إن إسلامنا -والحمد لله- درَّب أتباعه على خلقين كريمين, درَّب أتباعه إن كانوا أغنياء على الجود والكرم حتى أوصلهم إلى درجة الإيثار, وإن كانوا فقراء درَّبهم على خلق العفَّة والزهد بما في أيدي الناس, حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفُّف. سمة إسلامنا أنه...
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن إسلامنا -والحمد لله- درَّب أتباعه على خلقين كريمين, درَّب أتباعه إن كانوا أغنياء على الجود والكرم حتى أوصلهم إلى درجة الإيثار, وإن كانوا فقراء درَّبهم على خلق العفَّة والزهد بما في أيدي الناس, حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفُّف.
سمة إسلامنا أنه دينٌ كامل لا يستدرك عليه أحد من الخلق, قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)[المائدة: 3].
بهذا الشرع العظيم المبارك عالج نفوس الأغنياء, فجعلها سخيَّة جوادة كريمة حتى وصلت إلى درجة الإيثار, وعالج نفوس الفقراء فجعل فيها العفَّة, فالجواد سخيٌّ يحبُّه الفقير ويدعو له ويبارك له فيما آتاه الله, والفقير يحبُّه الغني, يقرِّبه منه ويدنيه إليه ويشعر بشعوره, ما أجمل هذا المجتمع بهذا الشكل إذ يكون مترابطاً.
وأما المجتمع الذي فيه: الأغنياء بخلاء, والفقراء حاقدون, الكلُّ يبغض الكلَّ, والكلُّ حذِرٌ من الكُلِّ, فبئس هذا المجتمع, وباطن الأرض خير من ظهرها, قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ, وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ, وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ, فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا. وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ, وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ, وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ, فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا"(رواه الترمذي).
وقد يتساءل البعض: كيف عالج الإسلام نفوس أتباعه حتى جعل منها نفوساً سخيَّة تعطي عطاء من لا يخشى الفقر؟
أقول -وبالله التوفيق-:
أولاً: رغَّبهم بالإنفاق ليلاً ونهاراً سراً وعلانية: وجعل النَّفَقة شغلهم الشاغل, لا يفرِّقون بين وقت وآخر, ولا بين حال وأخرى, يعطون في النهار كما يعطون في الليل, ويعطون جهراً كما يعطون سراً طمعاً بتحقيق أمور ثلاثة:
1- أن يكون أجرهم على الله -تعالى-, ومن وقع أجره على الله فقد عظم أجره.
2- أن ينفوا عن أنفسهم الخوفَ من المستقبل, خوف الفقر, فجعلوا عقود التأمين بينهم وبين الله -تعالى-, لا بينهم وبين العباد, حيث هذه العقود بجميع صورها وأشكالها عقود غرر ومقامرة لا تجوز, الناس جعلوا شركات تأمين لينفوا عن أنفسهم الخوف من المستقبل, ولكن هيهات هيهات أن يحقِّقوا لأنهم هذا, بل هم موعودون بالمحق والإتلاف لأنها مبنيَّة على أساس من المقامرة.
3- أن ينفوا عن أنفسهم الحزن في حال العطاء؛ لأن الآمر ضامن, فعندما آمنوا بأن الله -تعالى- هو الواعد الذي لا يخلف وعده, امتثلوا أمرَه في الإنفاق؛ لأنهم على ثقة بأنه ضامن لنتائج أوامره, ومن يقدر على ذلك إلا الله -تعالى-؟
لذلك حرَّضهم على الإنفاق في سائر الأزمان والأحوال, وضمن لهم النتائج, فقال: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة: 274].
ثانياً: حرَّضهم على الاقتصاد في النَّفَقة على أنفسهم: الإسلام حرَّض أتباعه على الاقتصاد في الإنفاق على أنفسهم, حتى لا تذهب أموالهم كلُّها على نفوسهم؛ لأن من الواجب عليهم أن يُشرِكوا غيرهم فيما آتاهم الله -عز وجل- من فضله, وأن يجعلوا من رزق الله لهم إسعافاً لأصحاب الحاجة، روى الإمام مسلم عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ, وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ, وَلا تُلامُ عَلَى كَفَافٍ, وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ, وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى".
المسلم لا يُلام إذا عاش على الكفاف, ولكنَّه يُلام إذا بذَّر ماله؛ لأنه بتبذير المال يضيِّع حقوق الله -تعالى- وحقوق العباد, لذلك قرن الله -تعالى- بين هذين الأمرين:
الأمر الأول: إيتاء ذوي القربى حقهم الشرعي.
والأمر الثاني: النهي عن التبذير, فقال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[الإسراء: 26 - 27].
بل أمر الله -تعالى- المسلمَ إذا جاءه صاحب الحاجة وسأله ولم تكن الأمور ميسَّرة عند المسؤول, أمره أن يردَّه بميسور من القول؛ فقال تعالى: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا)[الإسراء: 28].
ثالثاً: عرَّفهم ثمرات العطاء: الإسلام عرَّف أتباعه على ثمرات هذا العطاء, ومن خلال ما علموا صاروا أسخياء كُرَماء, بل وصلوا إلى درجة الإيثار, ومن هذه الثمرات:
1- السخي قريب من الله -تعالى-, روى الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهِ, قَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ, قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ, بَعِيدٌ مِنْ النَّارِ, وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ, بَعِيدٌ مِنْ الْجَنَّةِ, بَعِيدٌ مِنْ النَّاسِ, قَرِيبٌ مِنْ النَّارِ, وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ -عز وجل- مِنْ عَالِمٍ بَخِيلٍ".
2- المال لا تنقصه الصدقة, روى الترمذي عن أبي كبشة الأنماري -رضي الله عنه-, أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ, وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ, قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ, وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا, وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ".
3- المنفِق يُنْفَق عليه؛ كما جاء في صحيح البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "قَالَ اللَّهُ -عز وجل-, أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ, وَقَالَ: يَدُ اللَّهِ مَلأَى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ, سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ, وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ, وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ, وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ".
وهذا تأكيد على قوله تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39].
رابعاً: عرَّفهم بأن البخيل بالحقوق لا يأتي بخير: الإسلام عرَّف أتباعه بأن البخل والشحَّ والضَّنَّ بالحقوق -حقوق الله والعباد-, وكنزَ المال خوفاً من الفقر على الأولاد, فإنه لا يمحو فقراً ولا يضمر غنى, ولا يقبل من صاحبه يوم القيامة عذراً؛ روى الطبراني عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نشر الله عبدين من عباده أكثرَ لهما المالَ والولد، فقال لأحدهما: أي فلان بن فلان, قال: لبيك ربِّ وسعديك, فقال: ألم أكثر لك من المال والولد؟ قال: بلى أي ربِّ, قال : وكيف صنعت فيما آتيتك؟ قال: تركته لولدي مخافة العَيْلَةِ عليهم, قال: أما إنك لو تعلم العلم لضحكت قليلاً ولبكيت كثيراً، أما إن الذي تخوَّفتَ عليهم قد أنزلتُ بهم. ويقول للآخر: أي فلان بن فلان, فيقول: لبيك أي ربِّ وسعديك, قال له: ألم أكثر لك من المال والولد؟ قال: بلى أي ربِّ, قال: فكيف صنعت فيما آتيتك؟ قال: أنفقتُ في طاعتك، ووثقت لولدي من بعدي بحسن طَوْلِك, قال: أما إنك لو تعلم العلم لضحكت كثيراً ولبكيت قليلاً ، أما إن الذي وثقتَ لهم به قد أنزلتُ بهم".
أيها الإخوة الكرام: اغتنموا شهر المواساة لصلة أرباب الحاجات, وتذكَّروا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة, كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه"(رواه ابن خزيمة).
أدوا زكاة أموالكم, وأدوا صدقة فطركم التي فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "فَرَضَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَدَقَةَ رَمَضَانَ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى, صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ".
اللهمَّ اشرح صدورنا للعطاء, وتقبَّل منا, ولا تحرمنا خير ما عندك بسوء ما عندنا يا أرحم الراحمين.
أقول هذا القول، وكلٌّ منا يستغفر الله, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي