مَنْ أدَّى فريضةَ الحج حريٌّ به بعد أداء هذا الركن أن يحفظ صحيفتَه بيضاءَ نقيةً، وأن يكون قدوةً لغيره في الصلاح والاستقامة والتفقُّه في الدين، والمحافَظة على الصلوات جماعةً في بيوت الله، وأن يكون داعيًا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، مبتَدِئًا دعوتَه بذوي القربى وصادِقًا مع ربه في دعوته وفي أعماله كلها...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، وَمَنْ يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون: تفضَّل اللهُ على خلقه بتنوُّع العبادات، منها ما هو باطن في القلب، ومنها ما هو ظاهر على الجوارح، ومدارُ أركانِ الإسلامِ والإيمانِ على هذا، والحجيج عادوا من بيت الله الحرام والمشاعر بعد أطول أداء عبادة بدنية في الإسلام، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "واستعمل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر على أولِ حجَّة حُجَّت من مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعِلْمُ المناسكِ أدقُّ ما في العبادات، ولولا سعةُ عِلْمِ أبي بكر لم يستعمله النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أميرًا على الحجِّ في السَّنة التاسعة ليُعَلِّم الناسَ أحكامَ الحجِّ".
في الحج ظهرت عظمة الإسلام في توحيد الشعوب على الحق وجَمْعِهم على كلمة الإسلام، واللهُ -سبحانه- يُظهر آياتٍ لخَلْقه على صدق رُسُله، فإبراهيم -عليه السلام- دعا ربَّه (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[إِبْرَاهِيمَ: 37]، فاستجاب اللهُ دعاءَه وأخبَر عن مجيء الناس (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الْحَجِّ: 27]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "فليس أحدٌ من أهل الإسلام إلَّا وهو يحنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار".
والمخلِص مع الله يستجيب اللهُ دعوتَه ولو بعد مماته، ففي كل عام يُظهر الله أثرَ دعوة الخليل -عليه السلام- فيستجيب المسلمون لدعوته، ويقصدون -مع مشقة السفر- واديًا لا زرعَ فيه، ليُظهروا افتقارَهم إلى الله بوقوفهم في عرفات والمشاعر، وذُلِّهم للرب -سبحانه- بتجرُّدِهم من المخيط وحَلْق رؤوسهم خضوعًا له، والله -سبحانه- وعَد بحفظ هذا الدين، ومع تطاوُل الزمان وتقلُّب الأحوال وتنوُّع الحروب والفتن والتقلُّب بين الفقر والرخاء إلَّا أن هذا الدين بقي ناصعا تامًّا مبينًا، كأنَّ الوحيَ نزَل اليومَ، فيلبس الحجاجُ في كل عامٍ ما لَبِسَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من إزار ورداء، ويُلَبُّون بتلبيته، ويرمون كما رمى، ويطوفون بالبيت كما طاف.
ونبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- صبَر على الأذى والكروب لِتَنْعَمَ أُمَّتُه بالهداية، قال لعائشة -رضي الله عنها-: "يا عائشةُ، لقد لقيتُ من قومِكِ ما لقيتُ" (رواه البخاري).
والصحابة -رضي الله عنهم- هجروا الأوطانَ وتغرَّبوا في البلدان لحَمْلِ رسالةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وتبليغها بعزم وأمانة، وحقيقٌ على كل مسلم أداءُ حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- لِمَا قدَّمَه لهذا الدين بمحبتِه -عليه الصلاة والسلام- والتأسي به، والوفاء لصحابته -رضي الله عنهم- بمحبتهم والترضِّي عنهم والذَّبِّ عنهم.
والإخلاصُ لله في كل عمل شرطٌ في قبوله، واللهُ غنيٌّ عزيزٌ لا يقبل عملًا لم يُرَد به وجهُه، قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ اللهَ لا يقبلُ من العمل إلا ما كان له خالِصًا وابتُغِيَ به وجهُه" (رواه أبو داود).
ومَنْ أدخَل في عبادته رياءً أو سمعةً أو ابتغى مدحَ الناس له لم تُقبل منه عبادتُه، ولن يكون له منها سوى التعب والنَّصَب، قال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَنْ عَمِلَ عملًا أشرَك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكَه" (رواه أحمد).
ومَنْ أخلَص لله تقبَّل اللهُ عملَه وضاعَف أجرَه، قال سبحانه: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ)[الْبَقَرَةِ: 261]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: بِحَسَبِ إخلاصِه في عمله".
ومن اقتفى أثرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجه حريٌّ به التأسِّي بنبيِّه في شأنِه كُلِّه، وذلك سبيل الظَّفَر والفَلَاح، قال سبحانه: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النُّورِ: 54]، واتباعُه من أسباب السلامة من الفتن، قال عليه الصلاة والسلام: "تركتُ فيكم ما إِنْ تمسكتُم به لن تضلوا: كتابَ الله وسُنَّتي" (رواه مسلم).
والنِّعَم تزيد بالشكر، ومن أدَّى عبادةً وحمد اللهَ عليها يسَّر اللهُ له عبادةً بعدَها؛ لينالَ ثوابَها، قال سبحانه: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 17]، وأمارةُ قبولِ العملِ الصالحِ الحسنةُ بعدَه، قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: "مِنْ ثوابِ الحسنةِ الحسنةُ بعدَها، ومن عقوبةِ السيئةِ السيئةُ بعدَها".
والمسلمُ إذا فرَغ من عبادة أعقبها بعبادة أخرى، كما قال سبحانه: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)[الشَّرْحِ: 7]، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "أي: فَادْأَبْ في العمل".
والعبادة لا تنقطع إلا بالموت، قال عز وجل: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الْحِجْرِ: 99]، وإذا عَمِلَ المسلمُ عملًا صالِحًا وجَب عليه حفظُه، ومن أعظم ذلك الحذرُ من الوقوع في الشرك؛ إذ أنه يُحبط الحسناتِ، قال سبحانه: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزُّمَرِ: 65]، قال ابن القَيِّم -رحمه الله-: "إذا أراد اللهُ بعبدٍ خيرًا سلَب رؤيةَ أعماله الحسنة من قلبه، والإخبارَ بها من لسانه، وشَغَلَه برؤية ذنبه".
وسؤالُ اللهِ قبولَ العمل الصالح بعد الفراغ منه من صدق الإيمان، بنى إبراهيمُ -عليه السلام- الكعبةَ ودعا الله: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 127]، والثباتُ على الدين من عزائم الأمور، ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثبِّت قلوبَنا على دينِكَ" (رواه ابن ماجه).
ومَنْ لبَّى في حجِّه بالتوحيد وكبَّره في العيد وجَب عليه الوفاءُ بوعده مع الله بألَّا يدعو سواه، ولا يلجأ إلى غيره ولا يطوف بغير الكعبة، قال سبحانه: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)[فَاطِرٍ: 13]، وَمَنْ توجَّه إلى الله أعانَه وسدَّدَه، قال جل وعلا: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[الْعَنْكَبُوتِ: 69]، وليس من شرط صحة الحج زيارة المدينة، بل قصدُ مسجدِها سُنَّةٌ رَغَّبَ فيها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- للحاجِّ وغيرِه بالصلاة فيه، وهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تُشَدُّ الرحالُ إلَّا إليها، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تُشَدُّ الرحالُ -أي: لا يسافَر إلى أمكنة عبادة إلَّا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" (متفق عليه).
وصلاةٌ فيه أفضلُ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ومن قَدِمَ إلى المدينة وسلَّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى صاحِبَيْه أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فمن المشروع له زيارة مسجد قباء، قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ تطهَّر في بيته ثم صلَّى في مسجد قباء كان له أجرُ عمرةٍ" (رواه ابن ماجه)، وتُشرَع له زيارةُ مقبرة البقيع وشهداء أُحُد؛ للدعاء لهم وللعظة والعبرة بتذَكُّر الآخرة.
والميت لا يملك لأحد نفعًا ولا ضرًّا، ولا يتعلَّق به، وإنما يُدعى له بالمغفرة والرضوان، ومَنْ يُدعَى له لا يُدعَى مع الله، قال سبحانه: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ)[يُونُسَ: 106].
وبعد أيها المسلمون: فالموفَّق مَنِ اجتهد في طاعة ربِّه وسار على هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- وحاسَب نفسَه في حياته وسارَع إلى الخيرات، وحياةُ المسلم تتجدَّد بختام كل طاعة، وعبادة الحج موعود مَنْ أدَّاها برجوع صحيفة عمله بيضاءَ ناصعةً كيوم ولدته أمه، فهنيئًا لِمَنْ فتَح صفحةً بيضاءَ مع ربه بعد الحج، وفي كل يوم؛ لينالَ رضوانَ اللهِ والجنةَ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 133].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولجميع المسلمين، من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون: مَنْ أدَّى فريضةَ الحج حريٌّ به بعد أداء هذا الركن أن يحفظ صحيفتَه بيضاءَ نقيةً، وأن يكون قدوةً لغيره في الصلاح والاستقامة والتفقُّه في الدين، والمحافَظة على الصلوات جماعةً في بيوت الله، وأن يكون داعيًا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، مبتَدِئًا دعوتَه بذوي القربى وصادِقًا مع ربه في دعوته وفي أعماله كلها.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على نبيِّنا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل اللهم هذا البلدَ آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين، يا رب العالمين.
اللهم سَلِّمِ الحجاجَ والمعتمرينَ، وأَعِدْهُم إلى ديارهم سالمينَ غانمينَ، واجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
اللهم وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعل عملَه في رضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [الْعَنْكَبُوتِ: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي