تَتَعَدَّدُ أَسَالِيبُ تَعْلِيمِ الْأَطْفَالِ وَتَرْبِيَتِهِمْ مَا بَيْنَ تَلْقِينٍ وَتَوْجِيهٍ وَتَوْبِيخٍ وَغَيْرِهَا، وَيَبْقَى الْأُسْلُوبُ الْأَرْقَى وَالْأَعْظَمُ تَأْثِيرًا وَالْأَعْمَقُ أَثَرًا هُوَ أُسْلُوبُ التَّرْبِيَةِ بِالْقُدْوَةِ؛ فَقَدْ جُبِلَتِ الْأَطْفَالُ عَلَى حُبِّ التَّقْلِيدِ وَالْمُحَاكَاةِ، فَهُمْ يُقلِّدُونَ وَيُحَاكُونَ كُلَّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِمْ أَعْيُنُهُمْ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الطِّفْلَ يَحْيَا فِي مَرْحَلَةِ طُفُولَتِهِ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، لَيْسَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)[النحل: 78]، فَالطِّفْلُ لَا يَسْتَطِيعُ الِاسْتِقْلَالَ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ عَمَّنْ يَعُولُهُ، وَيَظَلُّ هَكَذَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عَنْهُ سِنُونَ تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ وَيَتَعَلَّمَ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ التَّبَعِيَّةِ إِلَى الِاسْتِقْلَالِيَّةِ.
أَيُّهَا الْآبَاءُ الْفُضَلَاءُ: إِنَّ لِمَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ خَصَائِصَ وَمُمَيِّزَاتٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:
أَنَّ الطِّفْلَ يُولَدُ طَاهِرًا بَرِيئًا نَقِيًّا، لَا يَعْرِفُ الذَّنْبَ وَلَمْ يَقْتَرِفْهُ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ إِلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ؛ (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)[الروم: 30](متفق عليه)، وَالْفِطْرَةُ، جَانِبُ كَوْنِهَا الْإِسْلَامَ، فَهِيَ الْبَرَاءَةُ وَالنَّقَاءُ وَالطَّهَارَةُ.
فَلْنُحَافِظْ عَلَى تِلْكَ الْبَرَاءَةِ فِي أَوْلَادِنَا مِنْ أَنْ تَتَلَوَّثَ أَوْ تَتَكَدَّرَ، فَلْنُبْعِدْهُمْ عَنْ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَدِّلَ فِطْرَتَهُمْ غِشًّا أَوْ دَنَسًا أَوْ رِجْسًا أَوْ مَكْرًا أَوْ خِدَاعًا، فَلْنُطَهِّرِ الْمنْزِلَ مِنْ كُلِّ قَنَاةٍ تِلِيفِزْيُونِيَّةٍ خَلِيعَةٍ، وَمِنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ أَوْ مُضِرٍّ، وَلْنَكُنْ قُدْوَةً لَهُمْ لِنُكْمِلَ تِلْكَ الْبَرَاءَةَ؛ فَلَا نَكْذِبُ وَلَا نَتَكَاسَلُ عَنِ الصَّلَاةِ وَلَا نَغْتَابُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنَ الْخَصَائِصِ: وَفْرَةُ الطَّاقَةِ لَدَى الْأَطْفَالِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَطْفَالَ الَّذِينَ فِي بُيُوتِكُمْ مَنْجَمٌ ثَرِيٌّ بِالطَّاقَةِ الْمُتَدَفِّقَةِ وَالْحَمَاسِ وَالْإِقْبَالِ وَالَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُوَجَّهَ وَتُوَظَّفَ نَحْوَ الْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْحَقِّ، نَعَمْ، عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَثْمِرَ هَذِهِ الطَّاقَةَ وَنَسْتَغِلَّهَا فِيمَا يَنْفَعُهُمْ فِي مُسْتَقْبَلِهِمْ، فَهَذَا الْفَارُوقُ عُمَرُ يَكْتُبُ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ قَائِلًا: "عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرِّمَايَةَ وَالْفُرُوسِيَّةَ"(تنبيه الغافلين للسمرقندي)؛ فَهَكَذَا فَلْتُوَجَّهْ طَاقَةُ الْأَطْفَالِ إِلَى مَا يَنْفَعُهُم وَيَنْفَعُ مُجْتَمَعَهُمْ وَأُمَّتَهُمْ، وَمَا هَذِهِ إِلَّا نَمَاذِجُ وَأَمْثِلَةٌ لِمَا يُمْكِنُ أَنْ تُفَرَّغَ فِيهِ طَاقَاتُ الْأَوْلَادِ مِنَ الْخَيْرِ؛ كَيْلَا يَدْفَعَهُمُ الشَّيْطَانُ وَيُسَوِّلَ لَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهَا فِي الْبَاطِلِ وَفِيمَا يَضُرُّهُمْ.
وَمِمَّا يَجْدُرُ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْمُرَبِّينَ أَنْ يُخْرِجُوا فِيهِ طَاقَاتِ أَوْلَادِهِمْ وَيُوَظِّفُوا فِيهِ جُهُودَ أَطْفَالِهِمْ: الْعِبَادَاتُ وَالْقُرُبَاتُ، تَمَامًا كَمَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ تَفْعَلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـَم-، وَهَذِهِ إِحْدَاهُنَّ تَرْوِي مَا كَانَتْ تَصْنَعُ مَعَ أَطْفَالِهَا؛ إِنَّهَا الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ، تَقُولُ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: "مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ" فَكُنَّا، بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ (متفق عليه)؛ فَلَيْسَ مِنَ الشَّفَقَةِ الْمَمْدُوحَةِ بِالْأَطْفَالِ أَنْ نَرْحَمَهُمْ مِنْ جُوعِ الصِّيَامِ؛ بَلْ تَمَامُ الرَّحْمَةِ بِهِمْ أَنْ نُعَوِّدَهُمْ عَلَى مَا يُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ -أَيْضًا- سَبِيلٌ قَوِيمٌ لِاسْتِخْرَاجِ الطَّاقَاتِ الْمَذْخُورَةِ فِي أَجْسَادِهِمْ.
كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ الطَّاهِرَ لَا يُعَابُ عَلَى الْأَطْفَالِ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا فُطِرُوا عَلَيْهِ لِإِخْرَاجِ طَاقَاتِهِمْ فِيهِ، لِهَذَا لَمْ يَكْبِتِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِلْكَ الرَّغْبَةَ الطُّفُولِيَّةَ فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ عِنْدَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الصِّبْيَانِ، فَهَذَا أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْـهُ- يَحْكِي قَائِلًا: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟" قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ، يَا رَسُولَ اللهِ (متفق عليه واللفظ لمسلم)؛ وَلَسْتُ أَشُكُّ أَنَّ مِمَّا دَفَعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- لِلضَّحِكِ لِأَنَسٍ -بَعْدَ حُسْنِ خُلُقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- إِدْرَاكُهُ أَنَّ ذَلِكَ طَبَعِيٌّ مَرْغُوبٌ فِي مِثْلِ سِنِّهِ.
وَهَذِهِ وَاقِعَةٌ أُخْرَى، وَفِيهَا يُقِرُّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- طِفْلًا عَلَى لَعِبِهِ بِطَائِرٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ يُوَاسِيهِ فِي مَوْتِهِ، فَيْرِوي أَنَسٌ -أَيْضًا- فَيَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ، قَالَ: أَحْسِبُهُ، قَالَ: كَانَ فَطِيمًا، قَالَ: فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَآهُ، قَالَ: "أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟" قَالَ: فَكَانَ يَلْعَبُ بِهِ (متفق عليه)، فَلَمْ يَنْهَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اللَّعِبِ بِهِ مَا دَامَ لَا يُؤْذِيهِ وَلَا يُعَذِّبُهُ كَمَا يَفْعَلُ الْبَعْضُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا، وَهُوَ مَنْ عَلَّمَ الدُّنْيَا الرِّفْقَ بِالْحَيَوَانِ.
وَمِنْ خَصَائِصِ الطُّفُولَةِ -أَيُّهَا الْأَحْبَابُ الْكِرَامُ-: تَعَلُّمُ الطِّفْلِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْمُحَاكَاةِ؛ فَإِنَّ أَسَالِيبَ تَعْلِيمِ الْأَطْفَالِ وَتَرْبِيَتِهِمْ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ مَا بَيْنَ تَلْقِينٍ وَتَوْجِيهٍ وَتَوْبِيخٍ وَغَيْرِهَا، وَيَبْقَى الْأُسْلُوبُ الْأَرْقَى وَالْأَعْظَمُ تَأْثِيرًا وَالْأَعْمَقُ أَثَرًا هُوَ أُسْلُوبُ التَّرْبِيَةِ بِالْقُدْوَةِ؛ فَقَدْ جُبِلَتِ الْأَطْفَالُ عَلَى حُبِّ التَّقْلِيدِ وَالْمُحَاكَاةِ، فَهُمْ يُقلِّدُونَ وَيُحَاكُونَ كُلَّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِمْ أَعْيُنُهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ شَرٍّ، وَيُجَرِّبُونَ كُلَّ مَا عَنْهُ يَسْمَعُونَ مِنْ بَابِ الْفُضُولِ؛ لِذَا فَإِنَّ مِنْ وَاجِبَاتِ الْمُرَبِّينِ أَنْ يَكُونُوا خَيْرَ قُدْوَةٍ لِأَطْفَالِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ بِأَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ يُشَكِّلُونَ عُقُولَ وَقُلُوبَ وَسُلُوكَ جِيلٍ قَادِمٍ، وَهَذِهِ وَاقِعَةٌ تُنْبِئُكَ نَجَاحَ ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ التَّرْبَوِيِّ؛ أُسْلُوبِ التَّرْبِيَةِ بِالْقُدْوَةِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَبَقَيْتُ كَيْفَ يُصَلِّي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: فَقَامَ فَبَالَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْقِرْبَةِ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ صَبَّ فِي الْجَفْنَةِ أَوِ الْقَصْعَةِ، فَأَكَبَّهُ بِيَدِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا حَسَنًا بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَجِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَتَكَامَلَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً... (متفق عليه واللفظ لمسلم).
فَانْظُرْ كَيْفَ وَصَفَ لَنَا ذَلِكَ الصَّبِيُّ الذَّكِيُّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دِقَّةٍ شَدِيدَةٍ، تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ مُلَاحَظَةٍ يَتَمَتَّعُ بِهَا أَغْلَبُ الْأَطْفَالِ؟! ثُمَّ كَيْفَ دَفَعَتْهُ مُلَاحَظَتُهُ وَحُبُّهُ لِلتَّقْلِيدِ وَالْمُحَاكَاةُ إِلَى أَنْ يَقُومَ فَيُقَلِّدَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُحَاكِيَهُ فَيُصَلِّيَ كَمَا يُصَلِّي؟!
وَمِمَّا يَدُلُّ -أَيْضًا- عَلَى عَمِيقِ تَأْثِيرِ هَذَا الْأُسْلُوبِ التَّرْبَوِيِّ فِي الْأَطْفَالِ أَنَّ أَنَسًا، وَهُوَ الطِّفْلُ الَّذِي صَحِبَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَنَوَاتٍ عَدِيدَةً، مَا تَكَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّةً إِلَّا وَمَدَحَ أَخْلَاقَهُ وَأَثْنَى عَلَى حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ؛ فَفِي حَدِيثَيْ أَنَسٍ السَّابِقَيْنِ وَجَدْنَاهُ قَدْ صَدَّرَهُمَا بِقَوْلِهِ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا"، وَفِي غَيْرِهِمَا يَقُولُ: "خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِسْعَ سِنِينَ، فَمَا أَعْلَمُهُ قَالَ لِي قَطُّ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ وَلَا عَابَ عَلَيَّ شَيْئًا قَطُّ"(رواه مسلم)، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَأَثُّرِ أَنَسٍ بِمَا رَأَتْهُ عَيْنَاهُ وَسَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ مِنْ حَالِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
وَلَا زِلْنَا -عِبَادَ اللهِ- مَعَ الْخَصَائِصِ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا الْأَطْفَالُ، وَمِنْهَا: الِاسْتِطْلَاعُ وَحُبُّ الِاكْتِشَافِ، وَدَعُونِي أُقَرِّرُ فِي ثِقَةٍ أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ رَكَزَ ذَلِكَ فِي فِطَرِ الْأَطْفَالِ لَمَا تَعَلَّمُوا وَلَمَا تَقَدَّمُوا وَلَمَا تَطَوَّرُوا، وَإِنَّ الْمُتَأَمِّلَ الْفَطِنَ لَيَعِيَ تَمَامًا أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- مَا وَهَبَ لِلصِّغَارِ الْعَقْلَ وَالْبَصَرَ وَالسَّمْعَ إِلَّا لِيَسْتَكْشِفُوا بِهِ فَيَعْلَمُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)[النحل:78]، "يَعْنِي: أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إِنَّمَا أَعْطَاكُمْ هَذِهِ الْحَوَاسَّ لِتَنْتَقِلُوا بِهَا مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ"(تفسير الخازن).
فَحُبُّ الِاسْتِكْشَافِ عِنْدَ الْأَطْفَالِ مُفِيدٌ لَهُمْ مَا نَجَحَ الْمُرَبُّونَ فِي حِيَاطَتِهِ بِالْوَعْيِ وَالْعَقْلِ، فَيُعْلِمُونَهُمْ أَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا لَا يَجُوزُ مُحَاوَلَةُ اسْتِكْشَافِهَا شَرْعًا، وَمِنْهَا مَا لَا يَصِحُّ طَلَبُ اسْتِكْشَافِهِ عَقْلًا، فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ مُحَاوَلَةُ اسْتِكْشَافِهِ شَرْعًا فَهُوَ ذَاتُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللهِ، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي اللهِ"(الطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب، وحسنه الألباني)، وَكَيْفَ لِلْهَيْئَةِ التَّائِهَةِ التَّافِهَةِ الْمَحْدُودَةِ أَنْ تُدْرِكَ كُنْهَ مَلِكِ الْمُلُوكِ وَمَالِكِ الْمُلْكِ؛ (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)[الأنعام: 103].
وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْحِمَ فُضُولَهُ فِيمَا قَطَعَ الشَّرْعُ أَنَّنَا لَنْ نَصِلَ فِيهِ إِلَى شَيْءٍ؛ كَأَمْرِ الرُّوحِ مَثَلًا؛ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الإسراء:85].
وَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ طَلَبُ اسْتِكْشَافِهِ عَقْلًا فَهُوَ كُلُّ خَطِيرٍ أَوْ ضَارٍّ؛ فَلَا يَصِحُّ عَقْلًا أَنْ يُجَرِّبَ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْمُسْكِرَاتِ، وَلَا أَنْ يَخُوضَ فِي كُتُبِ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ... فَإِذَا نَجَحَ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْمُرَبُّونَ فِي إِحَاطَةِ فُضُولِ الْأَطْفَالِ دَاخِلَ هَذَا السِّيَاجِ الشَّرْعِيِّ الْعَقْلِيِّ فَمَا بَقِيَ مِنْ حُبِّ الِاسْتِكْشَافِ إِلَّا الْخَيْرُ وَالْمُفِيدُ.
أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: فَهَذِهِ بَعْضُ خَصَائِصِ مَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ، تِلْكَ الْمَرْحَلَةُ الْفَارِقَةُ الْخَطِيرَةُ، وَالْإلْمَامُ بِهَا يُفِيدُ فِي فَهْمِ طَبِيعَةِ تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ، وَبِالتَّالِي حُسْنُ التَّعَامُلِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَتَجَنُّبُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْطَاءِ التَّرْبوِيَّةِ.
فَاللَّهُمَّ بَارِكْ فِي أَوْلَادِنَا، وَاجْعَلْهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ لَنَا، اصْنَعْهُمْ عَلَى عَيْنِكَ، وَاحْفَظْهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ بِحَوْلِكَ وَطَوْلِكَ.
وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي