الحلم

عبدالله بن عمر السحيباني
عناصر الخطبة
  1. منزلة الحِلم ومكانته .
  2. المقصود بالحلم وحقيقته .
  3. الثناء على من يملك نفسه عند الغضب .
  4. أسباب دفع الغضب وعلاجه .
  5. أحوال الناس في الحلم والغضب .

اقتباس

الحِلم أساس الأخلاق، ودليلُ كمال العقل، وامتلاكِ النفس. المتّصف بالحلم عظيمُ الشأن، رفيع المكانة، محمودُ العاقبة، مرضيّ الفعل. الحلم من الخصال التي يحبّها الله في عباده، ووعد من آمَن واتَّصف به بالمغفرة والجنّة...

الخطبة الأولى:

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.

أيها المسلمون: يعلو المرءُ بالإيمان وحسنِ الخلُق، وترتقي منزلتُه عند الله بالجَمع بينهما، قال عليه الصلاة والسلام: "أنا زعيم"(أي ضامنًا) ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسن خلقه"(رواه أبو داود).

الحِلم أساس الأخلاق، ودليلُ كمال العقل، وامتلاكِ النفس.

المتّصف بالحلم عظيمُ الشأن، رفيع المكانة، محمودُ العاقبة، مرضيّ الفعل، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الحِلم والصبر على الأذى والعفوُ عنِ الظلم أفضل أخلاق أهل الدّنيا والآخرة، يبلُغ بها الرجلُ ما لا يبلغه بالصّيام والقِيام".

الحلم من الخصال التي يحبّها الله في عباده، ووعد من آمَن واتَّصف به بالمغفرة والجنّة، قال سبحانه: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)[آل عمران: 134].

أحقُّ المتّصفين بالحِلم هم الرسل: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ)[هود: 75].

وحكَى النبيُّ -صلى الله وعليه وسلم- عن نبيٍّ من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فكان يمسح الدم عن وجهه ويقول: "ربّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(متفق عليه)، ونبيُّنا محمّد -صلى الله وعليه وسلم- لاقى الأذَى والسخريةَ من قومه، وكان يقول لعائشة -رضي الله عنها-: "لقد لقيت من قومك ما لقيت"، وملك الجبال يأتيه ويقول له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا"(متفق عليه).

أثنى النبيُّ -صلى الله وعليه وسلم- على من اتَّصف بالحلم من الصحابة، فقال لأشجّ عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة"(رواه مسلم).

الحلم شجاعةُ وقوّة في القلب، فالحليم لا يزعزعه قول جاهلٍ ولا فعلُ سفيه، الحليم هو القويّ الشديد الذي يملِك نفسَه عندَ الغضَب فيفعل ما يصلحه.

أمّا المغلوب حين غضبِه فهو ضعيف، فالغضب مفسدٌ للأخلاق والأعمال وللعقل والمروءات، قيل لابن المبارك -رحمه الله-: "اجمع لنا حُسنَ الخلق في كلمة، قال: تركُ الغضب".

نعم الغضب نقص في العقل فهو خلق أحمق، وتصرف أهوج، وداء مزعج، الغضب نار في الفؤاد، وجمرة في القلب، وشرار في العين، وحمرة في الوجه، وتوتر في الأعصاب، وانتفاخ في الأوداج، وحمق في التصرف، ومسارعة للانتقام، ومبادرة للتشفي.

الغضب هو جماع الشر كله، آثاره أليمة، ونتائجه وعواقبه وخيمة؛ كم دمّرت بسبب الغضب من أسر؟ وكم مُزقت به من بيوت؟ وكم قطّعت بسببه من أرحام؟ وكم أريقت به دماء؟

الغضب يغضب الرحمن، ويفرّق الإخوان، ويعمي الأبصار، ويُصم الآذان.

الغضب يتولَّد منه الهمّ والوحشة والحزن والوحدَة.

أيها المؤمنون: امتدح الله -تعالى- عباده المؤمنين الذين يملكون أنفسهم عند الغضب، بقوله تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى: 37]، وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً أن الرجل الشديد، والفارس الشجاع، ليس هو الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه، ولكن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب، فقال: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(متفق عليه).

وسئل صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله ماذا يباعدني من غضب الله -عز وجل-؟ قال: "لا تغضب"(رواه أحمد وغيره وهو حديث حسن)، قال ابن القيم: "يعامَل العبد في ذنوبه بمثل ما يعامِل به العبدُ الناسَ في ذنوبهم، والجزاءُ من جنس العمل، فمن عفا عفا الله عنه، ومن سامح أخاه في إساءته إليه سامحه الله في إساءَته، ومن أغضى وتجاوز تجاوَز الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه".

وتركُ الغضب وصيّة النبيّ -صلى الله وعليه وسلم-، جاءه رجل فقال: أوصني؟ قال: "لا تغضب" فردد مرارًا قال: "لا تغضب"(رواه البخاري) قال الراوي -رضي الله عنه-: "ففكَّرت حين قال النبي -صلى الله وعليه وسلم- ما قال فإذا الغضبُ يجمع الشرَّ كلَّه".

ولقد كان من روائع دعائه ومن جوامع كلمه قوله: "اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا".

وكان النبي -صلى الله وعليه وسلم- يأمر مَن غضب بتعاطي أسبابٍ تدفع عنه الغضب، فأمَر بالتعوّذ من الشيطان؛ لأنه سبب الغضب والعدوان، رأى النبي -صلى الله وعليه وسلم- رجلًا مغضَبًا قد احمرَّ وجهه، فقال: "إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"(متفق عليه).

ونهى الغضبان عن الكلام سِوى الاستعاذة، فقال صلى الله وعليه وسلم: "إذا غضب أحدكم فليسكت"(رواه أحمد)، فإن كان بقربه ماء توضَّأ، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الغضب من الشيطان، وإنَّ الشيطان خُلِق من النار، وإنما تطفَأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ"(رواه أحمد).

وأمره بالتحوُّل عن الهيئة التي هو عليها، قال عليه الصلاة والسلام: "إذا غضِب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع"(رواه أبو داود).

ومن شرف النفس وعلوِّ الهمة الترفّع عن السباب، وفي الإعراض عن الجاهل صونٌ للعِرض والدين، ومن صفاتِ المؤمنين: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63].

ومن غضب فعليه: أن يتذكَّر حِلم الله عليه، وأن يخشى عقابه، فقدرة الله عليك أعظمُ من قدرتك على الخلق، وليتذكر ما يؤدّي إليه الغضبُ من الندم والحسرة، وليحذر عاقبةَ العداوة والانتقام وشماتةَ الأعداء بمُصابه، يروى أن بعض الملوك كتب كتاباً وأعطاه وزيراً له، وقال: "إذا غضبت فناولنيه"، وكان فيه: "مالك وللغضب إنما أنت بشر، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء"، ويروى: "أن أحد الملوك كان إذا غضب أُلقي عنده مفاتيح مقابر الملوك فيزول غضبه".

ومن لم يكن حليمًا فعليه أن يدفع نفسَه للحِلم، قال الأحنف: "لست بحليم ولكني أتحالم".

لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا *** حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام

ويشتموا فترى الألوان مسفرة *** لا صفح ذل ولكن صفح إكرام

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 133 - 134].

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون: إننا نعيش في واقع زادت فيه متطلبات الحياة، وتعقدت أمورها، وتعددت شرورها، وأصبحنا نرى الغضب يسري في النفوس، ويجري في الدماء، فبعض الناس في غضب دائم وتوتر مزعج، وقلق مرهق. أظلمت قلوبهم، وتوترت أعصابهم.

أيّها المسلمون: إن التفاوت بين الناس بعيد الشقة مع أنهم من أبوين اثنين، فإن اختلافهم في أوضاعهم وخلالهم امتحان لبعضهم البعض: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)[الفرقان: 20].

ففي الناس الحليم الأريب المتأني الذي إذا استنفرته الشدائد أبقى على وقعها الأليم، محتفظاً برجاحة فكره، وكمال خلقه، فلا يفضح نفسه ليتشفَّى من غيظه، وقد قيل: "من غرس شجر الحلم اجتنى ثمر السلم".

وفي الناس الطائشَ الأهوج الذي تستخفُّه التوافه فيستحمق على عجل، ويكون لسانه وفعله قبل قلبه وعقله، فلا يتريّث، بل يهذي بكلام ويشطط في أفعال يحتاج بعدها إلى اعتذار وتلفيق.

وفي الناس مخادع مكار ظِهارتهُ سمتُ المؤمنين، وبطانته حِقدُ المجرمين، يتحلّم ظاهراً ويعُفّ علناً، ولكنه يغضب باطناً وينتقم مسرِفاً، فهذا حقودٌ لدود ينقلب على الناس والمجتمع من سوء صنيعه سوساً كطبع السوس، لا يقع على شيء إلا نخره أو عابه، وأفسده وقذَّره، ومثل هذا لا يلبث أن يفضحه الله على رؤوس الخلائق، فالحلم هو الذي يكون في الظاهر والباطن، وهو الذي يكون لطلب تزكية النفس وفلاحها.

لا تحسبن الحلم منك مذلة *** إنّ الحليم هو الأعز الأمنع

إن جرعوك الغيظ فأجرعه لهم *** تؤجر وتحمد غب ما يتجرع


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي