الدنيا ساعةٌ بينَ ساعتينِ؛ ساعةٌ ماضيةٌ، وساعةٌ آتيةٌ، وساعةٌ أنتَ فيهَا، فأمَّا الماضيةُ والباقيةُ فلا تجدُ لراحتِهمَا لذةً ولا لبلائِهمَا ألمًا، وإنَّما الدُّنيَا ساعةٌ أنتَ فيهَا فخدعتَك تلكَ الساعةُ، وصيَّرتكَ إلى الشرِّ، وإنَّما اليومُ إنْ عَقلْتَ ضيفٌ نزلَ بكَ وهو مرتحلٌ عنكَ، فإنْ أحسَنْتَ نُزلَهُ وقِراهُ شَهِدَ لكَ، وأثنى عليكَ بذلك، وصدقَ...
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا، ومنْ سيئاتِ أعمالنا، منْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ، ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ -أيها المؤمنونَ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون)[آل عمران: 102].
أيُّها المؤمنون: العامُ الجديدُ صفحةٌ بيضاءُ تسجلونَ فيهَا أعمالَكم فاحرصُوا علي كثرةِ العملِ الصالحِ، واستقبلُوه بعزائمَ قويةٍ ونوايَا صادقةٍ وتخطيطٍ سليمٍ، واعلمُوا أنَّ كلَّ عملٍ تعملونَه صغيرًا أو كبيرًا، قليلاً أو كثيرًا سيحفظُ لكمْ حتَى مثاقيلَ الذَّرِ منهُ، وصدقَ اللهُ العظيم: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)[الزلزلة: 7-8]، وقال تعالي: (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ)[الأنبياء: 94].
قال بعضُ الحكماءِ: "الدنيا ساعةٌ بينَ ساعتينِ؛ ساعةٌ ماضيةٌ، وساعةٌ آتيةٌ، وساعةٌ أنتَ فيهَا، فأمَّا الماضيةُ والباقيةُ فلا تجدُ لراحتِهمَا لذةً ولا لبلائِهمَا ألمًا، وإنَّما الدُّنيَا ساعةٌ أنتَ فيهَا فخدعتَك تلكَ الساعةُ، وصيَّرتكَ إلى الشرِّ، وإنَّما اليومُ إنْ عَقلْتَ ضيفٌ نزلَ بكَ وهو مرتحلٌ عنكَ، فإنْ أحسَنْتَ نُزلَهُ وقِراهُ شَهِدَ لكَ، وأثنى عليكَ بذلك، وصدقَ فيكَ، وإنْ أسأتَ ضيافتَه ولمْ تُحسِنَ قِراهُ جَالَ في عينيكَ، وصارَ وبالاً عليكَ، وشهدَ عليكَ بمَا لا يسرُّكَ.
وهمَا يومَانِ بمنزلةِ الأخوينِ نَزَلَ بكَ أحدُهمَا فأسأتَ إليهِ ولم تُحْسنَ قِراهُ فيمَا بينكَ وبينَه، ثمَّ جاءكَ الآخرُ بعدهُ، فقالَ لكَ: إنِّي قدْ جئتُكُ بعد أخي الذي أسأتَ إليهِ فإنْ أحسنتَ إلىَّ محوتُ إساءتكَ إلى أخي، وكفرَّتَ عمَّا مضى، وكانَ لكَ ما ختمتَ بهِ، وإنْ أسأتَ إلىَّ، فهذا دليلُ ضعفِ عقلِكَ، وعِظَمِ جَهلِكَ، وهوُ مؤذنٌ بهلاكِكَ.
عباد الله: ونحنُ في بدايةِ العامِ الجديدِ يتأكدُ في حقِّنَا أنَّ نتذكَر سرعةَ انقضاءِ الأيامِ وتصرُّمِ الأعوامِ، فهَا نحنُ اليومَ في شهرِ اللهِ المحرَّمِ، ثمَّ ما نلبثُ أنْ يأتيَ شهرُ ذيِ الحجِّةِ، وهكذا.. وكمْ من نفوسٍ بينهُمَا ستهلكُ؟ وكمْ منْ المتغيراتِ في أحوالِ الناسِ.
فسبحانَ مصرِّفِ الليلِ والنَّهارِ كيفَ يشاءُ، وقد أخبرَ رسُولنَا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ- عنْ سرعةِ تقاربِ الزمانِ، فقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَى يَتقَاربَ الزمانُ، فتكُونُ السنةُ كالشهرِ، والشهرُ كالجمعةِ، وتكونُ الجمعةُ كاليومِ، ويكونُ اليومُ كالساعةِ، وتكونُ الساعةُ كالضَّرَمَةِ بالنارِ"(رواه الترمذي).
فهنيئًا لمنْ أدركَ قيمةَ الزمنِ فاستعدَ لما أمامَه، أولئكَ هم العقلاءُ الأذكياءُ الأكياسُ الذينَ عمَّرُوا دُنيَاهُم بمَا ينفعُهم في أُخراهُم.
فالليلُ والنهارُ مراحلُ ينزلهَا الناسُ مرحلةً مرحلةً حتَّى ينتهيَ سفرُهم، والعاقلُ منْ الناسِ من يُقدُِّمُ في كلِّ مرحلةٍ زادًا ينفعُه في ثنيِّاتِ الطريقِ قبلَ انقطاعِ السفرِ ومباغتةِ الأجلِ، قالَ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ -رضي الله عنه- في آخرِ خطبةٍ لهُ: "إِنَّكمْ لمْ تُخلقُوا عبثًا ولنْ تتركُوا سدىً، وإنَّ لكم معَادًا ينزلُ اللهُ فيهِ للفصلِ بينَ عبادِه، فقدَ خابَ وخسرَ منْ خرجَ منْ رحمةِ اللهِ التَّي وسعتَ كلَّ شيءٍ وحُرِمَ جنَّةٍ عَرضُها السماواتُ والأرضُ".
وصدق الله العظيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المنافقون: 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما سمعتم، فاستغفروا الله يغفر لي ولكم انه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ النبيُّ الكريمُ مُحمدِ بنِ عبدِ اللهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتَّقُوا اللهَ -عبادَ اللهِ- واستغلُوا حَياتَكم بعبادةِ ربِّكم، واعمرُوهَا بالطَّاعةِ، واجتهدُوا بملءِ صحائفِ أعمالِكم بالحسناتِ؛ فالعمرُ قصيرٌ والأجلُ قريبٌ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
أيها المؤمنون: وفي هذَا الشَّهرِ الحَرامِ يُسَنُّ كثرةُ الصيامِ، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ"(رواه مسلم).
وفي هذا الشهرِ الحرامِ في اليومِ العَاشرِ منهُ نجَّى اللهُ -جلَّ وعلا- مُوسَى -عليهِ الصلاةُ والسلامُ- وقومَه من فرعونَ، فصامَ اليهودُ هذَا اليومُ شكرًا للهِ -جلَّ وعلا-، فلمَا قَدِمَ الرسولُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- المدينةَ ورآهم يصومونَ، قالَ: "أنَا أحقُّ بأخيِ موسَى -عليهِ الصلاةُ والسلامُ-"، فصامَ هذا اليومَ وأمرَ بصيامِه.
ويُتأكَدُ صيامُ التَّاسعِ والعاشرِ منهُ؛ لقولهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ"(رواه مسلم)، وقولُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في آخرِ حياتهِ: "لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ"(رواه مسلم).
ولو صامَ المسلمُ ثلاثةَ أيامٍ ففي ذلكَ فضلُ صيامِ التاسعِ والعاشرِ، وصيامِ ثلاثةِ أيامٍ منْ الشهّرِ، ولو صامَ المسلمُ العاشرَ فقط كفاهُ ذلك.
وفي هذا العامِ 1441هـ ثبتَ دخولُ شهرِ اللهِ المحرمِ يومَ السبتِ، فيكُونُ التَّاسعُ يومَ الأحدِ، والعاشرُ يومَ الاثنين.
أسأل اللهَ -جلَّ وعلا- أن يتقبَّلَ منَّا ومنكم صالحَ الأعمالِ.
هَذا، وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى، والنبيّ المجتبى؛ محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بذلك، فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي