أيها المسلمُ: إذا ضاقت بك ظلماتُ الهموم، ولزمتك شقوةُ الغموم، فالزم كتابَ ربك تلاوةً وتدبرًا، استجابةً وعملًا، فهو نور القلوب، والشفاء من جميع الخطوب...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة، وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الرحيم الغفور، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله السراج المنير، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين فازوا بالتجارة التي لن تبور.
أما بعد: فيا أيهما المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-، فهي وصية الله للأوَّلين والآخِرين، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 131].
عباد الله: الدنيا لا تستقر على حال، بل تمر على الإنسان حالات من الضيق والحزن، وأطوار من الهم والغم، لأسباب متعددة وفي صور مختلفة، ألا وإن الْمُنْجِي الوحيد من كل هم وكرب، والعاصم الفريد من الغم والوصب، هو الالتجاء الصادق لله -جل وعلا-، والتضرُّع إلى المولى -تبارك وتعالى-، قال عز وجل: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الْحِجْرِ: 97-99].
الطاعة -أيها المسلمون- فرحة وسرور، والتقوى لله -جل وعلا- بهجة وحبور، فالزم عبدَ اللهِ طاعةَ ربك، يجعل لكَ من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، قال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطَّلَاقِ: 2-3]، (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)[الِانْفِطَارِ: 13]، وهذا يشمل نعيمَ القلب وسرورَه في الدنيا كذلك.
عبادَ الله، أيها المسلمُ: إذا ضاقت بك ظلمات الهموم، ولزمتك شقوة الغموم، فالزم كتاب ربك تلاوة وتدبرا، استجابة وعملا، فهو نور القلوب، والشفاء من جميع الخطوب، قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يُونُسَ: 57]، وقال تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فُصِّلَتْ: 44]، فمن ألزَم نفسَه بكلام ربه، وأشرقت في قلبه أنوارُه، انجلى عنه كلُّ حزن، وانقشعت عنه الهمومُ والغمومُ.
أخي المسلم: متى علت الهمومُ نفسَكَ، وهجمت على قلبك فانكَسِرْ بين يدَيْ ربِّكَ، وأظهر الافتقارَ إليه، تذلَّل لخالقك والجأ إليه بالتضرع والدعاء، يقول تبارك وتعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 83-84].
تضرَّعْ إلى القادر على كل شيء، تضرع إليه تضرعا صادقا مخلصا، بلسان الحال ولسان المقال، بحضور قلب في حال خشوع من الباطن والظاهر، في انكسار تام من مخلوق لخالقه، ومِنْ عبد لمولاه، بيقين أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 87-88]، وصحَّ عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- الحثُّ على هذا الدعاء، وأنه لن يدعو به مسلم في شيء إلا استجاب الله له، وأن هذا الدعاء من أدعية رفع الكرب، وكشف البلاء؛ لما فيه من المعاني العظيمة من توحيد الله وتعظيمه، وتنزيهه والاعتراف بالقصور والعجز وظلم النفس في الوفاء بحقوق الخالق -سبحانه-، ولا غرو فلا نعيم لقلب ولا سرور لنفس إلا بكمال التوحيد والقيام بحقائق الإيمان التي جاء بها الوحيُ، ولهذا (ففي الصحيحين) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض، رب العرش الكريم".
عبادَ اللهِ: ومن أدعية دفع الكرب والهم، والمتضمِّنة التضرعَ إلى الله -جل وعلا-، والتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ما صحَّ عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ومنها: "لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله، رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين"، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما أصاب أحدًا قطُّ هَمٌّ ولا حَزَنٌ، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أَمَتِكَ، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمُكَ، عَدْلٌ فيَّ قضاؤُكَ، أسألك بكل اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابِكَ، أو علمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندكَ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي، إلَّا أذهَب اللهُ همَّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا، قيل: يا رسول الله، ألَا نتعلمها؟ قال: بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها"، وما أهون -يا عباد الله- أن يتعلَّمها المسلمُ في مثل هذا العصر.
أخي المسلم: ومن أدعية التحصُّن من الهم والحزن قبل وقوعه ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدَّيْن وقهر الرجال" وهذه الأمور كلها من أسباب الحزن.
ومن الأدعية أيضا: أن يكرر العبد بلسانه وقلبه: "الله ربي لا أشرك به شيئا"، ومنها أيضا: "يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث".
أيها المسلم: من أعظم أسباب الفرح واللذة والسرور والبهجة: أن تقف بين يدي ربك بصلاة فريضة أو نافلة، في غير وقت نهي، بصلاة خاشعة يكسوها الانكسارُ والافتقارُ للعزيز الجبَّار، قال سبحانه: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)[الْبَقَرَةِ: 45]، وروى البخاري عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "استيقظ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أُنزل الليلةَ من الفتن، وماذا فُتح من الخزائن؟ أيقِظوا صويحبات الحُجَر، فرُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عارية في الآخرة" وفي رواية: "أيقِظوهن حتى يُصَلِّينَ"، قال ابن حَجَر في هذا الحديث: "استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الضر والشر"، وعند مسلم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا رأى أحدُكم -أي: في منامه- ما يكره فليقم وليُصَلِّ"، وعلى ذلك فعلُ سلفِ هذه الأمة كما روي عن ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين.
أسأل الله -جل وعلا- أن يكشف همَّنا وأن يرفع كربَنا، وأن يرزقنا من حيث لا نحتسب، وأن يَمُنَّ علينا بفضله ورحمته، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: وللإحسان بأنواعه سواء من القول أو الفعل، خاصة الصدقة؛ لذلك تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، ورفع الضراء، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)[يُوسُفَ: 88]، (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[الْبَقَرَةِ: 195]، وقال صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تُطفئ غضبَ الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر"(أخرجه الطبراني في الكبير، وقال البيهقي والمنذري: "إسناده حسن، وله طرق وشواهد").
فاستقِيموا عباد الله على طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالعمل الصالح، والمسارَعة للخيرات، وملازَمة الفرائض وسائر الطاعات، تَسْعَدُوا وتُفلحوا، يقول جل وعلا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ: 97].
ثم إن من أعظم أسباب انشراح الصدر وتفريج الكروب الإكثار من الصلاة والتسليم على النبي الكريم، اللهم صل وسلم وبارك على حبيبنا ونبينا وقرة عيوننا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بمن تسلط على المسلمين، اللهم عليك بمن مكَر بالمسلمين، اللهم من مكر بالمسلمين فامكر به، وأنزل عليه سخطك وغضبك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم فرج همهم، اللهم نفس كربهم، اللهم أغن فقيرهم، اللهم واشف مريضهم، اللهم اهد ضالهم، اللهم ولِّ عليهم خيارهم، اللهم ول عليهم خيارهم، واكف شرارهم وفجارهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا ونائبه لما تحبه وترضاه، اللهم آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، اللهم ارزقنا في هذه الحياة حياة طيبة، اللهم ارزقنا فيها حياة نغنم بها برضاك، نغنم فيها برضاك، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أرضنا وارضَ عنَّا، اللهم أرضنا وارضَ عنا، يا حي يا قيوم، اللهم لا تجعل للحاضرين ولمن سمعنا همًّا إلا فرجتَه، ولا كربًا إلا نفَّسْتَه، ولا عسيرا إلا يسَّرْتَه، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الْأَحْزَابِ: 41-42]، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي