أيُّها الدائنُ الذي أنعَمَ اللهُ عليه، فوسَّعَ عليه في رزقِه: لعلكَ من أهلِ الشهامةِ الذين يُنظِرون، بل ويَتصدقون ويُسقِطون، ولعلك من الذين يُقَدِّرون الذين يَشفعون. نعم؛ هناكَ مَدينٌ مُتلاعِبٌ بالأموال، فهذا يؤدَّبُ شرعًا، ولا تُلامُ على مُطالبَتِهِ. أما المسكينُ الحريصُ على السدادِ، لكنه خسرَ في تجارةٍ أو مساهمةٍ، فهذا الذي...
الحمدُ للهِ الذي هدانا للإسلامِ أعظمِ نعمةٍ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك له، شهادةً تضيءُ لنا أقومَ السبلِ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الذي أظهرَ اللهُ دينَه على سائرِ المللِ، فصلى اللهُ وسلم عليه وآلِه وصحبِه وأوليائِه، الذين بذلوا نفوسَهم لرفعةِ الدينِ واعتلائِه.
أما بعد: فاتقوا اللهَ حقَّ تقواهُ، فإن مَن اتقى اللهَ حفظهُ ووقاهُ.
هل سمعتم بقصةِ المليونيرِ الذي يملكُ خمسينَ مليونًا؟!
إنها قصةٌ عَجَبٌ فاسمعوها: روى البخاريُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ (موقعة) الْجَمَلِ دَعَانِي، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا بُنَيِّ إِنِّي لَا أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي، أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا؟! وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ، وَيَقُولُ: يَا بُنَيِّ؛ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلَايَ، قُلْتُ: يَا أَبَتِ مَنْ مَوْلَاكَ؟! قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلَّا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ؛ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ، فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ، وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِلَّا أَرَضِينَ، وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ، وَلَا جِبَايَةَ خَرَاجٍ، وَلَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا، قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَلْنَقْضِهِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ، فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ (مليونًا) وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ (مليونًا)، وَمِائَتَا أَلْفٍ"(رواه البخاري).
فمِنْ أيِّهما تعجبُ! أمِنَ الزبيرِ المليونيرِ لكنَّه حريصٌ على سَدادِ دَينِه، وخوفِه ألا يوفيَ المالُ الدينَ؟! أمْ منَ الابنِ الأمينِ كيفَ بلغَ هَمُّه لدَينِ أبيهِ طيلةَ أربعِ سنواتٍ؟!
فأينَ نحنُ ممنْ كبَّلوا أيديَهم وهمْ أحرارٌ، وأخافوا قلوبَهم بالديونِ وهم آمنونَ، حتى انتهت ببعضهم إلى السجونِ، أو إلى إيقافِ حساباتِهم؛ لتوفيرِها للدائني؟
ألمْ يقُلِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُخيفوا أنفُسَكم بعْد أَمْنِها" قالوا: يا رسولَ الله، وما ذاكَ؟ قال: "الدَّينُ"(رواه أحمدُ بسندٍ حسن، وحسنه الألباني).
فماذا عسانا أنْ نَفعلَ؟!
إن أقلَّ ما يمكنُ فِعلُه فيْ هذا الشأنِ هوَ التوعيةُ والتذكيرُ بخطورةِ الديون، ونشتركُ فيْ ذلكَ كلُّنا، بأنْ ننصحَ للدائنِ وللمَدينِ.
ومَن ركِبتْهُ ديونٌ فعليهِ بثلاثٍ: أولاً: أن يَحمَدَ اللهَ ويَرضى بقضائِه، وليُردِّدْ كثيرًا الدعاءَ الذي وعدَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنه يَقضي الديونَ، وهو: "اللهم اكفني بحلالِك عن حرامِك، وأَغنني بفضِلك عمَّن سواكَ"(رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه، وافقه الذهبي، وحسنه الألباني).
ثانيًا: أن لا يتساهَلَ بسؤالِ زكواتِ الناسِ؛ فإنها أوساخُ أموالِهم، بل يَسعَى في طلبِ عملٍ إضافيٍ، ولو كانَ العملُ حقيرًا، قال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا في المَسْأَلَةِ (أي: مِن الذُّلِّ والإيذاءِ والذنبِ) مَا مَشَى أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ يَسْأَلُهُ شَيْئاً"(رواه النسائي وحسنه السيوطي والألباني).
ثالثًا: جَدْولةُ الدُّيونِ، وتدبيرُ النفقةِ على قدرِ رزقِه، ولا يُجاريْ الأغنياءِ، لكنْ: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ.
أما إنْ رَضَخَ لمَطالِب أهلِ بيتِه فإنه سيَغرَقُ بالدَّينِ، ولن يكتويَ بنارِ الذلِ والهمِ أحدٌ أشدُّ منه، والزوجةُ العاقلةُ هيَ التي تراعِي زوجَها في كُربتِه، بل لتُخبِرْ أولادَها الكبارَ؛ ليَتعاوَنوا في الخروجِ من مأزِقِهم المشترَكِ.
أيُّها الدائنُ الذي أنعَمَ اللهُ عليه، فوسَّعَ عليه في رزقِه: لعلكَ من أهلِ الشهامةِ الذين يُنظِرون، بل ويَتصدقون ويُسقِطون، ولعلك من الذين يُقَدِّرون الذين يَشفعون.
نعم؛ هناكَ مَدينٌ مُتلاعِبٌ بالأموال، فهذا يؤدَّبُ شرعًا، ولا تُلامُ على مُطالبَتِهِ.
أما المسكينُ الحريصُ على السدادِ، لكنه خسرَ في تجارةٍ أو مساهمةٍ، فهذا الذي قال اللهُ -تعالى- عنه: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 280]ٍ إنظارٌ عند الإعسارِ، وأفضلُ منه إسقاطُ بعضِ الدينِ، وهذا فضلٌ من اللهِ وتوجيهٌ للدائنينَ.
أما الذينَ يؤذونَ أولئكَ الحريصينَ العاجزينَ عن السَّدادِ، وربما يُرسِلون دَعَواتٍ عليهم، أو يُطالبون بسَجْنهم؛ فقد قال عنهم الشيخُ ابنُ عثيمينَ -رحمه اللهُ-: "هؤلاءِ الدائنونَ الجشعونَ كأنهم يقولون: إن كانَ ذو عُسرةٍ فليؤدَّ إلى السِّجنِ! بعكسِ ما أمرَ اللهُ -عز وجل- به، ويُخشى أن يُسلِّط اللهُ مَن يَفعل بهم كما فعلوا بهذا السجينِ المظلومِ".
أيُّها الدائنُ: احذرْ منِ احتيالاتٍ محرمةٍ على أولئكَ المديونينَ المغلوبينَ، ومنها: أن يقولَ لدائنِه: أعطيكَ دَينًا آخرَ، وسدِّدْ به الأولَ، واستقبِلِ الدَّينَ الثانيَ مضاعَفًا، وهذا حرامٌ من وجهين:
1- أنه قَرْضٌ لمنفعةٍ، وكلُّ قرضٍ جرَّ نَفعًا فهو ربا.
2- أن فيه غبنًا فاحشًا، ولو ادَّعى المديونُ بالغبنِ الفاحشِ عند القاضي لقُبِلَتْ دَعواه.
فاللهم اقضِ الدَّينَ عن المدينينَ.
اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ.
اللهم اكفِنا بحلالِكَ عن حرامِكَ، وأغنِنا بفضلِكَ عمن سواكَ.
رَبّنا أَعِنّا وَلَا تُعِنْ عَلَينا، وَانْصُرْنا وَلَا تَنْصُرْ عَلَينا، وَامْكُرْ لنا وَلَا تَمْكُرْ عَلَينا، وَاهْدِنا، وَيَسِّرْ هُدَانا إِلَينا، وَانْصُرْنا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَينا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنا لَكَ شَاكِرين، لَكَ ذَاكِرين، لَكَ رَاهِبين، لَكَ مِطْوَاعين، إِلَيْكَ مُخْبِتين مُنِيبين.
اللهم وفقْ إمامَنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ بتوفيقِك، وأعنه بوليِّ عهدِه، وسدِّده، وارزقهم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ.
اللهم انصر جنودَنا في حدودِنا، وأهلِكْ عدوَّنا وعدوَّهم، واجعلْ عاقبتَنا إلى خير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي