس فيه من الآداب أيضاً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا يفسح الله لكم"، وفي رواية: "وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه"(متفق عليه).
جلوس الإنسان حيث ينتهي به المجلس دون البحث عن رؤوس المجالس ووجوهها من الآداب كذلك، فقد كان رسول الله يجلس حيث ينتهي به المجلس.
احترام الكبار بالعلم أو السن من الآداب أيضاً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا"(رواه الترمذي، وهو صحيح).
ومن الآداب: ختم المجلس بكفارة المجلس؛ لأن الإنسان مهما تحرز وحرص على الخير في مجلسه فإنه قد يقع في زلة أو غفلة؛ فلذلك شرع هذا الدعاء محواً لخطيئة من الصغائر المتعلقة بالنفس، وهذا الدعاء هو: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك"(رواه أبو داود والترمذي، وهو صحيح).
أيها المسلمون: إن الآداب الإسلامية في المجالس كثيرة، وقد تختلف باختلاف الجلساء وتنوع المجالس. لكن هذه الآداب توحي بأن الإسلام والخلق الراقي يجب أن يكون رفيقك وملازمك -أيها المسلم- في كل مكان نزلت فيه وكل وقت أنت فيه. وهذا كله يعلم الناس عظمة هذا الدين وحرصه على بناء الشخصية المسلمة السامية التي تفرض وجودها وحبها وعلوها وأثرها في أي مكان نزلت فيه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها المسلمون: إننا لو جئنا لنحاسب أنفسنا ونفتش عن هذه الآداب في مجالسنا فسوف نرى غيابها أو قلة حضورها فيها، بل إننا إذا وجدنا من يتمثلها ويتخلق بها أو ببعضها فسيكون غريباً بين الناس؛ لأنه أتى بما لم يتعود عليه الناس، وهذا من عجائب الزمن.
فماذا نجد في مجالسنا اليوم -يا عباد الله-؟
إن مجالسنا اليوم لتشكو التخمة من آفات الحديث ومساوئ الفعل، والناس فيها بين مستقل ومستكثر؛ فاكهة المجالس اليوم والحديث العذب فيها: الغيبة والنميمة، والسخرية والتحقير، والتعييب والتشهير، وحياكة المكائد وفتل حبال الشر، قذف وكذب، جدال وخصومة، سب وشتم، لعن وفحش، تنابز وتفاخر ولعب وعبث، وغير ذلك من الآفات.
أيها الأحبة: أما عن مجالس النساء فيما بينهن فحدث عن التعري والسفور والتشبه بالكافرات وتضييع الأوقات واللهو واللعب وتهذيب الحياء، فأين مجالس الخير والفضيلة والحشمة؟ لماذا أُعرض عنها واستعيض بها مجالس اللهو والخطيئة؟
فهل لنا من عودة قبل خروجنا من الدنيا بلا عودة إليها؟ فهلا اخترنا مجالسنا وجلساءنا وعمرنا تلك المجالس بما ينفعنا يوم حشرنا، ونزهنا تلك المجالس من الآفات التي تضرنا في حياتنا وبعد موتنا.
عباد الله: إن الحديث عن المجالس وآدابها وآفاتها لا يعني أن الإنسان لا يتكلم عما يهمه من أمر دنياه كعمله ووظيفته وهواياته المباحة، كالعسكري في الأمور العسكرية والتاجر في التجارة والمثقف في الثقافة ونحو ذلك من التخصصات.
إنما المقصود أن يُلتزم بهذه الآداب ويبتعد عن الآفات في المجالس مهما كان الحديث في أمر الدين أو أمر الدنيا ما دام الكلام مباحاً.
نسأل الله أن يجعل مجالسنا شاهدة لنا لا علينا.
هذا وصلوا وسلموا على القدوة المهداة...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي