وصايا لقمان وسنن وبدع شعبان

سليمان بن حمد العودة
عناصر الخطبة
  1. وصايا لقمان لابنه .
  2. التوصية بعدم الإشراك بالله تعالى .
  3. إقامة الصلاة والاهتمام بأركانها وواجباتها .
  4. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوصية بالصبر .
  5. النهي عن الكبر واحتقار عباد الله .
  6. الاهتمام بأدب الحديث .
  7. هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في شعبان .
  8. معنى صيامه في شعبان .
  9. بدع ليلة النصف من شعبان .

اقتباس

وأنتم تعيشون شهرَ شعبان، فيحسن التذكيرُ بشيء مما جاء فيه عن رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-؛ فقد كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- كثرةُ الصيام في شعبان؛ فقد روى البخاري ومسلم -رحمهما الله-، عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: لم يكن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصومُ شعبان كله) .

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعدُ:

فاتقوا الله -معاشر المسلمين- واعلموا أن تقوى الله أقومُ وأقوى، وهي للخير قائدٌ ودليل، وعن الشرِّ سياج منيع، هي وصيةُ الله لكم فاعقلوها واعملوا بها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].

أيها المسلمون: وفي وصايا لقمان الحكيم متسعٌ للحديث، وفيها عبرٌ ودروس للأبناء والآباء. وحين مضى التعريف بلقمان، ووصيته لابنه بالبعد عن الشرك بالله لعظيم خطره، وتنبيهُهُ لمراقبة الله، وبيانُ شيء من قدرته، فلا يزال لقمان يوصي ابنه بإقامة الصلاة: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة) [لقمان: 17]، والصلاةُ صلةٌ بين العبد وخالقه، وفيها عونٌ للمرء على حوائج دينه ودنياه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة) [البقرة: 153]، ولم تكن الوصية بالصلاة قصرًا على الحكماء، بل أوصى بها الأنبياء، وأمر بها المرسلين -عليهم السلام-: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) [مريم: 31]، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء: 73]، (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2].

وأمر بها المرسلون أهليهم وأممهم: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً) [مريم: 55]، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [النساء: 103].

وفي ساحات الوغى لم يُعذر المسلمون بترك الصلاة، بل نزل تشريعُ صلاة الخوف، ثم قيل لهم: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) [النساء: 103].

أيها المسلمون: ويبلغ الاهتمامُ بالصلاة عند عباد اللهِ الصالحين إلى درجة تُنحر الجيادُ من الخيل، إذا ألهت عن الصلاة في وقتها، ولو كان عددُها كثيرًا، ولو كان الهدفُ منها جليلاً، وكذلك أثنى الله على سليمان -عليه السلام- وأعاضه عن الخيل بالريح المسخرة، فكان يقطع عليها من المسافة في يوم ما يقطع مثله على الخيل في شهرين غُدُوًّا ورواحًا.

أيها المتكاسلون عن أداء الصلاة في وقتها: اسمعوا ثناء الله على سليمان -عليه السلام- بشأن الصلاة: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) [ص: 30-33].

واستمر للصلاة وزنُها وقيمتُها عند الأخيار على تعاقب الأجيال، واعتبرها العلماءُ ميزانًا لأخذ العلم عن الرجال أو تركه، وهذا أبو العالية الريحاني العالمُ الثقة كان يرحل لسماع الحديثِ عند بعض أهله، فإذا وصل إلى صاحب الحديث أخذ يتفقد صلاته، فإن وجده يحسن صلاته أقام عنده، وإن وجد فيه تضييعًا رحل ولم يسمع منه وهو يقول: من ضيّع الصلاة فهو لما سواها أضيع.

عباد الله: ولقد أوصى لقمان ابنه بإقام الصلاة، وليس مجرد أدائها وإقامتها، أي: بحدودها وفروضها وأوقاتها.

والويل لمن هم عن صلاتهم ساهون: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4، 5]، والحذر الحذر -يا عبد الله- أن تكون ممن قال الله فيهم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم: 59، 60]، وليس من الرحمةِ للأبناء ضعفُ أمرهم بالصلاة، إذا كانوا نائمين، أو كان الجو باردًا، أو الليل قصيرًا.

أيها المسلمون: وحين يبلغ لقمانُ في وصيته لابنه هذا المبلغ فيربِّيه على عدم الإشراكِ بالله، وعلى دوام المراقبة والخوف من الجليل ودوام الصلة والعبادة، فهو لا يقصره على ذلك، بل يُعلمُه نشر الخير للآخرين ويقول له: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَر) [لقمان: 17]، وكذلك تُربى النفوسُ على حبِّ الخير والدعوة إليه، وكذلك أثنى الله على هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].

بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحقق الفلاحُ للآمر والمأمور، وتُصان سفينةُ المجتمع من الغرق، هو علامةُ خير، ودليلُ الإيمان، وهو مؤشِّرٌ للغيرة على دين الله وحرماته، والذين يرون المنكراتِ تسري في المجتمعات، فلا تتمعَّر وجوهُهم لله، أولئك في إيمانهم ضعف، وفي إحساسِهم نوعٌ من التبلُّد، والذين بإمكانهم أن يشيعوا الخير ويأمروا بالمعروف ثم لا يفعلون، أولئك محرومون من فضلِ الله، فالكلمةُ الطيبةُ صدقة، و"لأن يهدي اللهُ بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمر النعم"، ولئن اختص اللهُ بهداية القبولِ والتوفيق للخير، فهداية الدلالة والإرشاد بوسع البشر أن يؤدوها، ولولا ذلك لتعطلت نصوص الشرع في الأمر والنهي والدعوة والجهاد في سبيل الله، فصححوا الفهم الخاطئ، وفرقوا بين هداية التوفيق والقبول، وهداية الدلالة والإرشاد.

إخوة الإيمان: وإذا تعاظم أجرُ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين للخير والناهين عن الشر، فذلك أمرٌ لا تطيقه بعضُ النفوس لأنه محتاج للصبر والمصابرة على التواءِ النفوس وعنادِها، وانحراف القلوب وإعراضها، ويقلُّ من الناس من يصبرُ على الأذى، تمتدُّ به الألسنة، وربما امتدت به الأيدي، أو يصبرُ على الابتلاء في المال أو النفس أو الأهل والولد عند الاقتضاء.

ولهذا لم ينس لقمانُ وصيةَ ابنه بالصبرِ على ما يصيبُه في طريق الخير: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) [لقمان: 17].

ويخطئ الذين يظنون أن بإمكانهم أن يدعوا للخير وينهوا عن الشر ثم تسلم أعراضُهم، أولا يصيبهم ضرٌّ في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم، أو مصالحهم المادية بعامة، وإذا لم يسلم الأنبياء والمرسلون فغيرهم من باب أولى، وصدق الله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2-3].

ولكن عزاءَ الصابرين على الدعوة للخير أن العاقبة حميدة، فالعاقبة للمتقين، كما حكم ربُّنا، وأن ذلك من عزم الأمور كما قال تعالى في وصايا لقمان: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 17].

قال ابنُ عباس في تأويل ذلك: يعني من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره.

أيها الداعي للخير: وإذا أردت أن تروِّض نفسك على هذا الطريق فاقرأ قوله تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات: 52]، وتأمل قوله -صلى الله عليه وسلم- وهو يحكي نبيًا من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، ضربه قومُه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". متفق عليه.

ولكن ذلك لا يعني بحال أن تُعرِّض نفسك للبلاء فوق ما تطيق أو تُذل نفسك، فقد نهى عن ذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "لا ينبغي لمؤمنٍ أن يُذِل نفسه: يتعرض للبلاء ما لا يطيق". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن حذيفه بسند صحيح.

عباد الله: ولا بد مع الصبر على المكاره من عد الكبر والخيلاء، وتلك واحدة من وصايا لقيمان لابنه، فالدعوةُ للخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم للخير، ومن باب أولى أن يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 18]. أي: لا تتكبر فتحتقر عباد الله أو تعرض عنهم بوجهك إذا كلموك، ولا يظهر في مشيتك الكبرُ والخيلاء، وتذكر أن بدايتك من ماء مهين، وأنك مهما بلغت من الجاه والسلطان، واجتمع لك من الأموال والأولاد فنهايتك إلى التراب، وقد قيل: إن القبر يكلم صاحبه إذا وُضع فيه ويقول: يا ابن آدم: ما غرك بي، ألم تعلم أني بيت الوحدة، ألم تعلم أني بيت الظلمة، ألم تعلم أني بيت الحق؟! يا ابن آدم: ما غرَّك بي؟! لقد كنت تمشي حولي فدَّادًا. والمعنى: ذا مال كثير وذا خيلاء.

فهل يتكبر العقلاء الذين يتذكرون المبدأ والمنتهى؟!

ألا إن في آيات الذكر عبرة، وفي وصيا لقمان عظة، (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) [الإسراء: 97].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله..

 

  

الخطبة الثانية:

 
الحمد لله أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

عباد الله: وحين ينهى لقمان ابنه عن التكبُّر والخيلاء في الهيئة أو المشية، وفي التعامل مع الناس أو تعاظم النفس وغرورها وعُجبِها، فهو يأمره بالاعتدال في مشيه والقصد فيه: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِك) [لقمان: 19]، والمعنى: امشِ مشيًا مقتصدًا، ليس بالبطيء المتثبِّط، ولا بالسريع المفرط، ومشية متواضعة، هي وسط بين مشية المرح والبطر والتكبر، ومشية التماوت والتباطُؤ، فالمشيةُ المحمودةُ وسط بين مشيتين مذمومتين، وعلى المربين أن يعوا هذه اللفتة التربوية، فيمنعون ما يحرم، ويقدمون البديل الحلال، كما أن عليهم نزع الخلقِ المذموم قبل إعطاء البديل المحمود، فالتخلية قبل التحلية كما يقال.

أيها المسلمون: ولا ينسى لقمان -في وصاياه لابنه- أن يعلمه أدب الحديث إذا نطق: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) [لقمان: 19]، والغضُّ من الصوت فيه أدبٌ وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته، وما يزعقُ أو يُغلظ في الخطاب -دون حاجة- إلا سيِّئ الأدب، أو شاكٌّ في قيمة قوله أو قيمة شخصه، يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة وعلو الصوت.

وحتى يقبح رفع الصوت ويستهجن إغلاظه يُضرب لذلك مثلٌ تشمئز منه النفوسُ، إنه صوتُ الحمار: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 19]، فعلوُّ صوت الحمار لم يُحَسِّنه بل قَبَّحَهُ وشانه، ولذلك ينبغي أن يخفض العقلاء أصواتهم حين حديثهم، وما من شك أن الكلمة الطيبة تبلغ مبلغها وينفع الله بها -وإن كانت هادئة-، والكلمة الخبيثةُ تُضِلُّ وتسيء وإن بالغ أصحابُها في رفع أصواتهم، وإذا عُدَّ في مساوئ الآداب أن يجري ذكرُ الحمار في مجالس الكرماء، أفيليق التشبه به برفع الصوت في النطق، ذلك توجيه ينبغي أن يعيه الآباء والأبناء.

وبعد:

أيها المؤمنون: فهذه وصايا نافعةٌ جدًّا، وهي من قصص القرآن عن لقمان الحكيم؛ ليتمثلها الناس ويقتدوا بها كما قال الحافظ ابن كثير.

ألا ما أحوج الآباء والمربين إلى الوقوف عندها طويلاً لفهمها والعمل بمقتضاها، وخليق بمن أوصى بهذه الوصايا أن يكون مخصوصًا بالحكمة، مشهورًا بها، وخليق بالعقلاء أن يستفيدوا من حكم الحكماء، كيف لا وقد أصبحت قرآنًا يُتلى، وتوجيهًا إلهيًا، فهل يعقل الآباءُ هذه الوصايا؟! وهل يستفيدُ الأبناءُ منها، ذلك هو المؤملُ والمرتجى، والله من وراء القصد.

أيها المسلمون: وأنتم تعيشون شهرَ شعبان، فيحسن التذكيرُ بشيء مما جاء فيه عن رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-؛ فقد كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- كثرةُ الصيام في شعبان؛ فقد روى البخاري ومسلم -رحمهما الله-، عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: لم يكن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصومُ شعبان كله).

وأخرج النسائي -بسند حسن- من حديث أسامةَ بن زيد -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله: لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان!! قال: "ذلك شهرٌ يَغْفَلُ الناسُ عنه بين رجبَ ورمضانَ، وهو شهرٌ تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يرفعَ عملي وأنا صائم". ولمزيد توضيح ذلك قال ابن القيم -يرحمه الله- في تهذيب السنن:

وفي صومه -صلى الله عليه وسلم- شعبان أكثر ممن غيره ثلاثُ معان:

أحدها: أنه كان يصومُ ثلاثة أيام من كل شهرٍ، فربما شُغل عن الصيام أشهرًا، فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض.

الثاني: أنه فعل ذلك تعظيمًا لرمضان، وهذا الصومُ يُشبه سنة فرضِ الصلاة قبلها تعظيمًا لحقها.

الثالث: أنه شهر ترفع فهي الأعمالُ، فأحبَّ -صلى الله عليه وسلم- أن يُرفعَ عملُه وهو صائم، ثم يقول: والحديثُ يدل على فضل الصوم في شعبان. وقولُ عائشة: وكان يصوم شعبانَ كلَّه. المرادُ بالكلِّ: أكثره، كما جاء في الرواية الأخرى: كان يصومُ شعبان إلا قليلاً.

إلى أن يقول: ولا تعارض بين هذه الأحاديث، وبين أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يومٍ أو يومين، وحديث: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"، وهو حديث على شرط مسلم، بأن يُحمل النهيُ على من لم تكن له عادة في الصيام من أول شعبان، فجاء النصف الثاني وأراد أن يصوم هذا في التطوع، أما إن كان عليه قضاءٌ أو نذر فيجوز له القضاءُ ولو بعد النصف الثاني.

وأحاديثُ الجواز تُحمل على من اعتاد الصوم من أوله، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "إلا رجلاً كان يصوم صومًا فليصمه". متفق عليه. انتهى كلامه -يرحمه الله-.

أيها المؤمنون: وحتى لا تختلط السُّنةُ بالبدعة، فلا بد من الحذر من تخصيص يوم النصف من شعبان بالصيام، أو الاجتماع ليلة النصف منه للصلاة، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية -يرحمه الله-: فأما صومُ يوم النصف مفردًا فلا أصل له، بل إفرادُه مكروه، وكذلك اتخاذُه موسمًا تُصنع فيه الأطعمة، وتُظهر فيه الزينةُ، هو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها، وكذلك ما قد أحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية -هي التي تقرأ فيها بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ألف مرة- في المساجد الجامعة، ومساجد الأحياء والدروب والأسواق، فإن هذا الاجتماع لصلاة نافلةٍ قصيرةٍ بزمان وعدد وقدر من القراءة لم يشرع، مكروه، فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوعٌ باتفاق أهل العلمِ بالحديث… إلى آخر كلامه -يرحمه الله-.

والشيخُ -يرحمه الله- قبل ذلك أبانَ عن فضل ليلة النصف من شعبان، ومن كان من السلف يخصها بالصلاة، ومن كان يكره ذلك ويطعن في الأحاديث الواردة فيها، ثم قال: لكن الذي عليه كثيرٌ من أهل العلم أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها، وعليه يدل نص أحمد.

ألا فاستمسكوا -عباد الله- بالهدي والسنن، واحذروا البدع ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة في دين الله بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار، وفي السنن كفايةٌ عن البدع، والشيطانُ حريصٌ على ابتداع المبتدعين، وربما نشطهم لها وثبطهم عن اتباع السنة.

وليس يخفى أن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدوًا، وإياكم والتعبد محاكاةً وتقليدًا، فمن عمل عملاً ليس عليه أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو ردّ، والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا صوابًا. اللهم وفقنا لاتباع السنن، وهجر البدع، واسلك بنا سبيل الهداة المهتدين، وجنِّبنا طرائق الضالّين المضلِّين.
 

 

  

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي