ثم قالت: شَدِيدُ سَوَادِ الشّعْرِ، إن صمت علاه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب, حلو المنطق، فصلٌ لا نَزْرٌ ولا هَذْر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرنَ -تصف بذلك كلامه في حسنه وبلاغته وفصاحته وبيانه وحلاوته...
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: كانت كريمةً سخيَّةً، جلْدًةً أعرابيةً، فصيحةً خزاعيةً، عاشت في مناطق نائِيَة، بعيدةً عن المدنِ وتحضُّرِها وثقافتِها، وَبَلَغَ من سخائِها أنها كانت تحتبي بفناء خيمتِها كلَّ يوم، ثمَّ تُطعم وتَسْقِي من مَرَّ بها.
في بادِيتها بوادي قُديد شمال مكة بمائةٍ وخمسينَ كيلاً، عاشت تلك المرأة مع زوجها تَرعى غُنَيْماتٍ لها، لا تُعرف عند أهل عصرها، قد خَمَلَ ذِكْرُها وَخَبَرُها, بيد أن موقفاً واحداً غيَّر مجرى حياتها، وخلد ذكرها، وأصبحت قصتها واسمها يتناقله المحدثون وأهل التاريخ في وصف النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إنه خبرُ أمِّ مَعْبَد، وما أدراكَ ما خَبَرُ أمِّ معبد؟! حدَثٌ غير عابر، وموقف سامق باهر، يحمل في طياته الروعة والجمال، والبهاء والإشراق.
أوتيت هذه المرأة فصاحة وحصافة، ونباهة وبلاغة، دققت النظر في النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم وصفته وصفاً دقيقاً، كأنما تشاهده الأجيال.
فتعالوا إلى دقة التصوير، وروعة البيان، وجزالة العبارة؛ فبمثل هذه الأخبار يزداد العبد شوقاً لرؤية حبيبه -صلى الله عليه وسلم-, وبمثل هذا المشهد تنشرح الصدور، وتهفو القلوب، وتطرب الأسماع.
وخبر أم معبد أورد قصتها عدد من الأئمة وأهل السير في مُصنَّفاتهم؛ وقال عنه الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "إنه مشهور ومروي من طرق يشد بعضُها بعضًا".
إخوة الإيمان: ها هو رسول رب العالمين، وخير البشر أجمعين، يقطع الفيافي والقفار في هجرته التاريخية، قد غادَرَ أحبَّ البقاع إليه، وهو يتغصَّصُ آلام ذلك الفراق والإخراج, يمضي هذا الركب المحمدي، تحفُّه عناية الرحمن، يمضي للأرض التي ستأويه، وإلى الشعب الشَّهْمِ الذي سيحميه؛ ليبلغ أمر هذا الدين ولو كره الكافرون.
ومع طولِ الطريق قلَّ الزاد، ومع شدَّة القيظ والحر جفَّت الأكباد, فرأوا سواد خيمة من بعيد، فتوجهوا إليها لعلهم يجدون عند أهلها ما يسكت بطونهم، ويقوي عزيمتهم, فإذا هم أمام خيمة لا يوجد فيها إلا عجوزٌ وحيدة، فسلَّموا عليها، فرحَّبَتْ وَأَجْلَسَتْ، وهي تحدق ببصرها إلى أضيافها الثلاثة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، ودليلهم عبدالله بن أريقط.
هَبَطَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على خَيْمَةِ أمِّ مَعْبَدٍ عاتكة بنت خالد؛ فهبطت البركات، والمعجزات الخارقات.
كان أولُّ شيء طلبوه منها أن يشتروا منها لحماً ولبناً، فاعتذرت المرأة بأدب، بأن الشاة عازب والسنة شهباء -أي: أصابهم القحط-، وأخبرتهم أنَّ زوجها قد ذهب بالغنم إلى المرعى بعيداً، ولم يبق عندها إلا شاة هزيلة، قد جفَّ ضرعها، وخارت قوتها، فهي لا تلحق بأخواتها.
فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الشاة، فقال: "هل بها من لبن؟", قالت: هي أجهدُ من ذلك، فقال النبي: "يا أم معبد أتأذنين لي أن أَحْلِبَها؟", قالت: نعم، إنْ رأيتَ بها حَلْبَاً فَاحْلِبْهَا، فمسح النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة ضرع الشاة التي عجفت من القلَّة والجدْب، وسمَّى اللَّه، ودعا لأم معبد في شاتها؛ فتفاجَّت الشاة عليه -أي: فتحت ما بين رجليها للحلْب-؛ فدرّت واجترّت، ثم طلب منها إناءً، ثم حلب فيه حتى امتلأ عن آخره، وقدَّمه إليها فشربت حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رَوُوا، وشرب آخرهم، ثم حلب ثانياً، وتركه عندها، وارتحلوا عنها.
وأم معبد قد علتها الدهشة، ولفَّها الانبهار، وجعل بصرها لا يكاد يغادر هذا الرجل الذي رأت المعجزة على يديه, فما لبثت إلا قليلاً حتى جاء زوجُها أبو معبد، يسوق أَعْنُزاً عجافاً هزالاً، تسير سيراً ضعيفاً لشدة ضعفها، فلمّا رأى اللبن تعجَّب وقال: من أين هذا يا أمَّ معبد، والشاة عازِب بعيدة عن المرعى، حيال غير حامل، ولا حَلُوبةَ في البيت؟ قالت: مرّ بنا رجلٌ كريمٌ مبارك، كان من حديثه كذا وكذا! فقال أبو معبد: صِفِيهِ لي يا أم معبد.
واستمع إلى هذا الوصف الأخَّاذ الماتع، وذاك البيان الدقيق، وتلك القطعة التي تُؤرَّخ في أدبِ الوصف، التي جاشت بها أم معبد -رضي الله عنها-, قالت: "رأيت رجلًا ظَاهِرَ الوَضاءَةِ، حَسَنَ الخلْقِ, أبلج الوجه -أي مشرق وضيء-, لم تعبه نُحْله -أي: ليس نحيلاً-، وفي رواية لم تعبه ثُجْلة -وهي ضخامة البطن-.
قالت: ولم تُزْرِ به صَعْلَهٌ -والصَّعْلة هي صغر في الرأس، وهي تعني الدقة والنحول في البدن-, ثم قالت: وسيم قسيم -تعني: حسنٌ وضيءٌ بيِّن الحسن-, في عينيه دَعَجٌ -أي شدة سواد العين-, وفي أشفاره وَطَفٌ -أي أن شعر رمشه طويل منثنٍ-, قالت: وفي عنقه سَطَعٌ -أي أن في عنقه شيئًا من الطول-, وفي صوته صَهَلٌ -تعني: بذلك حدة وصلابة من غير شدة، وهي البحة اليسيرة، وهي أبلغ في الصوت من أن يكون حادًّا-, وفي لحيته كثاثة أي كثرة, أحورُ أكحل، أزجُّ أقرن -تعني: بذلك أنه متقوس الحاجبين مع طولهما ودقتهما واتصالهما-.
ثم قالت: شَدِيدُ سَوَادِ الشّعْرِ، إن صمت علاه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب, حلو المنطق، فصلٌ لا نَزْرٌ ولا هَذْر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرنَ -تصف بذلك كلامه في حسنه وبلاغته وفصاحته وبيانه وحلاوته-.
ثم قالت: رَبْعٌ لا بأس من طول -أي: إنه إلى الطول أقرب-, ولا تُقْحِمُهُ عَيْنٌ من قِصَرٍ -أي لا تحتقره العين حين تشاهده؛ لأنه إلى الطول أقرب، وليس بالقصير، بل هو مهاب مقبول-, قالت: غُصْنٌ بين غصْنَيْنِ، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود -وتعني بذلك أن أصحابه يجتمعون عليه ويخدمونه ويسرعون في طاعته، إجلالا ومحبة-.
ثم قالت: لا عابس ولا مُفْنِدٌ -والعابس هو الكالح الوجه، والمفند هو المنسوب إلى الجهل، وقلة العقل-, وتعني بذلك أنه كان جميل المعاشرة, حسن الصحبة، صاحبه كريم عليه.
فلما سمع أبو معبد ما سمع قال: هو واللَّه صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذُكر بمكة، ولو كنت وافقتُه لالتمستُ صحبته، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلاً، فأعدت أم معبد وزوجها العدة؛ كي يلحقا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وهناك أسلما، ودخلا في حمى الإسلام.
انتهى المشهدُ البديعُ البليغ الذي صاغته أمُّ معبد، وعجبت وأعجبت بسيد الأولين وحبيب رب العالمين، وحق لها، فوالله لو ذابت القلوب في أجوافها، وتفتت الأكباد في أحشائها حباً وشوقاً وإعجاباً في محمد -صلى الله عليه وسلم- لما كانت وربي ملومة.
وإذا كان هذا إعجاب امرأة لم تره إلا هذه المرة، فكيف هو حبُّ وإعجابُ من خالطَه وعايشَه وصاحبَهُ، ورضي الله عن حسَّان حين قال:
وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي *** وَأَكْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ *** كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ
اللهم يا ذا الجلال والإكرام نشهد أننا نحب نبيك -صلى الله عليه وسلم-، فارزقنا شفاعته، وأوردنا حوضه، واسقنا من يده الشريفة، واجعلنا من أصحابه ومرافقيه في جنات الفردوس.
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين, وبعد:
فيا إخوة الإيمان: وعاشت أم معبد -رضي الله عنها- بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وكان الصحابة يقدِّرونها ويعرفون لها فضلها.
وبقيت الشاة التي حلبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دهرًا طويلًا تحفل بالحليب، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتاب الإصابة أن شاة أم معبد التي مسح النبي ضرعها كانت تُحلب عام الرمادة في خلافة عمر، وما في الأرض لبن قليل ولا كثير.
وبعد خبر أم معبد فحقَّ للقلوب أن تهفو شوقاً لمن أرسله الله رحمة بنا، وهداية لنا, وَإِذَا كُنَّا قَدْ حُرِمْنَا رُؤْيَتَهُ -صلى الله عليه وسلم- فِي الدُّنْيَا، فَلاَ أَقَلَّ مِنْ أَنْ نُسَلِّيَ أَنْفُسَنَا بِمَعْرِفَةِ وَصْفِ خِلْقَتِهِ.
وإِنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيلِ خَلْقِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَكَمَالِ حُسْنِهِ مِمَّا يَزِيدُ المُؤْمِنَ مَحَبَّةً لِنَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ حَتَّى لَيَرْخُصَ أَمَامَهُ الغَالِي وَالنَّفِيسُ فِي سَبِيلِ تَكْحِيلِ العَيْنِ بِرُؤْيَا وَجْهِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-, فَيُدْرِكُ العَبْدُ بِذَلِكَ قَوْلَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسًا يَكُونُونَ بَعْدِي, يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ).
وأخيراً فإن من أدلِّ علاماتِ حب النبي -صلى الله عليه وسلم- اتِّباعُ أمره، وترك نهيه؛ إنَّ المحب لمن يحب مطيع.
وإن من طاعته امتثال أمره في صيام يوم عاشوراء، الذي صامه وحض أمته على صيامه، وقال عنه: "عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله"(رواه مسلم في صحيحه).
عباد الله: صلوا بعد ذلك على الهادي، والسراج المنير؛ كما أمركم ربكم الكبيرُ القديرُ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي