الْوَاقِعُ يُثْبِتُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَوَادِثِ الْمُؤْلِمَةِ وَالْجَرَائِمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ كَانَتْ نَتِيجَةً لِإِهْمَالٍ بَطِيءٍ, بَدَأَ بِالْجَفْوَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَعَدَمِ الْقُرْبِ مِنْهُمْ، وَعَدَمِ تَنْمِيَةِ الْحُبِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِمْ, وَإِهْمَالِ إِشْبَاعِ النَّوَاحِي الْعَاطِفِيَّةِ لَدَيْهِمْ؛ لِذَا تَتَقَطَّعُ حِبَالُ…
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللهِ: الْوَالِدَانِ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِتَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ, وَالِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ, وَإِنَّ مَعْرِفَةَ الآبَاءِ لِلْوَسَائِلِ الصَّحِيحَةِ وَخِبْرَاتِ الْمُتَخَصِّصِينَ يُعِينُهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ أَتَمَّ قِيَامٍ، بَعِيدًا عَنِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى هُوَّةٍ كَبِيرَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبْنَائِنَا؛ وَإِنَّ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ مَعْرِفَةَ أَهَمِّيَّةِ مَحَبَّةِ الْأَطْفَالِ وَوَسَائِلِ ذَلِكَ.
أَيُّهَا الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ: هُنَاكَ وَسَائِلُ تَرْبَوِيَّةٌ لِتَأْكِيدِ حُبِّنَا لِأَطْفَالِنَا، مِنْهَا:
الِاقْتِرَابُ مِنْهُمْ، وَأَنْ نُضْفِيَ عَلَى تَرْبِيَتِنَا لِأَطْفَالِنَا ثَوْبًا مَرِحًا؛ فَالْحُبُّ وَالْمَرَحُ يَجْعَلُنَا أَكْثَرَ امْتِزَاجًا وَقُرْبًا مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُهُمْ أَكْثَرَ إِقْبَالاً عَلَيْنَا وَتَأَثُّرًا بِنَا، فَإِذَا كَانَ الْكِبَارُ يُحِبُّونَ الْمَرَحَ وَالْفُكَاهَةَ؛ فَالْأَطْفَالُ مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ إِنَّهُمْ يَسْتَمْتِعُونَ بِكُلِّ مَا دَخَلَهُ الْمَرَحُ؛ مِنْ حَرَكَةٍ, وَلَفْتَةٍ, وَكَلِمَةٍ, وَتَعْلِيقٍ, وَرَدَّةِ فِعْلٍ وَهَكَذَا.
إِنَّ الْمَرَحَ وَسِيلَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ تُسَهِّلُ عَلَيْنَا إِيصَالَ مَا نُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رَسَائِلَ جَادَّةٍ، وَلِكْن بِطَرِيقَةٍ يُحِبُّونَهَا هُمْ وَيَتَفَاعَلُونَ مَعَهَا أَكْثَرَ، قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: "إِنَّكَ لَتَنْفُذُ إِلَى النَّاسِ بِخِفَّةِ الظِّلِّ أَسْرَعَ بِكَثِيرٍ مِمَّا تَسْتَطِيعُهُ بِرَجَاحَةِ الْعَقْلِ"؛ فَكَيْفَ بِأَبْنَائِكَ أَفْلَاذِ قَلْبِكَ؟! فَالْقُلُوبُ تَتَعَلَّقُ بِأَصْحَابِ الرُّوحِ الْمَرِحَةِ, قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: "لِقَاءُ النَّاسِ بِالتَّبَسُّمِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ مِنْ أَخْلَاقِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلتَّكَبُّرِ، وَجَالِبٌ لِلْمَوَدَّةِ".
الْكَبِيرُ يَأْلَفُ صَاحِبَ الْبَسْمَةِ وَالضِّحْكَةِ؛ فَكَيْفَ بِالطِّفْلِ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ إِلَّا كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوِجْدَانِ وَالْعَاطِفَةِ؟! نَرَى ذَلِكَ فِي تَعَامُلِنَا مَعَ الْأَطْفَالِ؛ فَإِنَّهُمْ يُقْبِلُونَ عَلَى صَاحِبِ الِابْتِسَامَةِ، وَيَنْقَبِضُونَ عَنْ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ الْعَبُوسَةِ، وَيَنْفِرُونَ مِمَّنْ يَصْرُخُ فِيهِمْ وَيَتَوَعَّدُهُمْ, وَمَا أَعْظَمَ خُلُقَ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِذْ كَانَ كَثِيرَ التَّبَسُّمِ! عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-"(رواه الترمذي وصححه الألباني), وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي"(صحيح مسلم).
عَلَيْنَا أَنْ نَمْرَحَ وَنَضْحَكَ مَعَهُمْ؛ فَهَذِهِ هِيَ قَاعِدَةُ الْحُبِّ الْأُولَى الَّتِي نَنْطَلِقُ مِنْهَا؛ لِنُقِيمَ رَابِطَةَ حُبٍّ أَبَوِيَّةٍ قَوِيَّةٍ وَمُسْتَمِرَّةٍ مَعَ أَطْفَالِنَا، هَذَا هُوَ الْمَدْخَلُ الْأَسَاسُ لِقَلْبِ الطِّفْلِ.
وَمِنْ وَسَائِلِ حُبِّ الْأَطْفَالِ وَالْقُرْبِ مِنْهُمْ: أَنْ نُشْعِرَهُمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ وَالْعَطْفِ؛ لِيَنْشَأُوا نَشْأَةً نَفْسِيَّةً صَحِيحَةً، تُعَمِّقُ فِي قُلُوبِهِمُ الثِّقَةَ وَالصَّفَاءَ وَالتَّفَاؤُلَ؛ فَالرَّحْمَةُ خُلُقٌ إِسْلَامِيٌّ وَهَدْيٌ نَبَوِيٌّ, بَلْ كَانَ مِنْ أَبْرَزِ أَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107], عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-", قَالَ: "كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ"(رواه مسلم).
وَالْمُتَأَمِلُّ فِي رَحْمَةِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ يَجِدُهَا تَشْمَلُ الصِّغَارَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، فَيَغْمُرُهُمْ بِعَطْفِهِ وَحَنَانِهِ، حَدَّثَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ"(رواه مسلم), وَكَانَ يَقُولُ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرنَا"(رواه أَبُو داود والترمذي), وقَبَّلَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ، فَقَالَ الأقْرَعُ بن حَابِسٍ: إنَّ لِي عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أحَدًا, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ"(متفق عليه), وَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: تقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ! فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ"(رواه الشيخان).
وَمِنْ وَسَائِلِ الْحُبِّ وَالْقُرْبِ: مُشَارَكَةُ الْأَطْفَالِ فِي اللَّعِبِ؛ فَاللَّعِبُ لِلطِّفْلِ ضَرُورَةٌ إِذْ هُوَ مِنْ طَبِيعَتِهِمُ النَّفْسِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ، قَالَ عُلَمَاءُ النَّفْسِ: "اللَّعِبُ لِلصِّغَارِ كَالْعَمَلِ لِلْكِبَارِ فِي التَّخْفِيفِ مِنْ ضُغُوطِ الْحَيَاةِ"، وَيَكُونُ اللَّعِبُ أَكْثَرَ مَرَحًا حِينَ يُشَارِكُ الْوَالِدَانِ طِفْلَهُمَا فِيهِ، وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُلَاعِبُ الْأَطْفَالَ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُدْلِعُ لِسَانَهُ لِلْحُسَيْنِ، فَيَرَى الصَّبِيُّ حُمْرَةَ لِسَانِهِ، فَيَهَشُّ إِلَيْهِ"(رواه ابن حبان وصححه الألباني), و"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُفُّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ وَكَثِيرًا مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ يَقُولُ: "مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا", قَالَ: فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ, فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ"(مسند أحمد).
فَهَذَا رَسُولُ اللهِ أُسْوَتُنَا, فَهَل يَلِيقُ بِالْوَاحِدِ مِنَّا أَنْ يَكُونَ مُتَجَهِّمًا عَبُوسًا، غَلِيظًا جَافًّا فِي مُعَامَلَةِ أَوْلَادِهِ, فَظًّا فِي مُخَاطَبَتِهِمْ؟! فَلِمَاذَا لَا نَقْتَدِي بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟! لِنَجْعَلْ لَنَا وَقْتًا نَلْعَبُ فِيهِ مَعَ أَوْلَادِنَا أَلْعَابًا مُفِيدَةً، لِنَخْتَرِ الْأَلْعَابَ الَّتِي تَزِيدُهُمْ ذَكَاءً وَحَيَوِيَّةً وَنَشَاطًا, وَلَا بَأْسَ مِنَ اللَّعِبِ مَعَهُمْ وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي أَفْرَاحِهِمْ.
يَقُولُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ أَهَمِّيَّةَ اللَّعِبِ لِلْأَطْفَالِ وَأَضْرَارِ مَنْعِهِمْ مِنْهُ: "وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ -أَيْ: الطِّفْلِ- بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الْكُتَّابِ -أَيْ: مِنَ الْحَلْقَةِ أَوِ الْمَدْرَسَةِ- أَنْ يَلْعَبَ لِعْبًا جَمِيلاً يَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ مِنْ تَعَبِ الْمَكْتَبِ؛ فَإِنَّ مَنْعَ الصَّبِيِّ مِنَ اللَّعِبِ وَإِرْهَاقَهُ بِالتَّعَلُّمِ دَائِمًا يُمِيتُ قَلْبَهُ، وَيُبْطِلُ ذَكَاءَهُ، وَيُنَغِّصُ عَلَيْهِ الْعَيْشَ؛ حَتَّى يَطْلُبَ الْحِيلَةَ فِي الْخَلَاصِ مِنْهُ رَأْسًا".
وَمِنْ وَسَائِلِ الْحُبِّ وَالْقُرْبِ: تَخْصِيصُ وَقْتٍ لِقَضَائِهِ مَعَ أَطْفَالِنَا, فَمِنَ الْمَفَاهِيمِ الْخَاطِئَةِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ حِينَ يَقْضُونَ مَعَ أَوْلَادِهِمْ بَعْضَ الْوَقْتِ -حَوْلَ مَائِدَةِ الطَّعَامِ أَوْ مُشَاهَدَةِ بَرْنَامَجٍ مُفِيدٍ فِي التِّلْفَازِ مَثَلاً- فَإِنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي الْجُلُوسِ مَعَهُمْ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ فَقَطْ قَضَاءَ بَعْضِ الْوَقْتِ مَعَ الْأَطْفَالِ، بَلِ الْأَهَمُّ هُوَ كَيْفِيَّةُ قَضَائِنَا لِهَذَا الْوَقْتِ مَعَهُمْ؟! فَقَدْ يَكُونُ الْأَبُ مُرْهَقًا فِي هَذِه اللَّحَظَاتِ، أَوْ يَكُونُ مَشْدُوهًا إِلَى بَرْنَامَجٍ يُتَابِعُهُ, أَوْ مَشْغُولاً بِمُكَالَمَةٍ هَاتِفِيَّةٍ، وَهَكَذَا الْأُمُّ قَدْ تَكُونُ فِي هَذَا الْوَقْتِ -الَّذِي تَظُنُّ أَنَّهَا فَرَّغَتْهُ لِأَطْفَالِهَا- مَشْغُولَةً بِأَعْمَالِهَا الْمَنْزِلِيَّةِ، وَبِهُمُومِهَا الْيَوْمِيَّةِ، فَيَكُونُ تَرْكِيزُهَا بَعِيدًا عَنْ أَوْلَادِهَا.
أَيُّهَا الْآبَاءُ: إِنَّ كَثِيرًا مِنَّا يُمْضِي أَوْقَاتًا كَثِيرَةً مَعَ أَصْدِقَائِهِ خَارِجَ الْمَنْزِلِ لَيْلَ نَهَارَ, لَا يَمَلُّ وَلَا يَكَلُّ, وَأَطْفَالُهُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ يَقْتَطِعَ مِنْ وَقْتِهِ شَيْئًا يُخَصِّصُهُ لَهُمْ وَحْدَهُمْ, فَكُنْ حَرِيصًا -أَيُّهَا الْأَبُ- عَلَى هَذَا الْوَقْتِ، وَأَشْعِرْهُمْ بِأَنَّكَ مُهْتَمٌّ بِهِمْ, وَتَتْرُكُ أُمُورًا مِنْ أَجْلِ الْجُلُوسِ مَعَهُمْ, اسْتَمِعْ إِلَيْهِمْ وَحَاوِرْهُمْ, وَحَتَّى فِي حَالِ غِيَابِكَ أَشْعِرْهُمْ أَنَّكَ مَعَهُمْ دَائِمًا بِالِاتِّصَالِ بِهِمْ.
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْنَا الْوَاقِعُ نَمَطَ حَيَاتِنَا، فَيَنْعَكِسَ ذَلِكَ سَلْبًا فِي التَّوَاصُلِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَوْلَادِنَا؛ لِأَنَّ قَلِيلاً مِنَ الْوَقْتِ لِتَعْمِيقِ الْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُمْ بِشَكْلٍ دَائِمٍ وَمُسْتَمِرٍّ؛ لَهُمَا كَثِيرٌ مِنَ التَّأْثِيرِ عَلَيْهِمْ, وَاعْلَمْ أَنَّ "لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"(رواه البخاري).
أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ, وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَبَعْدُ:
أَيُّهَا الْأَبُ الْكَرِيمُ: وَهُنَاكَ -أَيْضًا- طُرُقٌ عَمَلِيَّةٌ لِلْقُرْبِ مِنْ أَوْلَادِكَ وَإِظْهَارِ حُبِّكَ لَهُمْ, مِنْهَا: أَنْ تُصْغِيَ إِلَيْهِمْ بِكُلِّ اهْتِمَامٍ؛ فَاحْذَرْ أَنْ يَشْعُرَ طِفْلُكَ بِأَنَّكَ بَدَأْتَ تَنْصَرِفُ عَنْهُ وَلَا تَهْتَمُّ بِكَلَامِهِ.
وَمِنْهَا: الْإِقْبَالُ عَلَى طِفْلِكَ وَوَضْعُهُ فِي حِجْرِكَ وَتَقْبِيلُهُ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الْأَطْفَالَ أَمَامَ النَّاسِ، وَوُضِعَ صَبِيٌّ فَبَالَ عَلَى حَجْرِهِ, وَكَانَ يَحْمِلُ حَفِيدَتَهُ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ فِي صَلَاتِهِ، وَكَانَ الْحُسَيْنُ يَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى وَهُوَ سَاجِدٌ فَيَتْرُكُهُ حَتَّى يَنْزِلَ!
أَيُّهَا الْآبَاءُ: اعْلَمُوا أَنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ الْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْ أَطْفَالِنَا أَنَّ الْبُيُوتَ الَّتِي يَسُودُهَا الْحُبُّ وَالْوِئَامُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَعِيشُ أَطْفَالُهَا أَصِحَّاءَ نَفْسِيًّا؛ فَالشِّجَارُ الَّذِي يَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَكْرَارُهُ يَتْرُكُ آثَارًا سَيِّئَةً عَلَى نُفُوسِ الْأَوْلَادِ؛ فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَكَانَةً خَاصَّةً فِي نُفُوسِهِمْ, فَإِذَا اخْتَلَفَا وَتَشَاجَرَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِ أَوْلَادِهِمْ، حَيْثُ لَا تَقْدِرُ نُفُوسُهُمُ الْغَضَّةُ عَلَى تَحَمُّلِهِ، وَرُبَّمَا يَرْسُمُونَ صُورَةً سَيِّئَةً عَنْ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، فَيَتَصَوَّرُونَهُ ظَالِمًا أَوْ شِرِّيرًا، بِسَبَبِ مَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ مِنْ شَتَائِمَ, وَرَفْعِ صَوْتٍ تِجَاهَ الْآخَرِ، أَوْ تَعَدٍّ عَلَيْهِ بِالْيَدِ.
وَحِينَ يَضْعُفُ الْحُبُّ بَيْنَ الْآبَاءِ وَأَبْنَائِهِمْ وَيَزِيدُ الْبُعْدُ يَنْتِجُ مِنْ ذَلِكَ آثَارٌ سَيِّئَةٌ؛ كَالْحِقْدِ أَوِ التَّخْرِيبِ أَوْ حَتَّى الْهُرُوبِ مِنَ الْمَنْزِلِ، أَوْ نُزُوعِ الطِّفْلِ نَحْوَ الْعُدْوَانِيَّةِ، وَقَدْ يُخْفُونَ آلَامَهُمْ مِمَّا يَجْعَلُهُمْ يَحْمِلُونَ عُقَدًا نَفْسِيَّةً وَنِقَاطَ ضَعْفٍ سَلْبِيَّةً, تُعَرْقِلُ خُطَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ, وَتُوقِفُ مَسِيرَتَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ, فَيَغْدُونَ مِنْ فَشَلٍ إِلَى آخَرَ, وَقَدْ يَمِيلُونَ نَحْوَ الِانْحِرَافِ, لَا قَدَّرَ اللهُ!.
وَإِنَّ عَدَمَ تَنْمِيَةِ الْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْ أَبْنَائِنَا لَهُ أَضْرَارٌ, فَالْوَاقِعُ يُثْبِتُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَوَادِثِ الْمُؤْلِمَةِ وَالْجَرَائِمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ كَانَتْ نَتِيجَةً لِإِهْمَالٍ بَطِيءٍ, بَدَأَ بِالْجَفْوَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَعَدَمِ الْقُرْبِ مِنْهُمْ، وَعَدَمِ تَنْمِيَةِ الْحُبِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِمْ, وَإِهْمَالِ إِشْبَاعِ النَّوَاحِي الْعَاطِفِيَّةِ لَدَيْهِمْ؛ لِذَا تَتَقَطَّعُ حِبَالُ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ وَالْوَلَاءِ الْحَقِيقِيِّ لِلْأُسْرَةِ، فَتَنْجَذِبُ قُلُوبُ الْأَوْلَاِدِ لِأَيِّ كَلِمَةِ حُبٍّ مِنَ الْخَارِجِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صَاحِبِ نِيَّةٍ خَبِيثَةٍ، وَخَاصَّةً الْفَتَاةَ الَّتِي تَتَأَثَّرُ بِالْكَلِمَاتِ الْعَاطِفِيَّةِ, يَقُولُ الْقَائِلُ:
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوى *** فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا
أَيُّهَا الْأَبُ: حَيَاتُكَ مَعَ أَوْلَادِكَ اسْتِثْمَارٌ وَتِجَارَةٌ فِي الدُّنْيَا, كُلُّهُ أَجْرٌ وَرِبْحٌ فِي الآخِرَةِ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ نَفْعٌ دَائِمٌ لِوَاِلدَيْه؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(رواه مسلم).
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي