الأساليب الفكرية المؤثرة في عقل الطفل -1

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. أهمية العناية بتفكير الطفل .
  2. أساليب فكرية مؤثرة في عقل الطفل: رواية القِصص النافعة، الخطاب المباشر له، الحوار معه، التربية بالحدث. .

اقتباس

وَمِنَ الْأَسَالِيبِ الْفِكْرِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي عَقْلِ الطِّفْلِ: الْخِطَابُ الْمُبَاشِرُ لَهُ، الَّذِي يَتَجَاذَبُ الْوَالِدُ بِهِ مَعَهُ أَطْرَافَ الْحَدِيثِ حَوْلَ قَضِيَّةٍ مَا، يُسْمِعُهُ وَيَسْمَعُ مِنْهُ، فَيَنْظُرُ كَلَامَهُ وَمَدَى مَا يُفَكِّرُ وَيَفْهَمُ، وَعَنْ طَرِيقِهِ يَعْرِفُ أَيْنَ وَصَلَ عَقْلُهُ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ عَمَلِيَّةَ التَّفْكِيرِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْجُهُودِ الذِّهْنِيَّةِ الَّتِي تُنَمِّي الْعَقْلَ وَتُحْكِمُ السُّلُوكَ، وَتُعِيدُ تَرْتِيبَ الْأُمُورِ تَرْتِيبًا صَحِيحًا، وَتُوصِلُ إِلَى نَتَائِجَ حَسَنَةٍ.

وَالْعِبَرُ وَالْآيَاتُ، وَالْأَحْدَاثُ وَالْعِظَاتُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْهَا إِلَّا الْمُعْمِلُونَ لِتَفْكِيرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الجاثية:13]، وَقَالَ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ)[الزمر:21].

وَكُلَّمَا كَانَ التَّفْكِيرُ يَنْمُو مَعَ الإِنْسَانِ مُنْذُ طُفُولَتِهِ كَانَ ذَلِكَ أَصَحَّ لِسَلَامَةِ الْعَقْلِ وَنُضْجِ التَّفْكِيرِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الطِّفْلَ بِحَاجَةٍ إِلَى الْعِنَايَةِ بِعَقْلِهِ مِنْ قِبَلِ مُرَبِّيهِ، وَاتِّخَاذِهِمُ الْأَسَالِيبَ النَّاجِحَةَ فِي تَنْمِيَةِ فِكْرِهِ، وَزِيَادَةِ تَوَقُّدِ ذِهْنِهِ؛ لِمَا لِذَلِكَ مِنْ آثَارٍ طَيِّبَةٍ عَلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِهِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْفِكْرِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ عَلَى زِيَادَةِ عَقْلِ الطِّفْلِ وَانْفِتَاحِهِ:

رِوَايَةُ الْقِصَصِ النَّافِعَةِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَى أَشْيَاءَ مَأْلُوفَةٍ غَيْرِ خَيَالِيَّةٍ، وَهِيَ بِدَوْرِهَا سَتُنَمِّي قُدُرَاتِهِ الْعَقْلِيَّةَ، وَمَهَارَاتِهِ الْفِكْرِيَّةَ، وَثَرْوَتَهُ اللُّغَوِيَّةَ، وَقُدْرَتَهُ عَلَى الْكَلَامِ.

وَالنَّاظِرُ فِي كُتُبِ التَّرْبِيَةِ يَجِدُ لَدَى أَهْلِهَا اهْتِمَامًا كَبِيرًا بِرِوَايَةِ الْقِصَّةِ لِلْأَطْفَالِ؛ إِذْ تُعَدُّ الْقِصَّةُ وَسِيلَةً تَرْبَوِيَّةً مُهِمَّةً فِي مَنْهَجِ التَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ حَيْثُ لَا يَقْتَصِرُ دَوْرُهَا التَّرْبَوِيُّ وَتَأْثِيرُهَا الْعَاطِفِيُّ وَالنَّفْسِيُّ عَلَى الْأَطْفَالِ الصِّغَارِ فَحَسْبُ، بَلْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ لِيَشْمَلَ الْكِبَارَ وَالشُّيُوخَ؛ فَهَذَا كِتَابُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ تَضَمَّنَ بَيْنَ دَفَّتَيْهِ الْمُبَارَكَتَيْنِ قَصَصًا كَثِيرَةً يَتَرَبَّى عَلَيْهَا الْكِبَارُ قَبْلَ أَنْ يَتَرَبَّى عَلَيْهَا الصِّغَارُ...وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ اسْتِخْدَامَ الْأَبِ لِلْقِصَّةِ فِي مَجَالِ تَوْجِيهِ الْوَلَدِ وَتَرْبِيَتِهِ يُعَدُّ أَمْرًا مُوَافِقًا لِمَنْهَجِ التَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الصَّحِيحِ، خَاصَّةً وَأَنَّ التَّرْبَوِيِّينَ يَكَادُونَ يُجْمِعُونَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ اسْتِخْدَامِ الْقِصَّةِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ، وَأَنَّ لَهَا أَثَرًا تَرْبَوِيًّا جَيِّدًا عَلَى شَخْصِيَّاتِهِمْ، فَهِيَ تُقَوِّي الْخَيَالَ عِنْدَهُمْ، وَتَشُدُّ انْتِبَاهَهُمْ، وَتُنَمِّي لُغَتَهُمْ، وَتُدْخِلُ عَلَيْهِمُ السُّرُورَ وَالْبَهْجَةَ، إِلَى جَانِبِ أَنَّهَا تُعَلِّمُهُمُ الْفَضَائِلَ وَالْأَخْلَاقَ مِنْ خِلَالِ أَحْدَاثِهَا الْمُثِيرَةِ.

وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى الْأَبِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ لِلْقِصَّةِ أَنْ يُرَاعِيَ بَعْضَ الْأُمُورِ:

أَنْ تَهْدِفَ الْقِصَّةُ إِلَى فَوَائِدَ خُلُقِيَّةٍ وَأَدَبِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ، مَعَ تَجَنُّبِ الْقِصَصِ السَّخِيفَةِ.

وَأَنْ تَضُمَّ جَانِبًا مِنَ الْفُكَاهَةِ وَالْمَرَحِ لِجَذْبِ انْتِبَاهِ الْوَلَدِ وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِ.

وَأَنْ يَتِمَّ الثَّنَاءُ عَلَى أَصْحَابِ الْفَضْلِ فِي الْقِصَّةِ، وَذَمُّ أَصْحَابِ الْبَاطِلِ وَالتَّقْلِيلُ مِنْ شَأْنِهِمْ.

كَمَا يَنْبَغِي تَجَنُّبُ الْوَقَائِعِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي لَا يَفْهَمُهَا الْأَطْفَالُ، وَلَيْسَ فِيهَا دُرُوسٌ تَنْفَعُهُمْ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ بَعْضُ الْقَضَايَا الْخَاصَّةِ بِالْقِصَصِ الْمَقْرُوءَةِ، فَيُرَاعِي الْأَبُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ مَكْتُوبَةً بِخَطٍّ كَبِيرٍ وَوَاضِحٍ، وَبِلُغَةٍ سَهْلَةٍ مُيَسَّرَةٍ، مَعَ اسْتِخْدَامِ الصُّوَرِ الزَّاهِيَةِ الْمُلَوَّنَةِ".

وَسُنَّةُ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِيهَا نَمَاذِجُ حَسَنَةٌ مِنَ القَصَصِ النَّافِعِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُرْوَى لِلْأَطْفَالِ شَيْءٌ مِنْهُ، مِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي رَوَاهَا الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ - الْحَرَّةُ: أَرْضٌ بِهَا حِجَارَةٌ سُودٌ كَثِيرَةٌ- فَإِذَا شَرْجَةٌ -مَسِيلُ الْمَاءِ- مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ -الْمِسْحَاةُ: أَدَاةُ الْقَشْرِ وَالْجَرْفِ- فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ -لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ - فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ -لِاسْمِكَ- فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ".

عِبَادَ اللهِ: وَمِنَ الْأَسَالِيبِ الْفِكْرِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي عَقْلِ الطِّفْلِ: الْخِطَابُ الْمُبَاشِرُ لَهُ، الَّذِي يَتَجَاذَبُ الْوَالِدُ بِهِ مَعَهُ أَطْرَافَ الْحَدِيثِ حَوْلَ قَضِيَّةٍ مَا، يُسْمِعُهُ وَيَسْمَعُ مِنْهُ، فَيَنْظُرُ كَلَامَهُ وَمَدَى مَا يُفَكِّرُ وَيَفْهَمُ، وَعَنْ طَرِيقِهِ يَعْرِفُ أَيْنَ وَصَلَ عَقْلُهُ، وَمِنْ خِلَالِهِ يُصَوِّبُ حَدِيثَهُ، وَيُعَدِّلُ مَسَارَ تَفْكِيرِهِ، وَيُعْطِيهِ بَعْضَ الْأَفْكَارِ الْحَسَنَةِ عَنْ سَبِيلِ الْخِطَابِ مَعَهُ.

وَهَذَا الْأُسْلُوبُ يُكْسِبُ الطِّفْلَ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّعْبِيرِ، وَالْحَدِيثِ عَنِ الْمَوْضُوعِ الَّذِي يَدُورُ حَوْلَهُ الْكَلَامُ، وَيُلَقِّحُ لِسَانَهُ بِتَقْوِيمِ مُخَاطِبِهِ وَذِهْنِهِ بِأَفْكَارِ مُحَدِّثِهِ، وَيَمْتَلِكُ الشَّجَاعَةَ عَلَى الْكَلَامِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى عَصْفِ ذِهْنِهِ لِلْحَدِيثِ عَنْ فِكْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ.

لَكِنَّ الَّذِي يَجِبُ الِانْتِبَاهُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْوَالِدَيْنِ أَوِ الْمُرَبِّينَ فِي قَضِيَّةِ الْخِطَابِ الْمُبَاشِرِ هُوَ: الْعِنَايَةُ بِالِانْتِقَاءِ لِلْحَدِيثِ الْمُنَاسِبِ مَعَ الطِّفْلِ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مَوْضُوعٍ يَصْلُحُ عَرْضُهُ لِلْأَطْفَالِ لِيَتَحَدَّثُوا عَنْهُ، فَالْمَوْضُوعَاتُ الشَّائِكَةُ، وَالْقَلِقَةُ وَالْخِلَافِيَّةُ وَالْمُرْعِبَةُ وَغَيْرُ الْمَفْهُومَةِ الَّتِي لَا يَعْقِلُونَهَا يَنْبَغِي الِابْتِعَادُ عَنْهَا؛ فَالْمَقْصُودُ: أَنْ يُحَدَّثُوا بِمَا يَعْقِلُونَ، وَيُدْرِكُونَ، وَيَفْهَمُونَ، وَبِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَبِمَا يَنْفَعُهُمْ. وَرَضِيَ اللهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ قَالَ: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟!"(رواه البخاري معلقًا). وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً"(رواه مسلم في مقدمة صحيحه)، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْكِبَارِ فَالصِّغَارُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَمِنَ الْأَسَالِيبِ الْفِكْرِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي عَقْلِ الطِّفْلِ: الْحِوَارُ مَعَهُ؛ إِذْ إِنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ مِنَ الْأَسَالِيبِ الَّتِي عُنِيَ بِهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَاهْتَمَّ بِهَا الْمُرَبُّونَ وَالْمُعَلِّمُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ؛ لِمَا لَهَا مِنْ أَثَرٍ طَيِّبٍ فِي كَسْبِ الْعُلُومِ، وَتَنْوِيرِ الْفُهُومِ، وَفَتْقِ اللِّسَانِ، وَتَحْرِيرِ الْأَذْهَانِ، وَهَذَا شَامِلٌ لِلْكِبَارِ وَللِصِّغَارِ، فَالْأَطْفَالُ بِحَاجَةٍ إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ؛ فَإِنَّ الْحِوَارَ: "الْهَادِئَ يُنَمِّي عَقْلَ الطِّفْلِ، وَيُوَسِّعُ مَدَارِكَهُ، وَيَزِيدُ مِنْ نَشَاطِهِ فِي الْكَشْفِ عَنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَمُجْرَيَاتِ الْحَوَادِثِ وَالْأَيَّامِ، وَإِنَّ تَدْرِيبَ الطِّفْلِ عَلَى الْمُنَاقَشَةِ وَالْحِوَارِ يَقْفِزُ بِالْوَالِدَيْنِ إِلَى قِمَّةِ التَّرْبِيَةِ وَالْبِنَاءِ؛ إِذْ عِنْدَهَا يَسْتَطِيعُ الطِّفْلُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ حُقُوقِهِ، وَبِإِمْكَانِهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مَجَاهِيلَ لَمْ يُدْرِكْهَا، وَبِالتَّالِي تَحْدُثُ الِانْطِلَاقَةُ الْفِكْرِيَّةُ لَهُ، فَيَغْدُو فِي مَجَالِسِ الْكِبَارِ، فَإِذَا لِوُجُودِهِ أَثَرٌ، وَإِذَا لِآرَائِهِ الْفِكْرِيَّةِ صَدًى فِي نُفُوسِ الْكِبَارِ؛ لِأَنَّهُ تَدَرَّبَ فِي بَيْتِهِ مَعَ وَالِدَيْهِ عَلَى الْحِوَارِ، وَأَدَبِهِ، وَطُرُقِهِ، وَأَسَالِيبِهِ ... وَاكْتَسَبَ خِبْرَةَ الْحِوَارِ مِنْ وَالِدَيْهِ".

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحِوَارَ وَسِيلَةٌ مُهِمَّةٌ "فِي بِنَاءِ شَخْصِيَّةِ الطِّفْلِ كَفَرْدٍ وَكَشَخْصِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ، وَهُوَ يَخْلُقُ أَيْضًا رُوحَ الْمُنَافَسَةِ بَيْنَ الْأَطْفَالِ، فَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي مَيَادِينِ الْمُنَاقَشَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَكَذَلِكَ يُثْبِتُ فِيهِمْ رُوحَ الْجَمَاعَةِ وَالتَّعَاوُنِ، وَيُبْعِدُ عَنْهُمُ الْأَنَانِيَةَ وَحُبَّ الذَّاتِ الْمُفْرَطَ، وَيَبُثُّ فِيهِمْ رُوحَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَيُعَوِّدُهُمْ عَلَى النِّظَامِ وَالتَّعَاوُنِ، وَيُسَاعِدُ عَلَى الِابْتِكَارِ وَاحْتِرَامِ الطِّفْلِ لِذَاتِهِ".

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ ذُرِّيَّاتِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ لَنَاَ قُرَّةَ عَيْنٍ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِنَا الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنَ الْأَسَالِيبِ الْفِكْرِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي عَقْلِ الطِّفْلِ: التَّرْبِيَةُ بِالْحَدَثِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ عَلَى اشْتِمَالِ النَّفْسِ عَلَى الْخِلَالِ الْحَسَنِة، وَالْآدَابِ الْفَاضِلَةِ، وَتَغْيِيرِ التَّصَوُّرَاتِ الْخَاطِئَةِ، وَالسُّلُوكِيَّاتِ الْمِعْوَجَّةِ. وَالْمُتَتَبِّعُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجِدُ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً عَلَى التَّرْبِيَةِ بِالْأَحْدَاثِ وَالْمَشَاهِدِ، فَمِنْ ذَلِكَ: مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟" قُلْنَا: لَا وَاللهِ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا".

فَهَذَا حَدِيثٌ رَبَّى رَسُولُ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْأُمَّةَ بِهِ عَلَى إِدْرَاكِ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِالسُّوقِ، دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟" فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: "أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟" قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟! فَقَالَ: "فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ". وَهَذَا حَدَثٌ آخَرُ رَبَّى بِهِ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّاسَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقَارَةِ الدُّنْيَا.

فَعَلَى الْوَالِدَيْنِ أَنْ يُرَبِّيَا الْأَطْفَالَ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ، وَالسُّلُوكِ الطَّيِّبِ مِنْ خِلَالِ أَسَالِيبَ فِكْرِيَّةٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا: التَّرْبِيَةُ بِالْحَدَثِ، فَالْوَاقِعُ مَلِيءٌ بِالْأَحْدَاثِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تَصِلُ إِلَى أَسْمَاعِ الْأَطْفَالِ وَأَبْصَارِهِمْ، وَفِيهَا عِبَرٌ كَثِيرَةٌ، يُمْكِنُ مِنْ خِلَالِهَا أَنْ يَغْرِسَ الْأَبَوَانِ فِي عُقُولِ أَوْلَادِهِمَا الْمَفَاهِيمَ الْإِيجَابِيَّةَ، وَيَنْتَزِعَا مِنْهُمُ التَّصَوُّرَاتِ وَالْأَعْمَالَ السَّلْبِيَّةَ؛ فَحِينَمَا يَمُرُّ الْأَبُ مَعَ ابْنِهِ فَيَجِدَانِ رَجُلاً أَعْمَى فِي الطَّرِيقِ وَإِذَا بِإِنْسَانٍ يَأْخُذُ بِيَدِهِ لِيُسَاعِدَهُ عَلَى تَجَاوُزِ خَطَرِ السَّيَّارَاتِ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَيُوصِلُهُ إِلَى وِجْهَتِهِ، فَيَقُولُ الْأَبُ: انْظُرْ يَا بُنَيَّ، مَا أَحْسَنَ هَذَا التَّصَرُّفَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي سَاعَدَ ذَلِكَ الشَّيْخَ الْضَّرِيرَ! أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ؟! فَأَنْتَ يَا بُنَيَّ، إِذَا رَأَيْتَ مُحْتَاجًا فَعَلَيْكَ أَنْ تَسْعَى إِلَى مُسَاعَدَتِهِ، وَالْأَخْذِ بِيَدِهِ، وَالْأَمْثِلَةُ الْوَاقِعِيَّةُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ.

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَا أَجْمَلَ أَنْ نَكُونَ حَرِيصِينَ عَلَى تَنْمِيَةِ عُقُولِ أَوْلَادِنَا، وَتَفْتِيحِ أَذْهَانِهِمْ، وَزِيَادَةِ تَفْكِيرِهِمْ! فَبِصَلَاحِ ذَلِكَ مِنْهُمْ يَصْلُحُونَ، وَيَعُودُ مِنْ خَيْرِ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِيهِمْ وَمَنْ حَوْلَهُمْ.

وَعَلَى الْمُرَبِّينَ أَنْ يُعْنُوا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَيَّمَا عِنَايَةٍ؛ لِأَنَّهَا تُمَثِّلُ نَجَاحًا كَبِيرًا فِي تَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ إِذَا تَحَقَّقَتْ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَشَرِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي