يحتاج المسلم أن يكون مرتبا منظما في حياته, وأن لا تضيع عليه أوقاته سبهللا, فالمسلم ضنين بوقته, يعلم قيمته عند ربه, وأنه محاسب عليه, والمسلم الفوضوي الذي لا يقدر للزمن قيمته, تنزع البركة من وقته, وتفوته الفرص؛ حتى...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
فيا أيها الناس: إن في مرور الأيام وتصرمها عبرةً لكل حي, وآية لكل متفكر, وهداية لكل موفق, أيام ونودع عاما كان حافلا بالأحداث, وسنستقبل عاما آخر, لا ندري ما الله صانع فيه, وإن لنا معه وقفاتٍ سريعةً نذكر فيها أنفسنا بما ينفعها:
الوقفة الأولى: التوبة مطلوبة من المسلم في كل وقت وحين؛ فلا يدري العبد متى يغادر من هذه الدنيا؟! وليست التوبة متعلقة بنهاية العام, فهذه تواريخ حادثة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد حث الله -تعالى- في كتابة والنبي في سنته على التوبة في كل حين, بل كان -صلى الله عليه وسلم- يتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة؛ كما أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
الوقفة الثانية: لابد من الاعتبار بسرعة مرور الأيام, فقد مضى عام سريع جدا, وكأن دخوله كان بالأمس, ولد فيه أقوام, وهلك فيه أقوام, وتبدلت أمور, رفع ناس وخفض آخرون, افتقر ناس واغتنى آخرون, كل ذلك بتدبير ربك؛ كما قال -سبحانه-: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرحمن: 29].
عباد الله: لنعتبر بمرورها سريعا, ونعلم أن أعمارنا ستمر كما مر هذا العام, وسنكون أثرا وذكرا في الغابرين, فلنستعد لما بعد الحياة الدنيا, لنعمر قبورنا بالطاعات, قبل أن نرحل إليها فلا مؤنس للعبد في قبره سوى عمله الصالح, سنعيش في قبورنا آلاف السنين, وفي الآخرة مدى الداهرين, أفلا تستحق أن نقدم لها هذه الحياة الدنيا التي لا تتجاوز السبعين سنة؟!.
الوقفة الثالثة: يحتاج المسلم أن يكون مرتبا منظما في حياته, وأن لا تضيع عليه أوقاته سبهللا, فالمسلم ضنين بوقته, يعلم قيمته عند ربه, وأنه محاسب عليه, والمسلم الفوضوي الذي لا يقدر للزمن قيمته, تنزع البركة من وقته, وتفوته الفرص؛ حتى يفجؤه الموت, فكان لزاما على المسلم الحريص على وقته أن يستثمره في هذا العام الجديد, وأن يرسم له خطة يسير عليها منظما لوقته, شاغلا له فيما يعود عليه نفعه في الدنيا والآخرة.
الوقفة الرابعة: ينبغي للمسلم الجاد أن ينظم وقته في هذا العام الجديد, سواء لأموره الدنيوية أو الدينية, ولعلي أطرح بعض الاقتراحات التي قد يحتاج لها المسلم في أمور دينه ودنياه؛ فمن أمور الدين: لابد أن يزداد المسلم في فعل الخير في هذا العام عما كان عليه في العام المنصرم, وسيمانا جميعا التقصير, إلا من رحم الله!.
فأهم ما يعتني به المسلم أركان الإسلام الخمسة التي من أقامها دخل الجنة؛ أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك قال: "بينما نحن جلوس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد, دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد, ثم عقله ثم قال لهم: أيكم محمد؟, والنبي -صلي الله عليه وسلم- متكئ بين ظهرانيهم, فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ, فقال له الرجل: ابنَ عبد المطلب أي: يا ابن عبد المطلب-, فقال له النبي -صلي الله عليه وسلم-: "قد أجبتك", فقال الرجل للنبي -صلي الله عليه وسلم-: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة؛ فلا تجد علي في نفسك, فقال: "سل عما بدا لك", فقال: أسألك بربك ورب من قبلك؛ أألله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: "اللهم نعم", قال: أنشدك بالله؛ أألله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: "اللهم نعم", قال أنشدك بالله؛ أألله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟, قال: "اللهم نعم", قال: أنشدك بالله؛ أألله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟, فقال النبي -صلي الله عليه وسلم-: "اللهم نعم", فقال الرجل: آمنت بما جئت به, وأنا رسول من ورائي من قومي, وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد ابن بكر, وفي رواية: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لئن صدق ليدخلن الجنة".
فهذه أركان خمسة حافظ عليها لتكون من أهل الجنة, وحاسب نفسك عليها باستمرار وراقب من تحت يدك.
ومن الأمور التي ينبغي أن يحاسب العبد فيها نفسه: ألفاظه وأعماله, البعض عنده ألفاظ وسلوكيات خاطئة, فليتخلص منها في هذا العام؛ كسبٍ ونميمة وغيبة وفجور في الخصومة ونحوها, فلتكن من الماضي.
اللهم وفقنا لاغتنام الخيرات في كل وقت وحين، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ أنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, وبعد:
يا أيها الناس: لقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بوصايا مهمة, وهي وصية لمن خلفهم, فلنتعاهد تلك الوصايا, ومنها ما أوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة وغيره من الصحابة؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أُوتر قبل أن أنام"؛ فهذه خصال ثلاث ترفع من إيمان العبد, وتحبب له الخير وتبغض له الشر, وترفع همته, وبعضنا عنها غافل, فلا يوتر, ولا يصلي الضحى, ولا يصوم شيئا من النوافل, فليكن هذا العام بداية في تطبيق وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه, ففيها الخير كله.
الوقفة الخامسة: حال الكثير من الناس مع القرآن, حال من هجره وأعرض عنه, فلو سألته كم يقرأ في اليوم والليلة من القرآن خارج الصلاة, فلن تجد شيئا ولا آية واحدة للأسف, مع أنه يقضي الكثير من وقته فيما لا ينفع خصوصا مع برامج الجوال, فليكن هذا العام عاما حافلا بمصاحبة القرآن, وأن يكون له نصيب في وقتنا, حتى تثمر ويبارك الله فيها؛ فالقرآن بركة كله, خصوصا لأهله, فلنجعل لنا وردا من القرآن نقرؤه يوميا, ولا نفرط فيه.
الوقفة السادسة: كثير منا في غفلة عن ذكر الله, مع أن الذكر للإنسان كالماء للسمكة, ولهذا إذا دخل أهل الجنة, الجنة يلهمون الذكر ويكون كالنفس لهم, فهو مادة حياة القلوب, فلنجعل لنا نصيبا من ذكر الله كل يوم لا نفرط فيه, خصوصا أذكار الصباح والمساء, التي وهبنا الله إياها لتكون لنا حصا منيعا من شرور الجن والإنس, فلنثابر عليها, فمن تذوق ذكر الله أنس به, وصلحت أحواله, وجعل الله له من كل هم فرجا, ومن كل ضيق مخرجا, ومن كل بلاء عافية.
وإن الذاكرين الله كثيرا هم السابقون للناس في كل شيء؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "سبق المفردون", قيل: وما المفردون يا رسول الله؟, قال: "الذاكرون الله كثيرا والذاكرات".
الوقفة السابعة: المرء لا يعيش بدون خليل يعايشه في الحياة, والأخلاء درجات, فمنهم الناصح ومنهم الطالح, فليكن عامنا هذا عام التمحيص والتنقية للأصحاب, فلنتخلص من الأشرار وهم الذين يعينوننا على المنكر, ويكرهون لنا الخير, يحببون لنا الدنيا ويكرهون لنا الآخرة, ولنلزم أصحابنا الذين يعينوننا على الخير, ويدلوننا عليه, ويحذروننا من الشر ويكرهونه لنا, فمحص أصحابك وأصحاب أولادك, وسترى كيف تتغير الأحوال؟؛ فالصاحب ساحب, والمرء على دين خليله.
معاشر المؤمنين: هذه وقفات سريعة, تجعل العبد يعد العدة لهذا العام الجديد, ويستثمره في الخيرات وتعديل المسارات, وكل عام يصنع ذلك, فتتقوم حياته ويصلح شأنه.
واعلموا أن الله -تعالى- أمركم بالصلاة والسلام على النبي؛ فقال -جل شأنه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلى الله عليه عشـر صلوات، وحُـطَّت عنه عشـر خطيئات، ورُفعت له عشـر درجات"(رواه أحمد والنسائي).
اللهم أعزَّ الإسلام والـمسلمين، ودمِّر أعداء الـملَّة والدين، اللهم احفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وبارك اللهم لنا في دنيانا التي فيها معاشنا، واحفظ اللهم لنا ولاة أمرنا، وارزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير، وتُرشدهم إليه، وتُعينهم عليه.
اللهم مَنْ أرادَ بلادنا وبلاد الـمسلمين بسُوءٍ أو عدوانٍ فأشغله في نفسه، وردَّ كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا له يا رب العالـمين، واكفنا اللهم بحولك وطولك وقدرتك من كيد الكائدين، ومكر الـمـاكرين، وحقد الحاقدين، واعتداء الـمعتدين، وحسد الحاسدين، وظلم الظالـمين، وشمـاتة الشامتين، واكفناهم جـميعًا بمـا تشاء يا رب العالـمين.
اللهم هَبْ لنا من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مـخرجًا، وارزقنا اللهم من حيث لا نحتسب، اللهُـمَّ إنَّا ظلمنا أنفسنا ظُلمـًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلَّا أنت، فاغفر لنا مغفرةً من عندِك وارحـمنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي