وَمِنْ عَوَائِقِ التَّرْبِيَةِ: تَمَرُّدُ الطِّفْلِ، وَعَدَمُ امْتِثَالِهِ لِأَوَامِرِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَمُرَبِّيهِ، وَالْغَالِبُ فِي هَذَا الْعَائِقِ مِنْ عَوَائِقِ التَّرْبِيَةِ أَنَّهُ مِنْ صُنْعِ الْقَائِمِينَ عَلَى أَمْرِ الطِّفْلِ؛ فَإِمَّا أَنَّهُمْ يُكَلِّفُونَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُهُ أَوْ يُحْسِنُهُ أَوْ يُحِبُّهُ، وَلَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- عَنْ ذَلِكَ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَا أَشُكُّ أَنَّ كُلَّ أَبٍ وَأُمٍّ وَكُلَّ مُرَبٍّ يُحِبُّ وَيَحْرِصُ أَنْ يُرَبِّيَ أَطْفَالَهُ عَلَى خَيْرِ الْقِيَمِ وَالْـمُـثُلِ وَالْفَضَائِلِ، وَيَسْمُو بِهِمْ عَنِ السَّفَاسِفِ وَالرَّذَائِلِ، لَكِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَجِدُ مَا يُعِيقُهُ وَيُعَرْقِلُ سَعْيَهُ فِي إِصْلَاحِ أَوْلَادِهِ وَالتَّرَقِّي بِهِمْ، وَمِنْ هَذِهِ الْعَوَائِقِ وَالْعَرَاقِيلِ مَا يَكُونُ ذَاتِيًّا فِي الطِّفْلِ نَفْسِهِ؛ سَوَاءً كَانَ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ أَوْ مُكْتَسَبًا، وَمِنْهَا عَوَائِقُ أُخْرَى خَارِجِيَّةٌ لَكِنَّهَا تُؤَثِّرُ عَلَى الطِّفْلِ بِالسَّلْبِ، وَسَنَتَعَرَّضُ فِيمَا يَلِي لِبَعْضٍ مِنْ عَوَائِقِ تَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ، مُحَاوِلِينَ تَقْدِيمَ التَّعْلِيلِ لَهَا ثُمَّ الْعِلَاجِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْعَوَائِقِ:
الْكَذِبُ، فَمِنَ الْأَطْفَالِ مَنْ يَكْثُرُ كَذِبُهُ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَلَا بُدَّ لِمَعْرِفَةِ الْعِلَاجِ الْمُنَاسِبِ لِكَذِبِ الطِّفْلِ أَنْ نُدْرِكَ أَوَّلًا لِمَاذَا يَكْذِبُ؟ فَإِنْ كَانَ يَكْذِبُ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ عَلَى خَطَأٍ ارْتَكَبَهُ -وَيُعْرَفُ هَذَا مِنِ ارْتِبَاكِهِ وَتَلَعْثُمِهِ وَمِنْ قَرَائِنَ أُخْرَى- فَعِلَاجُهُ أَنْ تُرَبَّى فِيهِ رُوحُ الشَّجَاعَةِ، وَأَنْ يُعَوَّدَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْخَطَأِ، وَأَنْ نَعِدَهُ وَعْدًا عَامًّا بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُ إِذَا أَخْطَأَ فَاعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ بِنَفْسِهِ دُونَ مُرَاوَغَةٍ.
وَإِنْ كَانَ يَكْذِبُ تَهَرُّبًا مِنْ مَسْئُولِيَّةٍ مَا وَاسْتِثْقَالًا لِأَدَائِهَا، فَعِلَاجُهُ أَنْ تَجْعَلَهُ يَعِي أَهَمِّيَّةَ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ مَسْئُولِيَّاتٍ، وَأَنَّهُ يُؤَدِّي عَمَلًا هَامًّا، وَأَنْ تُنَبِّهَهُ أَنَّهُ لَنْ يَقُومَ بِعَمَلِهِ سِوَاهُ مَهْمَا أَجَّلَهُ وَسَوَّفَهُ، وَأَنْ تُثْنِيَ عَلَيْهِ إِذَا مَا قَامَ بِمَسْئُولِيَّتِهِ وَتُكَافِئَهُ عَلَى أَدَائِهَا.
وَإِنْ كَانَ يَكْذِبُ طَلَبًا لِمَنْزِلَةٍ فِي قَلْبِكَ وَعُلُوًّا فِي عَيْنِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَاجَ النَّاجِعَ لَهُ هُوَ تَقْدِيرُكَ أَنْتَ لَهُ وَإِعْلَامُهُ بِأَهَمِّيَّتِهِ عِنْدَكَ، فَحَاجَةُ الطِّفْلِ إِلَى التَّقْدِيرِ لَا تَقِلُّ عَنْ حَاجَتِهِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- أَوْعَى النَّاسِ بِذَلِكَ؛ فَلَمَّا جَاءَهُ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَا حَدِيثَا السِّنِّ، وَقَدْ ضَرَبَا أَبَا جَهْلٍ بِسَيْفَيْهِمَا، سَأَلَهُمَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـَم-: "أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟"، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟"، قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: "كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ"(متفق عليه)؛ فَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ-: "كِلَاكُمَا قَتَلَهُ" تَطْيِيبًا لِقَلْبِ الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ لَهُ مُشَارَكَةً فِي قَتْلِهِ، وَإِلَّا فَالْقَتْلُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ وَهُوَ الْإِثْخَانُ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُمْتَنِعًا إِنَّمَا وُجِدَ مِنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، فَلِهَذَا قَضَى لَهُ بِالسَّلَبِ"(شرح النووي على صحيح مسلم).
وَمِنْ عِلَاجَاتِهِ -كَذَلِكَ- الْتِزَامُ الْمُرَبِّي الصِّدْقَ، وَعَدَمُ وُقُوعِهِ فِي الْكَذِبِ؛ فَإِنَّهُ قُدْوَةٌ لِطِفْلِهِ، وَهَذَا مَا كَانَ يَحْرِصُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ-، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِنَا وَأَنَا صَبِيٌّ، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَخْرُجُ لِأَلْعَبَ، فَقَالَتْ أُمِّي: يَا عَبْدَ اللهِ تَعَالَ أُعْطِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ؟" قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ"(رواه أحمد، وحسنه الألباني).
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ عَوَائِقِ التَّرْبِيَةِ: تَمَرُّدُ الطِّفْلِ، وَعَدَمُ امْتِثَالِهِ لِأَوَامِرِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَمُرَبِّيهِ، وَالْغَالِبُ فِي هَذَا الْعَائِقِ مِنْ عَوَائِقِ التَّرْبِيَةِ أَنَّهُ مِنْ صُنْعِ الْقَائِمِينَ عَلَى أَمْرِ الطِّفْلِ؛ فَإِمَّا أَنَّهُمْ يُكُلِّفُونَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُهُ أَوْ يُحْسِنُهُ أَوْ يُحِبُّهُ، وَلَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- عَنْ ذَلِكَ حِينَ قَالَ عَنِ الْخَدَمِ: "وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"(متفق عليه)؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبَ مَعَ خَدَمِنَا؛ فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّأْنُ مَعَ أَفْلَاذِ أَكْبَادِنَا!
وَقَدْ يَكُونُ عِصْيَانُ الطِّفْلِ لِلْأَمْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَا أُمِرَ بِهِ؛ كَأَنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي صِيغَةٍ مُجْمَلَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ مُبْهَمَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيَكْمُنُ الْحَلُّ فِي أَنْ يُعِيدَ الْمُرَبِّي عَلَى طِفْلِهِ الْأَمْرَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ قَدْ عَقَلَهُ عَنْهُ، وَقُدْوَتُنَا فِي ذَلِكَ هُوَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- فَقَدْ رَوَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ قَائِلَةً: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَسْرُدُ الْكَلَامَ كَسَرْدِكُمْ هَذَا، كَانَ كَلَامُهُ فَصْلًا يُبَيِّنُهُ، يَحْفَظُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ"(رواه النسائي في الكبرى، وأصله في الصحيحين)، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَرَّرَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ حِينَ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا؛ حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ"(رواه البخاري)، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَالُ مَعَ الْكَبِيرِ الْعَاقِلِ، فَإِنَّهُ مَعَ الصَّغِيرِ أَوْلَى وَأَجْدَرُ.
وَأَحْيَانًا يَكُونُ سَبَبَ ذَلِكَ: فَرْطُ ذَكَاءِ الطِّفْلِ؛ فَهُوَ يُكْثِرُ التَّفْكِيرَ فِيمَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَمِنْ طَبِيعَتِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ الشَّيْءَ إِلَّا إِذَا اقْتَنَعَ بِهِ، وَذَكَاؤُهُ يَكْشِفُ لَهُ أَنَّ فِعْلَ شَيْءٍ آخَرَ أَفْضَلُ، فَلِهَذَا لَا يَفْعَلُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَلَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي بَعْضِ شُئُونِهِ، فَسَأَلَهُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنـْهُ-: "أَكُونُ فِي أَمْرِكَ إِذَا أَرْسَلْتَنِي كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ لَا يُثْنِينِي شَيْءٌ حَتَّى أَمْضِيَ لِمَا أَمَرْتَنِي بِهِ، أَمِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ؟" يَقْصِدُ: أَفْعَلُ مَا أَمَرْتَ دُونَ تَفْكِيرٍ وَلَا تَرَيُّثٍ وَلَا اعْتِبَارٍ؟ فَأَجَابَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ-: "بَلِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ"(رواه البزار في مسنده، وأحمد مختصرًا، وذكره الألباني في الصحيحة)، وَقَدْ عَلَّقَ الصَّنْعَانِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ قَائِلًا: "وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي حَيَاتِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"(التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني)، فَاجْتِهَادُ الطِّفْلِ فِي أَوَامِرِ مُرَبِّيهِ أَكْثَرُ جَوَازًا، وَلَا يَنْبَغِي نَهْرُهُ حِينَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، بَلْ يُعَرَّفُ بِالْحِكْمَةِ مِنَ الْأَوَامِرِ حَتَّى يَقْتَنِعَ بِهَا فَيَفْعَلَهَا رَاضِيًا، وَلِهَذَا بَالِغُ الْأَثَرِ فِي بِنَاءِ شَخْصِيَّتِهِ.
هَذَا، وَقَدْ تَعَلَّمْنَا مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- وَسِيلَةً أُخْرَى مِنْ وَسَائِلِ التَّعَامُلِ مَعَ الطِّفْلِ غَيْرِ الْمُطِيعِ؛ وَذَلِكَ حِينَ قَالَ صَاحِبُ السُّنَّةِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ-: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ"(أبو داود وصححه الألباني)، وَبَدَهِيٌّ أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ إِلَّا مَنْ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ فَعَصَى وَلَمْ يَمْتَثِلْ.
وَمِنْ عَوَائِقِ التَّرْبِيَةِ الْخَارِجِيَّةِ -أَيُّهَا الْآبَاءُ الْفُضَلَاءُ-: فَسَادُ الْبِيئَةِ الْمُحِيطَةِ بِالطِّفْلِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْبِيئَةَ إِذَا فَسَدَتْ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ كُلَّ مَنْ نَبَتَ فِيهَا إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، لِدَرَجَةِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ- قَدْ حَذَّرَنَا مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ تَشَبَّعَتْ وَتَرَعْرَعَتْ فِي بِيئَةِ سُوءٍ؛ فَقَدْ رُويَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنِ"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ؟ قَالَ: "الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ فِي الْمَنْبَتِ السُّوءِ"(مسند الشهاب للقضاعي)، وَصَدَقَ اللهُ: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا)[الأعراف: 58].
أَقُولُ: هَذَا إِنْ أَسْلَمْنَا الطِّفْلَ لِتِلْكَ الْبَيِئَةِ حَتَّى اسْتَقَى مِنْهَا وَتَشَبَّعَ، وَهَذَا تَضْيِيعٌ لِلطِّفْلِ يُحَاسَبُ فَاعِلُهُ أَمَامَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكِنْ كَيْفَ نَتَخَطَّى هَذِهِ الْعَقَبَةَ مِنْ عَقَبَاتِ التَّرْبِيَةِ؟ أَقُولُ: بِالْوَسَائِلِ الْآتِيَةِ:
أَوَّلًا: أَنْ نَنْتَقِيَ لَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ الصَّالِحِينَ مَنْ يُجَنِّبُهُ شَرَّ الْفَاسِدِينَ، فَالْقَاعِدَةُ تَقُولُ: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ"(الحاكم وحسنه الألباني)، فَإِنْ كَانَ قُرَنَاؤُهُمْ صَالِحِينَ فَهُوَ كَذَلِكَ.
ثَانِيًا: التَّبْصِيرُ وَالتَّوعِيَةُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ فَإِنَّ الطِّفْلَ إِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالضَّلَالِ فَقَدْ حَازَ نِصْفَ الْعِلَاجِ.
ثَالِثًا: مُتَابَعَةُ أَيِّ خَلَلٍ يَطْرَأُ عَلَى سُلُوكِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الْحَقِّ وَتَقْوِيمُهُ أَوَّلًا بِأَوَّلٍ.
أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: وَمِنْ عَوَائِقِ التَّرْبِيَةِ: أَنْ يَكُونَ الطِّفْلُ عُدْوَانِيًّا يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَطْفَالِ بِالضَّرْبِ أَوْ بِالسَّبِّ أَوْ يَأْخُذُ مِنْهُمْ أَشْيَاءَهُمْ... وَهَذَا طِفْلٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَآلَفَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَطْفَالِ، وَإِنَّ الْمُتَفَكِّرَ لَيُدْرِكُ أَنَّ هَذَا الطِّفْلَ الْعُدْوَانِيَّ مَا صَارَ كَذَلِكَ إِلَّا لِأَسْبَابٍ دَفَعَتْهُ وَأَحْوَجَتْهُ؛ فَلْنَنْظُرْ إِنْ كَانَ سَبَبَ عُدْوَانِيَّتِهِ ظُلْمٌ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ؛ فَهُوَ يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ انْتِصَارًا لِنَفْسِهِ، فَلْنُعَلِّمْهُ أَنَّ الظُّلْمَ لَا يُبَرِّرُ الظُّلْمَ، وَأَنْ نُذَكِّرَهُ بِمَرَارَةِ الظُّلْمِ -الَّذِي ذَاقَهُ مِنْ قَبْلُ- لِيَمْتَنِعَ عَنْ ظُلْمِ غَيْرِهِ، رُبَّمَا بِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي اسْتَخْدَمَهَا مُؤَدِّبُ كِسْرَى، إِنْ لَمْ نَجِدْ غَيْرَهَا، فَقَدْ "رُوِيَ أَنَّ كِسْرَى أَنُوشَرْوَانَ كَانَ لَهُ مُعَلِّمٌ حَسَنُ التَّأْدِيبِ يُعَلِّمُهُ حَتَّى فَاقَ فِي الْعُلُومِ، فَضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ فَأَوْجَعَهُ، فَحَقِدَ أَنُوشَرْوَانَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُلْكَ قَالَ لِلْمُعَلِّمِ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ضَرْبِي يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ظُلْمًا؟ فَقَالَ لَهُ: لَمَّا رَأَيْتُكَ تَرْغَبُ فِي الْعِلْمِ رَجَوْتُ لَكَ الْمُلْكَ بَعْدَ أَبِيكَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُذِيقَكَ طَعْمَ الظُّلْمِ لِئَلَّا تَظْلِمَ"(المستطرف في كل فن مستطرف للأبشيهي).
وَإِنْ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ زِيَادَةَ نَشَاطٍ وَرَغْبَةٍ فِي إِظْهَارِ الْقُوَّةِ وَالتَّفَوُّقِ، فَلْنُسَاعِدْهُ عَلَى تَصْرِيفِ هَذِهِ الطَّاقَةِ الزَّائِدَةِ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّ سِوَاهُ...
وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ عَلَيْنَا الِابْتِعَادُ عَنْ عِقَابِهِ بَدَنِيًّا؛ فَإِنَّهُ غَالِبًا مَا يَزِيدُ الْمُشْكِلَةَ، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ؛ فَمِنْ عِلَاجَاتِهِ الرَّحْمَةُ وَالْحَنَانُ وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعَامُلِ الْإِسْلَامِيِّ مَعَ الْأَطْفَالِ، فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ!"(متفق عليه واللفظ لمسلم).
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللهِ: وَمَا زَالَ حَدِيثُنَا مَوْصُولًا حَوْلَ عَوَائِقِ التَّرْبِيَةِ، وَمِنْ تِلْكَ الْعَوَائِقِ: اسْتِكْشَافُ الْأَطْفَالِ الَّذِي يَتَحَوَّلُ إِلَى إِفْسَادٍ، فَكُلَّمَا غَفَلَتِ الْأُمُّ عَنْ طِفْلِهَا بُرْهَةً أَفَاقَتْ عَلَى صَوْتِ شَيْءٍ يَتَهَشَّمُ أَوْ ثَمِينٍ يَتَحَطَّمُ...
وَعِلَاجُ ذَلِكَ الْعَائِقِ يَكُونُ مِنْ خِلَالِ تَرْشِيدِ تِلْكَ النُّزْعَةِ الِاسْتِكْشَافِيَّةِ؛ بِأَنْ يُعَلَّمَ الطِّفْلُ كَيْفَ يَسْتَكْشِفُ دُونَ أَنْ يُخَرِّبَ أَوْ يَضُرَّ نَفْسَهُ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ؛ كَأَثَاثٍ قَدِيمٍ أَوْ جِهَازٍ مُسْتَهْلَكٍ نُطْلِقُ فِيهِ يَدَهُ، وَيَتَعَلَّمُ كَذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْغَالِيَةِ وَالثَّمِينَةِ وَالْمُعَقَّدَةِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ نَعْبَثَ بِهِ وَإِلَّا أَفْسَدْنَاهُ.
وَمِنَ الْعِلَاجَاتِ -كَذَلِكَ- أَنْ نُعَلِّمَهُ أَدَبَ الِاسْتِئْذَانِ قَبْلَ أَنْ تَمْتَدَّ يَدُهُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَثَاثِ الْمَنْزِلِ، فَنَأْذَنُ لَهُ فِي الْمُتَاحَاتِ، وَنَمْنَعُهُ مِمَّا يَضُرُّ.
وَمِنْ أَهَمِّ عِلَاجَاتِ وَحُلُولِ هَذَا الْعَائِقِ: تَوْفِيرُ الْبَدِيلِ الْمُنَاسِبِ لَهُ؛ كَمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْأَلْعَابِ الَّتِي تُفَكَّكُ إِلَى قِطَعٍ ثُمَّ تُرَكَّبُ، ثُمَّ إِذَا شَبَّ هَذَا الطِّفْلُ عَنِ الطَّوْقِ -أَوْ كَادَ- نَبْدَأُ بِتَوْجِيهِ مَهَارَتِهِ تِلْكَ إِلَى مَجَالِ صِيَانَةِ الْأَجْهِزَةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ -مَثَلًا- فِي إِجَازَتِهِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَجَالَاتِ الَّتِي تُنَاسِبُهُ...
أَيُّهَا الْآبَاءُ وَالْمُرَبُّونَ: ذَكَرْنَا بَعْضَ الْعَوَائِقِ، وَاجْتَهَدْنَا فِي سَرْدِ عِلَاجَاتِهَا، وَيَبْقَى الْعِلَاجُ الْأَنْجَعُ لِكُلِّ دَاءٍ، وَهُوَ اسْتِحْفَاظُ اللهِ إِيَّاهُمْ أَنْ نَهَبَهُمْ للهِ كَمَا فَعَلَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي)[آل عمران: 35].
فَاللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي أَوْلَادِنَا، وَاهْدِ قُلُوبَهُمْ وَعُقُولَهُمْ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَنَشِّئْهُمْ نَشْأَةً تَرْضَاهَا..
وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي