قتل البغي والظلم المحرم شرعًا والمهلك واقعًا، والجالب للغرم المحتم والعقاب المؤلم، هو قتل النفس المعصومة تعديًا على الشرع، وافتياتًا على ولي الأمر؛ اتباعًا للهوى، وابتغاءً للفتنة، طاعة للشيطان المضل وغفلة عن شؤم الجناية ومحقق الشؤم والخسارة دنيا وآخرة.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
وإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله تعالى شيئًا.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله؛ فإن تقوى الله خير زاد وخير لباس، واحذروا قتل البغي والظلم؛ فإنه من موجبات الخسران والإفلاس، وحرمان الجنة والخلود في النار والإياس من الرحمة يوم يحشر الناس.
عباد الله: قتل البغي والظلم المحرم شرعًا والمهلك واقعًا، والجالب للغرم المحتم والعقاب المؤلم، هو قتل النفس المعصومة تعديًا على الشرع، وافتياتًا على ولي الأمر؛ اتباعًا للهوى، وابتغاءً للفتنة، طاعة للشيطان المضل وغفلة عن شؤم الجناية ومحقق الشؤم والخسارة دنيا وآخرة.
أيها المسلمون: إن قتل الإنسان لغيره بغير إذن من الشرع أمارة شقوة وعلامة هلكة، وآية على أن القاتل من أهل النار الآيسين من رحمة العزيز الغفار، ولا ييأس من رحمة الله الواسعة إلا شقي وغبي، وقاسي القلب قد نزعت من قلبه الرحمة، ولا تنزع الرحمة إلا من قلب كل كنود كفور.
معشر المسلمين: روى الطبراني -رحمه الله- بإسناده إلى عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من دابة طائر ولا غيره يقتل بغير الحق، إلا ستخاصمه يوم القيامة"، وفي مسند أحمد عنه أيضًا -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل عصفورًا بغير حق، سأله الله عنه يوم القيامة"، وفي حديث آخر: "من قتل عصفورًا عبثًا عج إلى الله يوم القيامة منه يقول: يا رب، إن فلانًا قتلني عبثًا، ولم يقتلني لمنفعة"(رواه أحمد وغيره)، وفي رواية يقول -أي العصفور-: "هذا قتلني عبثًا، فلا هو انتفع بقتلي، ولا هو تركني فأعيش في أرضك"(رواه الطبراني عن عمرو بن زيد عن أبيه).
معشر المسلمين: فإذا كان قتل الطيور والحيوانات عبثًا يحاسب عليه ويخاصم الجاني بين يدي الله -تعالى- يوم القيامة، فكيف بقتل النفوس الآدمية المعصومة تعديًا لحدود الله -تعالى- واستخفافًا بحرمتها؛ اتباعًا للهوى المضل وعملاً بالتأويل الباطل، فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أيها الناس، أيقتل قتيل وأنا بين أظهركم لا يعلم من قتله، لو أن أهل السماء والأرض اجتمعوا على قتل رجل مسلم، لعذبهم الله بلا عدد ولا حساب"(رواه الطبراني وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما-).
وروى بسنده أيضًا عن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أن أهل السموات وأهل الأرض، اجتمعوا على قتل رجل مسلم، لأكبهم الله جميعًا على وجوههم في النار"، وفي صحيح البخاري -رحمه الله- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال العبد في فسحة من دينه مالم يصب دمًا حرامًا".
وروى الإمام أحمد بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار"، وفي صحيح مسلم -رحمه الله- عنه أيضًا -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه".
معشر المسلمين: وإذا كان هذا الوعيد الشديد الثابت في حق من أشار إلى أخيه بالسلاح، أو أي آلة قتل، وهو قد يفعل ذلك مازحًا أو هازلًا، أو متهاونًا أو جاهلًا، فكيف بمن شهر السلاح على أخيه المسلم أو نصبه له، أو وجهه إليه قاصدًا قتله، مستغلاًّ غفلته.
إن الأمر خطير وكبير، وجرمه عسير غير يسير، ففي المسند وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل مؤمنًا فاغتبط بقتله –أي: تمدح وافتخر بقتله- لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا"، وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ فقال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه"، والمعنى: كان قاصدا للقتل مباشرًا لآلته، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن، أكبهم الله عز وجل في النار"(رواه الترمذي -رحمه الله- وغيره).
عباد الله: التعدي على النفوس المعصومة بالقتل كبيرة من كبائر الذنوب، موبقة وجريمة عظيمة العقوبة، منذرة بالشقوة دنيا وآخرة؛ قال -تعالى-: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا...)، وقال -تعالى-: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء:93] وقال -جل ذكره-: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)[الفرقان: 68: 69].
وفي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أبى الله أن يجعل لقاتل مؤمن توبة".
معشر المؤمنين: وإذا سعى ظالم لقتل غيره بقتل نفسه، كان ذلك أعظم لجرمه وأشد لعذابه، ففي الصحيحين وغيرهما أن الله -تعالى- يقول فيه: "عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة"، وفي الطبراني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل نفسه بشيء، عُذِّب به يوم القيامة في نار جهنم"، وفي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا".
معشر المسلمين: قاتل غيره بما يقتل به نفسه جامع بين كبيرتين عظيمتين، ومتعرض لوعيدين خطيرين، يبوء بإثمهما، وهما: قتله لنفسه، وقتله لغيره، ويعذب بعذابهما، وكلما كثر عدد القتلى بحادث القتل أو وسيلته، عظم الإثم وتكرر العذاب، وتحقق الخسران والشقاء يوم الحساب، فإن القتل قرين الشرك، وإن القاتل مغضوب عليه ملعون، متوعد بعظيم عذاب النار، وما للظالمين من أنصار، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا) [النساء: 29-30].
الحمد لله ولي الحمد ومستحقه، أحمده سبحانه أكمل ما يكون من حمد خلقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في شيء من خصائصه وحقه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المشهود له بكمال بلاغه وصدقه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ما لاح نجم في أفقه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتذكروا أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم حرام عليكم، كحرمة يوم النحر في مكة الحرام في شهر ذي الحجة الحرام، وأن أعتى الناس على الله -تعالى- وأحراهم بعظيم سخطه وبليغ عقوبته، من قتل مسلمًا في الحرم أو غيره من مواطن العبادة، وأن الله -جل وعلا- قد أبى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقبل توبة القاتل والشفاعة فيه، حتى يقضى ما عليه، ولن يقضى ما عليه قبل قضاء الله -تعالى- فيه يوم القيامة، وأن القاتل لا تزول قدماه يوم القيامة حتى تجب له النار، إلا أن يعفو عنه المقتول، وليس بحري أن يعفو المقتول عن قاتله في يوم يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، ألا وإن الاستخفاف بالدم الحرام استهانة بحرمة من حرم الله موجبة لشدة الأخذ والانتقام.
أيها المسلمون: إن أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة من المظالم في الدماء، يجيء المقتول بغير حق بقاتله إلى الله -تعالى-، فيقول: "يا رب، سل هذا فيمَ قتلني"، فيما حال بيتي وبين الصلاة والصوم، "فيقول الله -تعالى- للقاتل: لِمَ قتلت هذا؟ فيقول القاتل: لتكون العزة لفلان، فيقول الله: إنها ليست له، هي لله، ثم يدفع القاتل للمقتول ويقال: شأنك به، فيذهب بقاتله فلا يتركه دون النار".
فاتقوا الله معاشر المسلمين، ولا تحولن بينكم وبين الجنة قطرة دم تريقونها بغير وجه حق؛ من فضول أو هوى، أو لعصبية أو طاعة عمياء لهذا وذاك، فتُحرموا دار الأخيار، وتخلدوا في النار، وسخط وغضب الجبار، مهانين آيسين من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ويتطاول لها إبليس يوم القيامة رجاء أن تصيبه، ولن تصيبه.
أيها المؤمنون: لا تباشروا قتل أنفسكم ولا غيركم، ولا تعينوا عليه، ولا تغتبطوا به، ولا تحجموا عن إنكاره، فإنه تعدّ على سلطان الله وحكمته في آجال خلقه وجناية على المقتول بالحيلولة بين المسلم وصالح عمله، وبين غير المسلم وإمكان هدايته وتوبته، وكذلكم فإن القتل بغير حق أظهر دليل على نزع الرحمة من القلب، وذلكم برهان الشقوة، والتأهل للغضب واللعنة، فهو سعي في الأرض بالفساد، وأعظم إهلاك للحرث والنسل معاندة لرب العباد، وأقصر طريق وأسرع نقله إلى جهنم وبئس المهاد، والله -تعالى- لا يحب المفسدين، ولا يصلح عمل المفسدين ولا يهدي ولا يحب الظالمين، وقد قال -تعالى-: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) [البقرة: 195].
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين)[الصافات: 181].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي