إن من أحبِّ الأعمال إلى الله -تعالى- بعد العبادات: شكره وحمده والثناء عليه بما هو أهله، فالعبادة هو من هدَى إليها، وهو من وفَّق لأدائها، وهو من يقبلُها ويثيب عليها، وهو من يتجاوز عن التقصير في أدائها. يتكرر الشكر بشكل لافتٍ في دُبُرِ العبادات؛ بعد الحج، وبعد الهدي والأضاحي، وبعد آيات الصيام، وبعد آية أحكام الوضوء والطهارة، وفي صيغة التكبير التي...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ -أيها المسلمون- فإنها وصية الله للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131].
إخوة الإسلام: إن من أحبِّ الأعمال إلى الله -تعالى- بعد العبادات: شكره وحمده والثناء عليه بما هو أهله، فالعبادة هو من هدَى إليها، وهو من وفَّق لأدائها، وهو من يقبلُها ويثيب عليها، وهو من يتجاوز عن التقصير في أدائها، يتكرر الشكر بشكل لافتٍ في دُبُرِ العبادات، ففي الحج، قال الله -تعالى-: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)[البقرة: 198]، وقال إبراهيم بعد بنائه للبيت: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم: 37].
وبعد الهدي والأضاحي، قال الله -تعالى-: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الحج: 36].
وبعد آيات الصيام، قال الله: (وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 185].
وبعد آية أحكام الوضوء والطهارة، قال: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 6].
وفي صيغة التكبير التي نكررها في هذا الوقت في آخرها الحمد، بل شرع أن يدعو المصلي بعد كل صلاةٍ أن يعينه على شكره؛ كما جاء في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذٍ، وهي له ولأصحابه، كما روى أبو داود، أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَلَا تَدَعَنَّ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"(رواه أبو داود)، فهذه العبادةُ ملازمةٌ للعباداتِ ملازمة واضحة، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "تأمَّلتُ أفضلَ الدعاء فإذا هو "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ".
بل جاء الأمر بالشكر مع العبادة مطلقًا دون تخصيص لعبادة، تأمَّلْ قول الله -تعالى-: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وكن من الشاكرين)[الزمر: 66].
وكن على بال أن الآية التي قبلها: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزمر: 65]، ولهذا قال السعدي -رحمه الله-: (وكن من الشاكرين)[الزمر: 66] للّه على توفيق اللّه -تعالى-، فكما أنه تعالى يُشكَر على النِّعم الدنيوية، كصحة الجسم وعافيته، وحصول الرزق، وغير ذلك، كذلك يُشكَر ويثنى عليه بالنِّعم الدينية، كالتوفيقِ للإخلاص، والتقوى، بل نِعَمُ الدين، هي النِّعَم على الحقيقة، وفي تدبر أنها من اللّه -تعالى-، والشكر للّه عليها: سلامة من آفة العُجْبِ التي تعرِض لكثير من العاملين، بسبب جهلهم، وإلا فلو عرف العبد حقيقةَ الحال، لم يعجب بنعمة تستحق عليه زيادة الشكر".
إن استحضارَ نعمة الله على العبد بعد العبادات من أَجَلِّ النِّعَم، وأزكاها عند ربنا.
يَا مَنْ صُمْتُمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهُوَ يَوْمٌ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ: اشْكُرُوا اللهَ -تعالى- حِينَ هَدَاكُمْ لَهُ، وَأَعَانَكُمْ عَلَى صِيَامِهِ.
ويَا مَنْ ذَبَحْتُمْ أَضَاحِيكُمْ: اشْكُرُوا اللهَ -تعالى- عَلَى مَا وَسَّعَ عَلَيْكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ أَثْمَانِهَا، وَمَا هَدَاكُمْ لِتَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ بِذَبْحِهَا، وَمَا تَمَتَّعْتُمْ بِه مِنْ لَحْمِهَا.
وَيَا مَنْ أَقَمْتُمْ أَيَّام العَشْرِ تَرْتَعُونَ فِي طَاعَةِ اللهِ -تعالى- اشْكُرُوا اللهَ -تعالى- إِذْ هَدَاكُمْ وَأَعَانَكُمْ عَلَى الصَّوَارِفِ وَالشَّوَاغِلِ، وعَلَى النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ.
وَيَا مَنْ حَجَجْتُمْ بَيْتَ اللهِ الحَرَامِ: اشْكُرُوا اللهَ -تعالى- حِينَ اخْتَارَكُمْ لِحَجِّ بَيْتِهِ، وَوَفَّقَكُمْ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ، وَقَدْ حُرِمَ ذَلِكَ ملايين المُسْلِمِينَ، ومليارات البَشَرِ.
والله تأَذَنَّ لمن شكر بالزيادة؛ كما قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم: 7]، فهو يزيد من الخير والصلاح لمن تَعبَّد ربه وشكره.
وتأملوا حال رسولنا -صلى الله عليه وسلم- مع الشكر، فيما رواه البخاريُّ ومسلمٌ، من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفْطُرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا"(رواه البخاري ومسلم).
أعو ذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 78].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.
أمَّا بَعْدُ: معشر الإخوة: حريٌّ بنا أَنْ نَلْحَظَ نِعَمَ اللهِ -تعالى- عَلَيْنَا فِيهِ، وَفِيمَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ الشَّعَائِرِ والمَنَاسِكِ، وَفِي كُلِّ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَأَبْوَابِهَا وَتَفْصِيلِهَا؛ فَإِنَّنَا إِذَا اسْتَشْعَرْنَا ذَلِكَ لَهَجْنَا للهِ -تعالى- حَامِدِينَ شَاكِرِينَ، وَأَتَيْنَا مَوَاطِنَ الحَمْدِ والشُّكْرِ، وَجَانَبْنَا مَوَاضِعَ الجُحُودِ وَالكُفْرِ (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)[البقرة: 243]، هذا هو حكم الله -تعالى- أن أكثر الناس لا يشكرون، فمن أدى شُكر جوارحِه، ومن أدى شكر النِّعم الدينية والدنيوية عليه، ولهذا قال الله: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)[سبأ: 13].
فما أعظمه من خطب وما أشده! أكثر العباد لم يشكر الله -تعالى- على ما أولاه من النعم، ودفع عنه من النقم؛ ولهذا لما علم الخبيث إبليس أن العباد ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم، وكان جازمًا ببذل مجهوده على إغوائهم ظن وصدق ظنه، فقال: (ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[الأعراف: 17].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هُريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَقُولُ اللهُ -تعالى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ حَمَلْتُكَ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، وَزَوَّجْتُكَ النِّسَاءَ، وَجَعَلْتُكَ تَرْبَعُ وَتَرْأَسُ، فَأَيْنَ شُكْرُ ذَلِكَ؟"(رواه أحمد).
فاللهم أوزعنا شكر نعمتك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي