أتدري مَن هو؟! إنه عاملُك في مؤسستِك أو مزرعتِك، إنه راعي بهائمِك. وإنَ أمثالَ هؤلاءِ لَيحتاجونَ إلى مشاعرَ نُقاسمُهم فيها البسمةَ والدمعةَ، يَتطلعونَ إلى أن نُحسَّ بآدميتِهِم ونُراعيَها، يُريدون أن نُشعِرهم بأنهم إخوةٌ فحسب! وأما الخادمةُ في البيتِ فهي أمٌّ!! لديها أطفالٌ! لكنهم هناكَ بل هنالِك!
الحمدُ للهِ الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا مِن لدُنه، وإن كانت آلاؤُهُ لا تُجارَى لا تُجازَى. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الحقُ المبينُ (فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ)، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولهُ الأمينُ. صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ البررةِ المتقينَ، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ؛ فتقواهُ خَلَفٌ من كلِ شيءٍ، وليسَ مِن تقوى اللهِ خَلَفٌ.
إنه شابٌّ له قلبٌ ينبضُ بالمشاعرِ، يتمنى شقةً يَمتلكُها ويَجمعُ فيها أُسرتَه، له وطنٌ يَشتاقُ إليه، له أمٌّ يحنُّ لنبرةِ صوتِها. انظر إليهِ والنعاسُ يغلبُه؛ سيذهبُ إلى غرفةٍ مزدحمةٍ بأمثالِه! ثم سيشتركُ معهم في طبخِ طعامهِ ليسدّوا جوعتَهم. هذا الرجلُ سيُلقِي بجسمهِ المكدودِ على فراشٍ بالٍ. يتخيّلُ نفسَه وقد جمعَ خلالَ سنواتٍ بضعةَ آلافٍ من الريالاتِ، يُحصلُها أحدُنا في شهرٍ واحدٍ؛ ليعودَ بعدما شابَ شعرهُ إلى أولادهِ ومَن تبقَى مِن والدَيهِ الذِين أضناهمُ انتظارُه.
أتدري مَن هو؟! إنه عاملُك في مؤسستِك أو مزرعتِك، إنه راعي بهائمِك. وإنَ أمثالَ هؤلاءِ لَيحتاجونَ إلى مشاعرَ نُقاسمُهم فيها البسمةَ والدمعةَ، يَتطلعونَ إلى أن نُحسَّ بآدميتِهِم ونُراعيَها، يُريدون أن نُشعِرهم بأنهم إخوةٌ فحسب!
وأما الخادمةُ في البيتِ فهي أمٌّ!! لديها أطفالٌ! لكنهم هناكَ بل هنالِك! وهي هنا؛ هنا في بيوتِنا، تنظفُ المطبخَ والأرضياتِ، وتغسِلُ الملابسَ والحماماتِ! هل تظنون أنها نسيَتْ أو سَلَتْ عن تَذكُرِ صِغارِها؟! لقد وَدعتهُم وضَمّتهُم في آخِر لحظةٍ بالمطارِ، وقلبُها يكادُ يذوبُ تحرُّقًا من ألمِ فراقهِم! وتزدادُ اللوعةُ كلما تذكّرتْ أن غَيبتَها ليست شهراً ولا شهرَيْن، بل سنتَيْن بأعيادِهما الأربعة!!
وبالرغمِ من هذه المشاعرِ في قلوبِ هؤلاءِ العمالةِ ذكورًا وإناثًا، إلا أن بعضَنا يتعاملُ معهم، وكأنهم آلاتٍ استورَدَها؛ لتعملَ فقط متى أرادَ.
والعاملُ إذا ظُلِمَ يَبتسمُ مقهورًا، ولسانُ حالهِ يقولُ: لولا الحاجةُ لما وَضعتُ نفسي في هذا المقامِ.
ومِن ظُلمِ العاملِ والخادمةِ: احتقارُهم أو شتمُهم، أو تكليفُهم بعملٍ شاقٍ لا يطيقونَه، أو إجبارُهم على العملِ في شدةِ القيلولةِ، أو ساعاتٍ إضافيةٍ بلا رضاهُم.
ومن صورِ الظلمِ الكبيرةِ: بيعُ تأشيراتِهم و(فِيَزِهِم)، والمماطلةُ برواتبِهم، أو نقصُها بلا حقٍ، أو مكاسرتُهم بعدما اتفق معهم. وقد قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أعطُوا الأجيرَ أجرَه قبل أن يجفَّ عَرَقُه"(رواهُ ابنُ ماجه وصححهُ الألبانيُ).
وقال النبيُ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قال اللهُ -عزَ وجلَ-: ثلاثةٌ أنا خصمُهم يومَ القيامة -وذَكرَ منهم رجلاً- استأجرَ أجيرًا، فاستوفَى منه ولم يُعطِه أجرَه"(أخرجهُ البخاريُّ)؛ أمَا وقد استوفيتَ منه العملَ أو بعضَه، فلماذا لم تَستوفِ له أجرَه ؟! فاحذر أن يكونَ اللهُ -تعالى- خصمَك في الموقفِ العظيمِ.
نعم؛ يوجدُ بحمدِ اللهِ نماذجُ كثيرةٌ مِن أربابِ العملِ والكفلاءِ ممن يَتعاملونَ مع عُمالهم بالصدقِ والعدلِ والإخلاصِ، حتى إن فيهم مَن يُعامِل عُمالَه كما يُعامِل أولادَه. وأما في البيوتِ فالغالبُ أنهم يَرعَون مشاعرَ الخادماتِ، ويُعطونهن حقَهن، بل ويَعفُون عن أخطائهِن الكثيرةِ: وقد صحَ أن رجلاً أتى النبيَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: إن خادمي يُسيءُ ويظلمُ، أفأضربُه؟ قال: "تعفُو عنه كلَ يومٍ سبعينَ مرة"(رواهُ الترمذيُ وصححَه)؛ ألا فليُبشر أولئكَ الراحمونَ برحمةِ الرحمنِ، وبالبركةِ في أهليهِم وأموالهِم.
فنَعَم؛ مجتمعُنا بعمومٍ يُقدِّر ذا الشيبةِ المسلمِ، ويوقرُه، والكثيرُ يُقبِّل رأسه.
نَعَم؛ نحن -بحمدِ اللهِ- نوسِّعُ لكبيرِ السنِ في المجلسِ، ونُفسِحُ له الطريقَ، ونُساعدُه على النهوضِ، ونُمسِكُ بيدهِ؛ ليسيرَ فلا يتعثرَ أو يتأخرَ.
نعم؛ قد نستمِعُ لقصصهِ وذكرياتهِ، ولو كرَّرها، ونؤْنِسُه بالمُجالسةِ والمُحادثةِ.
نعم قد نزورُه؛ لكرامتهِ، ونعودُه لمرضهِ وكِبرهِ.
نعم؛ إنها جميلةٌ محببةٌ كلُ هذهِ الأمورِ العشرةِ، وهي دليلٌ على حُسنِ المعاشرةِ.
ولكنْ ثَمَّة أمرٌ نغفلُ عنه كثيرًا في حقِ المُسنين ذوي الشيبةِ والُضعفاءِ في أبدانهِم. إنه إسداءُ المعروفِ دونَ إظهارِ المِنةِ والامتنانِ، ودونَ تَبَجُحٍ وإعلانٍ.
إنهم وإنهن يدعُونَ ويلِحُّونَ: اللهم لا تُحِوجْني لأحدٍ، كلُ ذلكَ منهم خوفًا من مِنَّة زوجةِ ولدٍ، أو حتى قريبٍ يَمُنُّ، أو ذي رحِمٍ يمْتَنُّ، وتلكَ لعمرُ اللهِ قاصمةُ الظهرِ على منِ احدودبَ منه الظَّهرُ.
وأُسوتهم في هذا قولُ الحقِ -سبحانَه-: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى)[الليل:19]، متَّبِعينَ ما صحَ مِن قولِ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اسْتَغْنُوا عَنِ النَّاسِ وَلَوْ بِشَوْصِ سِوَاكٍ"؛ أي: ما يَتفتتُ منه؛ أي: استغنُوا ولو بأقلِ القليلِ. ولذا قالَ جبريلُ لنبيِنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اعْلَمْ أَنَّ عِزَّ الْمُؤْمِنِ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ" وقال ابنُ حجرٍ: إسنادهُ حسنٌ.
ألا فليعِشْ كبارُ السنِ بينَنا بقيةَ أعمارِهم وهم رافعُو رؤوسِهِم، لا يَحتاجون لأحد بمِنة، ولا يَلجؤون إليه بذِلَّة.
اللهم اجعلنا وإياهُم ممن طالَ عمرُه وحسنَ عملُه.
اللهم بارك في أعمارِنا وأمدَّها على طاعتِك.
ربنا أوزعنا أن نشكرَ نعمتَك التي أنعمتَ علينا وعلى والدَينا وأن نعملَ صالحاً ترضاهُ وأدخلنا برحمتِك في عبادِك الصالحين.
اللهم ابسط على والدَينا من بركاتِك ورحمتِك وفضلِك ورزقِك. اللهم ألبسهما العافيةَ.
اللهم ارزقنا وإياهم عيشاً قارَّاً، ورزقاً دارَّاً، وعملاً بارَّاً.
اللهم اجعل مليكَنا ونائبَه وأمراءَه ووزراءَه وجنودَنا في ضمانِك وأمانِك وإحسانِك.
اللهم احفظ بلادَ الحرمين بثباتِها وثرواتِها، وخيراتِها وخبراتِها، ورجالاتِها، ومجالاتِها.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي