لقد أعطانا القرآنُ العظيم درساً في الإنصاف تربيةً لنا, ووالله لا يُقدِّمُه إلا الإسلامُ, ولا يقْدِرُ عليه إلا المسلمون الملتزمون, إنه درس في التطبيق العملي للإنصاف الإلهي والعدل الرباني الذي لم تعرفه أمةٌ في التاريخ, إلا الأمة التي رباها الإسلام، فقد...
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: ربُّنا -عز وجل- أنزل القرآن العظيم على قلب سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, ليكون دستوراً للبشرية جمعاء, وليحقِّق لهم سعادة الدنيا والآخرة.
ومن سمات هذا التشريع الذي جاء به سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: الإنصاف والعدل بين أتباعه وغيرهم, ولم يكن في يوم من الأيام منصفاً في تشريعه بين أتباعه, وجائراً على غيرهم, قال تبارك وتعالى لتأصيل هذه السمة والصفة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة: 8].
وقال جلّت قدرته: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[الإسراء: 35].
ومن هذا المنطلق يقول سيدنا عمار بن ياسر -رضي الله عنهما-: "ثلاث من جمعهنّ فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك, وبذل السلام لِلْعاْلم، والإنفاق من الإقتار".
يا عباد الله: الإسلام ربّى أتباعه على الإنصاف والعدل؛ لأنه بالعدل قامت السماوات والأرض؛ كما قال ذلك اليهود لسيدنا عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-؛ كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عنْ جابِرِ بْنِ عبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما- أنّهُ قال: "أفاء اللّهُ -عز وجل- خيْبر على رسُولِ اللّهِ -صلّى اللّهُ عليْهِ وسلّم-, فأقرّهُمْ رسُولُ اللّهِ -صلّى اللّهُ عليْهِ وسلّم- كما كانُوا وجعلها بيْنهُ وبيْنهُمْ, فبعث عبْد اللّهِ بْن رواحة فخرصها عليْهِمْ, ثُمّ قال لهُمْ: يا معْشر الْيهُودِ أنْتُمْ أبْغضُ الخلْقِ إِليّ, قتلْتُمْ أنْبِياء اللّهِ -عز وجل-, وكذبْتُمْ على اللّهِ, وليْس يحْمِلُنِي بُغْضِي إِيّاكُمْ على أنْ أحِيف عليْكُمْ, قدْ خرصْتُ عِشْرِين ألْف وسْقٍ مِنْ تمْرٍ, فإِنْ شِئْتُمْ فلكُمْ, وإِنْ أبيْتُمْ فلِي. فقالُوا: بِهذا قامت السّمواتُ والأرْضُ, قدْ أخذْنا فاخْرُجُوا عنّا".
(أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ)[المطففين: 4]؟
أيها الإخوة الكرام: إن الأمة الإسلامية تعيش اليوم في أزمة كبيرة, حيث استحرّ فيها القتل, وكثر فيها الظلم والتعدي على الحرمات والمقدسات, تعيش في أزمة جعلت فيها الحليم حيران, فيجب على الأمة التي آمنت بالله -تعالى- رباً, وبيوم القيامة مرجعاً ومآلاً للعرض على الله -تعالى- والحساب, يجب أن تتحلى بصفة الإنصاف حتى مع الذي أبغضته؛ لقوله تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة: 8].
أيها الإخوة: العبد إذا لم يكن منصفاً كان ظالماً, وإن كان ظالماً فلا يحقُّ له أن يعتِب على ظالمٍ مِثْلِه, والظالم لو استحضر وقوفه بين يدي الله -عز وجل- لما تجرّأ على ظلم الآخرين, أما الذي استحضر وقوفه بين يدي الله -عز وجل- يوم القيامة فإنه يكون منصفاً حتى مع عدوِّه الذي ظلمه؛ لأن الله -تعالى- يقول: (ويْلٌ لِّلْمُطفِّفِين * الّذِين إِذا اكْتالُواْ على النّاسِ يسْتوْفُون * وإِذا كالُوهُمْ أو وّزنُوهُمْ يُخْسِرُون * ألا يظُنُّ أُولئِك أنّهُم مّبْعُوثُون * لِيوْمٍ عظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[المطففين: 1- 6].
يجب أن تظهر قبح الظلم بإنصافك لمن ظلمك, فكن منصفاً في أيام الشدائد والمحن, كن منصفاً مع من أبغضت ولو وجدت ثقلاً على نفسك, فالله -تعالى- خلقنا في هذه الحياة الدنيا اختباراً وابتلاءً, وقال: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)[الفرقان: 20].
ومن الصبر على من ظلم: أن تنصفه من نفسك؛ لأن تصفية الأمور سوف تكون يوم القيامة, وتكون النتيجة إما إلى جنة, وإما إلى نار, خالداً فيها؛ كما قال تعالى: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)[الشورى: 7].
معشر المسلمين: لقد أعطانا القرآنُ العظيم درساً في الإنصاف تربيةً لنا, ووالله لا يُقدِّمُه إلا الإسلامُ, ولا يقْدِرُ عليه إلا المسلمون الملتزمون, إنه درس في التطبيق العملي للإنصاف الإلهي والعدل الرباني الذي لم تعرفه أمةٌ في التاريخ, إلا الأمة التي رباها الإسلام، فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول عند قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) إلى قوله تعالى: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)[النساء: 105 - 116] أنزلت كلها في قصة واحدة: وذلك أن رجلاً من الأنصار يقال له: "طعمة بن أبيرق", أحد بني ظفر بن الحارث, سرق درعاً من جار له يقال له: قتادة بن النعمان, وكانت الدرع في جراب فيه دقيق, فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق, ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: زيد بن السمين, فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده, وحلف لهم: والله ما أخذها, وما له به من علم, فقال أصحاب الدرع: بلى والله قد أدلج علينا فأخذها وطلبنا أثره حتى دخل داره فرأينا أثر الدقيق, فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي, فأخذوه, فقال: دفعها إليّ طعمة بن أبيرق, وشهد له أناس من اليهود على ذلك, فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فكلِّموه في ذلك, فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودي, فهمّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يفعل, وكان هواه معهم, وأن يعاقب اليهودي, حتى أنزل الله -تعالى-: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا)[النساء: 105].
يا لله! ما هذه العظمة! تسع آيات من القرآن العظيم تنزل على قلب سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- لتبرئ ساحة رجل يهودي, وهل هناك أعدى من اليهود لأمة القرآن العظيم؟ ألم يقل مولانا -عز وجل- في حقِّ اليهود: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ)[المائدة: 82)؟ ألم يقل مولانا -عز وجل- في حقهم: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[البقرة: 120]؟ ألم يقل عنهم ربُّنا -عز وجل-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء)[المائدة: 64]؟
تسع آيات من الذكر الحكيم برّأتِ اليهوديّ, وفضحت من انتمى إلى الإسلام انتماءً أراد أن يستغله في ظلم الآخرين.
الإسلام ما جاء ليتستّر على انحرافات البشرية أو يتسامح مع شيء منها, ولو كانوا من أتباعه, وما جاء ليظلم البريء ولو كان عدواً لدوداً, لقد جاء الإسلام لينشئ الرجل الصالح والأمة الصالحة التي تعرف الإنصاف.
الإسلام يهمُّه الإنصاف والعدل, ويجب على أتباعه أن يقولوا الحقّ ولو على أنفسهم, فإذا أخطأ المسلم مع غير المسلمين فيجب عليه أن يكون صريحاً واضحاً, هذه هي عظمة الإسلام, وهذا هو عدل الإسلام, وسطية واعتدال, يعطي صاحب الحق حقه ولو كان من ألدِّ أعدائه, وصدق الله القائل: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة: 8].
نعم قد ترى الإنصاف والعدل بين أقاربك وأرحامك, وبين أبناء دينك وتنصفهم من نفسك, ولكن العظمة أن تنصف الآخرين من نفسك إذا كانوا من ألدِّ الأعداء إليك, وهذا ما ربّى عليه الإسلام أتباعه.
أيها الإخوة الكرام: لنتحلّ بصفة الإنصاف مع من نحب ومع من نكره, كن منصفاً إذا أحببت, وكن منصفاً إذا أبغضت, كن منصفاً إذا كنت حاكماً, وكن منصفاً إذا كنت محكوماً, وأيُّ إنصاف أعظم للعباد من أنّ الله -تعالى- جعل الإنسان حسيباً على نفسه؟ فقال تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرأْ كتابك كفى بِنفْسِك الْيوْم عليْك حسِيبًا)[الإسراء: 13 - 14].
أيها الإخوة الكرام: لنرجع إلى إسلامنا وديننا, ولننصف الآخرين من أنفسنا, ولنأخذ الدرس العملي من القرآن العظيم عندما حدّثنا عن الإنصاف مع ألدِّ الإعداء إلينا, فقال تعالى لسيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: (وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا)[النساء: 105] أي مدافعاً, ولو كان في ظاهر الأمر من أتباعك؛ لأن الحقّ أحقُّ أن يُتّبع.
كن منصفاً -يا عبد الله- وقُلِ الحقّ ولو على نفسك؛ لأنك إذا برّأت نفسك, والطرف الآخر برّأ نفسه, والكلُّ يتّهم الآخر, مع العلم بأنه يظلم الآخر, فاعلم بأن الطرفين ظالمان, والظالم على باطل, والصراع بين باطلين يدوم ويستمر ولن ينتهي.
فيا أيتها الحكومة: أنصفي الشعب قولاً وعملاً.
ويا أيها الشعب: أنصف الحكومة قولاً وعملاً؛ لأنه بالإنصاف يتحقّق العدل والأمان والاطمئنان.
أقول هذا القول, وأستغفر الله العظيم لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي