إن من فضائل هذه الأيام أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها فهي أيام الكمال؛ ففيها الصلوات كما في غيرها وفيها الصدقة، وفيها الصوم لمن أراد القضاء والتطوع، وفيها الحج إلى بيت الله ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء، واجتماع هذه العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيها غيرها ولا يساويها سواها
عباد الله: إن من نعم الله تعالى علينا أن مواسم الخيـر يتبع بعضها بعضاً، فبعد أن نقضى موسم رمضان، جاء موسم الحج، وموسم العشر من ذي الحجة، وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله تعالى فيه وظيفةٌ من وظائف طاعاته يتقرب بها إليه، ولله فيها لطيفةٌ من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحةٌ من تلك النفحات، فيسعد بها سعادةً يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات.
أيها المسلمون: ها هي أيام عشر ذي الحجة نزلت بساحتكم وحلت بناديكم، والموفق فيها من اغتنمها بالصالحات والمسابقة إلى الخيرات، والمحروم من أضاعها بالغفلة عن القربات وارتكاب الفواحش والمحرمات.
عباد الله: أقسم ربكم سبحانه بهذه الأيام المباركة ليدلل لكم على أهميتها وعظم نفعها فقال تعالى: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1-2] ؛ قال ابن عباس وغير واحد من السلف والخلف رضي الله عنهم: "إنها عشر ذي الحجة"، ولقد قرن المولى سبحانه هذه الأيام العشر بأفضل الأوقات، فقرنها بالفجر وبالشفع وبالوتر وبالليل، أما اقترانها بالفجر فلأنه بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظلمة، والحركة بعد السكون، والقوة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، وبه يعرف أهل الإيمان من أهل النفاق، وقرنها بالشفع والوتر؛ لأنهما العددان المكونان للمخلوقات؛ فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر، وحتى العشر فيها شفع وهو النحر، وفيه وتر وهو عرفة، وقرنها بالليل لفضله، فقد قُدم على النهار وذكر في القرآن أكثر من النهار، وهو أفضل وقت لنفل الصلاة وهو أقرب إلى الإخلاص لأنه زمن خلوةٍ وانفراد، وهو أقرب إلى مراقبة الرب تعالى إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء وإعطاء السؤال وغفران الذنوب.
أيها المسلمون: لقد دلت النصوص أن كل عمل صالح يقع في هذه الأيام فهو أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده، وإن العامل في هذه العشر أفضل من المجاهد الذي رجع بنفسه وماله، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء" أخرجه البخاري وهذا اللفظ للترمذي.
عبدالله: يا من فاته العمل في أيام وليالي شهر رمضان المبارك دونك هذه الأيام هي أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، وفضلها يزيد على فضل أيام رمضان، عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا من عُفَّر وجهه بالتراب" أخرجه البزار وأبو يعلى وصححه الألباني رحمه الله، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان: أيهما أفضل؟ فأجاب: "أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة".. أ. هـ.
عباد الله: إن من فضائل هذه الأيام أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها فهي أيام الكمال؛ ففيها الصلوات كما في غيرها وفيها الصدقة، وفيها الصوم لمن أراد القضاء والتطوع، وفيها الحج إلى بيت الله ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء، واجتماع هذه العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيها غيرها ولا يساويها سواها؛ قال ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".. أ هـ.
عباد الله: إن أولى الأعمال بالاهتمام في هذه الأيام، المحافظة على الفرائض التي أوجبها الله على عباده، ومن ذلك الصلاة والبر وصلة الرحم وغيرها، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه" رواه البخاري، ثم يأتي بعد الفرائض التزود من النوافل المؤدية للحصول على محبة الله سبحانه "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"، ومن النوافل المتعلقة بركن الصلاة تلك الرواتب التي من حافظ عليها بني الله له بها بيتاً في الجنة، ومنها وصية المصطفى لأبي هريرة رضي الله عنه: "..صلاة الضحى، وأن يوتر قبل أن ينام.".
عباد الله: إن ليالي وأيام العشر وطول ليل الشتاء دافعان للتزود بالخيرات والمسابقة في الطاعات، ولقد استحب الشافعي رحمه الله قيام ليالي هذه الأيام العشر اغتناماً لفضلها، وكان سعيد بن جبير رحمه الله ينادي فيقول: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر، تعجبه العبادة، وكان يجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه رحمه الله رحمة واسعة".
أيها المسلمون: ومن عبادة الصلاة إلى عبادة الصيام التي أضافها المولى سبحانه إلى نفسه وجعل جزاءها إليه، والصوم من الأعمال الصالحة التي جاء الحث عليها في حديث: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله"، أما بخصوص صيام هذه الأيام فقد جاء عند الإمام أحمد والنسائي وأبو داود وغيرهما من حديث هُنيدةَ بن خالد عن امرأته قالت: "حدثتني بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء، وتسعاً من ذي الحجة، وثلاث أيام من الشهر" والحديث صححه الألباني رحمه الله، وأما ما ورد عن عائشة رضي الله عنهما في أنها لم تر النبي صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط، فأجيب عنه بأنها لم ترهُ هي صائماً فيها، وربما رأته ذات مرة غير صائم لعارض مرض أو سفر أو غيرهما فجزمت بعدم صيامه، والمثبت مقدم على النافي إن صح كما يقول ابن القيم رحمه الله.
أيها المسلمون: لقد أجاز العلماء جواز الجمع بين نيتين في صيام يوم واحد، وعليه فمن كانت له عادة صيام يومي الاثنين والخميس فليحرص على صيامها هذه الأيام ويجمع بين نيتي صيام العشر وصيام الاثنين والخميس، وكذلك من كانت له عادة صيام الأيام البيض فليقدم صيامها إلى هذه الأيام ويجمع بين النيتين، لحرمة صيام أيام التشريق في عيد الأضحى لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله، أما من كان عليه قضاء من رمضان، فلا يحرم نفسه القضاء واغتنام صيام هذه الأيام فقد أفتى العلامة بن عثيمين رحمه الله بجواز صيام القضاء مع صيام النافلة بنية واحدة وقال رحمه الله ما نصه: "فمن صام يوم عرفه أو يوم عاشوراء وعليه قضاء من رمضان فصيامه صحيح، لكن لو نوى أن يصوم هذا اليوم عن قضاء رمضان حصل له الأجران: أجر يوم عرفة، وأجر يوم عاشوراء مع أجر القضاء". أ هـ.
عباد الله: ومن عبادة الصلاة والصيام، إلى أيسر العبادات وأسهلها ألا وهي ذكر الله سبحانه، قال ابن رجب رحمه الله: "وأما استحباب الإكثار من الذكر فيها -أي في أيام العشر- فقد دل عليه قوله سبحانه: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج: 28]، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء، وقال الإمام النووي رحمه الله: "يستحب الإكثار من الأذكار في هذه العشر زيادةً على غيرها، ويتأكد ذلك في يوم عرفة أكثر من باقي العشر" ومما يدخل في الأذكار وينبغي الحرص عليه، وتعليم الأبناء والبنات المحافظة عليه، الأوراد اليومية كأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، والأذكار الواردة بعد الصلاة.
أيها المسلمون: إن أعظم عمل صالح في هذه العشر حج بيت الله الحرام، فهو فرضٌ على من لم يحج، ويجب المبادرة إلى أدائه، فإن تأخر مع القدرة عليه فهو آثم، ومن سبق أن أداه، ولديه القدرة على أن يتطوع لله به فهو من أفضل الأعمال التي تقرب إلى الله تعالى، ولولم يكن فيه إلا غفران الذنوب لكان كافياً للتطوع لله تعالى به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" وقال عليه الصلاة والسلام: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
اللهم يسر للحجاج حجهم، وتقبل منهم عملهم يا حي يا قيوم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.
عباد الله: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً، وفي رواية فلا يأخذن شعراً، ولا يقلمن ظفراً"، ومن المسائل المهمة في هذا الحديث ما يلي:
أولاً: أن الحديث يدل على تحريم أخذ شيء من الأشعار والأبشار والأظافر لأن الأصل في النهي أنه للتحريم، لكن من تعمد الأخذ في هذه الأيام وهو يريد الأضحية فعليه التوبة إلى الله والاستغفار، ولا فدية عليه إجماعاً، والأضحية بحالها.
ثانياً: قيل في حكمة الإمساك أنه لما كان المضحي مشابها للمحرم في بعض أعمال النسك، وهو التقرب إلى الله بذبح القربان أعطى بعض أحكامه، وقيل: ليبقى كامل الأجزاء ليعتق يوم العيد من النار.
ثالثاً: من أخذ من شعره أو ظفره أول العشر لعدم إرادته الأضحية، ثم أرادها في أثناء العشر أمسك من حين إرادته.
رابعاً: المضحى عنهم؛ كالزوجة والأولاد لا يتناولهم هذا الحديث، وإنما يخص الحديث صاحب الأضحية فقط، ما لم يكن لأحد الأبناء أو الزوجة أضحية تخصه.
خامساً: من وكل شخصا في الذبح عنه فالنهي يخص الموَّكل، أما الوكيل فلا علاقة له بالتحريم.
سادساً: من له أضحية وعزم على الحج فإنه لا يأخذ من شعره وظفره إذا أراد الإحرام، لكن إذا كان متمتعاً قصر من شعره عند الانتهاء من عمرته ثم أمسك حتى ينحر هديه.
أيها المسلمون: ينتظر بعض الناس بفارغ الصبر حلول الإجازة؛ ليجري البصر في آثار نعمة الله سبحانه من الأمطار والخيرات، ولا بأس أن يروح المرء عن نفسه، لكن المؤمن يحتسب نزهته وينوي بها التقوي على طاعة الله سبحانه لكي لا تذهب عليه هذه الأيام وخيـرها سدى، وليحذر المتنزهون من اقتراف الآثام وعصيان الملك العلام؛ فهذه الأيام المباركة تضاعف فيها السيئات كما تضاعف فيها الحسنات؛ لأنها من الأشهر الحرم التي حرمها الله سبحانه ونهانا فيها عن ظلم أنفسنا، ولنتذكر جميعاً أن نعمة المطر وسائر النعم بالشكر تدوم وتكثر، وبالكفران والعصيان تذهب وتفر، فلنتق الله جميعاً، ولا نعرض أنفسنا للعن البهائم لنا، قال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السّنة وأمسك المطر، تقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم".
عباد الله: الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عوض ولا لها قيمة، المبادرة المبادرة بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحاً فلا يجاب إلى ما سأل، قبل أن يحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل، قبل أن يصير المرءُ مرتهناً في حفرته بما قدم من عمل.
إذا هبت رياحك فاغتنمهـا *** فإن لكل خافقة سكــون
ولا تغفل عن الإحسان فيها *** فما تدري السكون متى يكون
ألا فصلوا وسلموا على الرحمة المهداة..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي