الفرج من كل ضيق

خالد بن عبدالله الشايع
عناصر الخطبة
  1. الدنيا دار ابتلاء .
  2. الاستفادة من البلاء مطلب شرعي .
  3. البلاء من تقدير الله .
  4. لا مفر من البلاء ولا مهرب .
  5. تقدير الله للبلاء لمقاصد وفوائد عديدة .
  6. سبل وطرق مدافعة البلاء .

اقتباس

إن الاستفادة من البلاء بعد النجاح فيه مطلب شرعي، فالمؤمن يخرج من البلاء وقد محص، وزاد إيمانه، وغفرت ذنوبه، فالله لا يبتلينا ليعذبنا، وإنما يبتلينا ليمحصنا، فمن كان يعلم أنه سيبتلى فعليه أن يتعلم من خلال هذه النقاط: الأولى: أن نعلم أن البلاء من الله، وهو الذي قدره. الثانية: أن نعلم أن البلاء ...

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها الناس: لا تنقضي الدنيا من ضيق وهم، وكرب وعسر؛ يتنقل المسلم بينها، فلا بد من البلاء: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[العنكبوت: 2]، ولقد فتن الأنبياء والرسل والصالحون من قبلنا.

ولقد بين لنا ربنا في كتابه، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- في سنته طريق النجاة من الفتن والبلاء.

معاشر المؤمنين:

طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الأقذار والأكدار

الكل يعلم أن البلاء مصبحه أو ممسيه، في نفسه أو من يغليه، وليس المطلوب من العبد الصبر فحسب، بل يطلب منه ما هو أكبر من ذلك.

إن الاستفادة من هذا البلاء بعد النجاح فيه مطلب شرعي، فالمؤمن يخرج من البلاء وقد محص وزاد إيمانه وغفرت ذنوبه، فالله لا يبتلينا ليعذبنا، وإنما يبتلينا ليمحصنا، فمن كان يعلم أنه سيبتلى، فعليه أن يتعلم من خلال هذه النقاط:

الأولى: أن نعلم أن البلاء من الله، وهو الذي قدره.

الثانية: أن نعلم أن البلاء لا مفر منه ولا مهرب، فالله هو الذي قدره، وهو الذي أراده، وإذا أراد الله شيئا فلا مرد له.

الثالثة: أن الله يقدر البلاء لمقاصد عظيمة، وفوائد جمة، قد يكون ظاهره البلاء الشر على العبد، ولكنه في باطنه الفلاح والنجاح.

وليتبين لك هذا جليا، تأمل ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: "قُدِم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى، إذْ وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟" قلنا: لا والله، فقال: "الله أرحم بعباده من هذه بولدها".

قُدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبي، يعني أنه أُتي بسبي، والسبي هو ما يؤخذ من الكفار من ذراريهم ونسائهم في الحرب.

فإذا امرأة من السبي تسعى، وهذا كان بعد غزوة الطائف، وفي بعض الروايات أنها تبتغي، يعني أنها تطلب، فهي تجول بين السبي إذْ وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألزقته ببطنها، هكذا هنا، وفي بعض روايات الحديث: إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، بمعنى أنها تفعل ذلك بالصغار، إذا وجدت أطفالاً من الرُّضع في السبايا فإنها تأخذهم وترضعهم، شفقة عليهم وحنوًّا، وتفعل ذلك من أجل أن تتخلص مما قد حصل لها من الحليب، فلابد من إخراجه، والروايات يبيّن بعضها بعضاً، والمقصود أن هذه المرأة إن كانت تفعل ذلك بغير أولادها فوجه الحديث ظاهر، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟" يعني إذا كانت تفعل هذا بأولاد الناس، ترضعهم وتلزقهم ببطنها شفقة ورحمة وحنوًّا، فكيف تصنع بولدها؟!

والله أرحم بعباده من هذه بولدها، فهل تراه يبتليهم بالبلاء والمصائب وهو رحيم بهم إلا أن هذا البلاء رحمةٌ بهم وأنفع لهم في دينهم ودنياهم.

الرابعة: أن هذا البلاء يصقل إيمان العبد، ويمحص ما في قلبه؛ كما قال تعالى: (وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)[آل عمران: 154]، فهذا التمحيص يتبين منه المؤمن من المنافق، وليتبين قوي الإيمان من ضعيفه، ففي وقت الرخاء الكل يحسن التنظير، والنصح، والتوجيه، وإذا وقع البلاء تبين الصادق من الكاذب، حتى العبد نفسه يتبين له صدق إيمانه من ضعفه.

الخامسة: أن الله يبتلي العبد ببلاء ليرفع عنه بلاء أعظم، فالبعض يريد أن يسافر مثلا، فيمرضه الله بمرض يصرفه عن السفر الذي قد يكون فيه هلاكه لو سافر، أو يبتليه بمرض ليدفع عنه مرض أعظم، كمن يبتلى بالضغط أو السكر، فينتبه لنفسه ويحافظ على صحته، إذا لو ترك بلا حمية لربما أصابته جلطة.

وهكذا تتبين رحمة الله لعباده التي يجهلها كثير من الخلق، ولو تبينت لهم لحمدوا الله على البلاء كما يحمدونه على النعم.

وغيرها من النقاط التي تتضح للمتأمل لتدبير الله لخلقه جل في علاه.

اللهم ارزقنا العفو والعافية في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.

الخطبة الثانية:

أما بعد: فيا أيها الناس: مر معنا في الخطبة الأولى أن البلاء نازل بالعبد لا محالة، فهذه سنة الله في خلقه، وسنتطرق في الخطبة الثانية عن طرق مدافعة البلاء، والصبر عليه، والرضا به.

أيها المؤمنون: لا بد للمؤمن أن يستعد للبلاء، فيكون على قدر من الإيمان بالله، والتوكل عليه، فيرضى بقضاء الله، ويسلم له، ويصبر حتى ينكشف فينال بذلك الأجر، وينجح في الامتحان؛ لأن البلاء إذا أصاب العبد ولم يكن مستعدا له بقوة الإيمان فشل فيه، وأصابته الحسرات، وباء بالندامات، ولربما تسخط على ربه، وربما خرج من الدين -والعياذ بالله -.

عباد الله: لا شيء ينجي العبد من البلاء مثل التقوى، والمتأمل لنصوص الكتاب والسنة يرى ذلك جليا: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق: 4]، وقال: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق: 5]، وقال: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)[الطلاق: 2]، فمن اتقى الله جعل له من أمره يسرا، فتيسر له كل عسير، ومن اتقى الله جعل له مخرجا، فله من كل ضيق مخرجا، ومن اتقى الله فوقع عليه البلاء كفر عنه سيئاته وأعظم له أجرا، فماذا يريد العبد أكثر من ذلك؟

أيها المؤمنون: إذا استشعر العبد ما يترتب على البلاء من الأجر، والخير العميم؛ هان عليه البلاء، وانقلب البلاء إلى حلاوة، وخف ألمه، وانتظر الفرج من الله، وانتظار الفرج عبادة؛ فالبلاء تجتمع فيه عبادات عظيمة لمن وفق لها؛ منها: الصبر، فيصبر على البلاء، والصبر على البلاء من أعظم العبادات، وانتظر الفرج وهو عبادة كذلك، وانطرح بين يدي الله يدعوه ويتملقه في كل وقت، وقد قيل: إن الله يبتلي العبد ليسمع تضرعه.

ومنها: كذلك الرضا بقضاء الله وقدره، وفي ذلك قمة التسليم لله والانقياد له، فالبلاء يجمع كثيرا من عبادات التوحيد لله، كالرغبة والرهبة والخشية والخضوع، والتوكل والدعاء، والتوسل والتضرع.

فيالها من عبادات قلبية عظيمة!

قد كان بعض السلف يسأل الله البلاء لما يعلم فيه من الأجر، ولما يعلم من نفسه القوة على الصبر عليه، غير أن هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-أكمل الهدي، وقد كان يتعوذ بالله من البلاء، ويقول: "سلوا الله العافية".

فما أعطي أحد أعظم من العافية، ولكن متى ما وقع البلاء صبر العبد وصابر حتى يزول البلاء، وتنكشف الغمة .

اللهم إنا نعوذ بك من البلاء، ونسألك العافية.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي