لا يخفى على كل ذي بصيرة عظيم قدر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهم أعدل الخلق وأقربهم إلى الحق -سبحانه وتعالى-، وأكثرهم صلاحاً وأكملهم هدياً، وأحسنهم خلقاً، وأعلاهم عند الله في الدارين بعد أنبيائه منزلة، من اهتدى بهم...
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن خير الخلق بعد الأنبياء والرسل هم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهم وأرضاهم؛ فهم حملة الحق والدعاة إليه، واللذين بذلوا الغالي والنفيس لإعلاء كلمته، وانتشار نوره وبركته، صدقوا الله في الديانة فشرفهم بحمل الأمانة؛ فينبغي للمسلم أن يعرف قدرهم ويتأسى بهم فهم كالنجوم يهتدى بهم في معرفة الحق المبين -فرضي الله عنهم أجمعين-.
ولما كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك حازوا المكانة الرفيعة في الدنيا والآخرة؛ فهم أطهر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها فقها، وأقومها هديا، وأحسنها سبيلا اختارهم الله لرفقة نبيه -صلى الله عليه وسلم- والدعوة إلى دينه؛ فقد روي عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللَّهَ اختارَ أصحابي على العالَمينَ سوى النَّبيِّينَ والمرسلينَ واختارَ لي من أصحابي أربعةً يعني أبا بَكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليًّا رحِمَهمُ اللَّهُ فجعلَهم أصحابي".
أيها المسلمون: اعلموا أن للصحابة الكرام مزايا وفضائل سبقوا بها من دونهم، ومن تلك الفضائل:
أن قرنهم خير القرون، وقد روى الإمام البخاري عن عمرانَ بنِ حُصَينٍ -رضي الله عنهما- قال: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وكونهم عاشوا في القرون المفضلة؛ فهم أحسن هديا وأكملهم عملا وبرا وأصدقهم تمسكا بالحق الصافي الذي شاهدوا نزوله وشاهدوا نوره.
ومن فضائلهم: أنهم صفوة خلق الله -تعالى- بعد النبيين -عليهم الصلاة والسلام- قال -تعالى-: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)[النمل: 59]، قال جمع من أهل التفسير: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، يقول ابن مسعود –رضي الله عنه-: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوبَ أصحابهِ خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وزراءَ نبيهِ يُقاتِلون على دينه".
ومن ذلك: أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، قال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الفتح: 29].
كما أن مما حازوه من الفضائل: تخلقهم بخلق الإيثار مع إخوانهم المسلمين، قال -تعالى-: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَـاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـارِهِمْ وَأَمْولِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْونًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الصَّـادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَلإيمَـانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:8- 9].
وهم السابقون في الدنيا والآخرة: قال الله -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة:100].
أيها المسلون: فتلكم إشارات سريعة عن منزلة صحابة رسول الله -صلى الله عليهم وسلم- وبعض فضائلهم والواجب على المسلم بعد معرفة ذلك أن يقدر الصحابة حق قدرهم وأن ينزلهم المنزلة التي استحقوها من الله العليم ورسوله الكريم وأن يرعى لهم حقوقهم التي أوجبها الإسلام على من بعدهم من عموم الأمة المسلمة؛ فمن تلك الحقوق:
توقيرهم ومحبتهم والثناء عليهم، والاهتداء بهديهم؛ فهم كالنجوم كما وصفهم بذلك الحبيب -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: "أَصحابي كالنُّجومِ بأيِّهم أخذتُم اهتديتُم"(رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله).
قال ابن مسعود -رضي الله عنه- عن صحابة رسول الله "فحبهم سنة والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة".
ومن حقوقهم على سائر الأمة: الترضي عليهم والاستغفار والدعاء لهم؛ عملا بقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر:10].
ومن حقوقهم كذلك: كف الألسن عما حصل بينهم من التشاجر والخلاف؛ فهم أئمة أولياء الله اللذين توعد الله من آذاهم بالحرب؛ حيث قال في الحديث القدسي: "مَن عادى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ"(رواه البخاري)؛ فيجب على المسلم أن يمسك لسانه عن الخوض في ما حصل بينهم، وألا ينجر وراء الدعوات الفاسدة التي تقلل من شأنهم، وتُفاضِل بينهم وفق الهواء بغية طمس الحق والهدى؛ فإن في ذلك طعن في تزكية الله لهم ورضاه عنهم جميعا؛ (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)[النساء: 95].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: اعلموا أن الصحابة يتفاوتون في المنازل والمقامات؛ فأفضلهم أبي بكر ثم عمر -رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وسلم-: "خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكر ثمّ عمر"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اقتَدوا باللّذَين من بعدي: أبي بكر وعمر"، وفي صحيح مسلم أنّ أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- كانوا في سفر فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا".
كيف لا يكون الصديق -رضي الله عنه- الأفضل وقد كان الصديق الأول لخير الأنام في الجاهلية والإسلام، وأول من أجاب دعوته من الرجال وكان رفيقه في الإقامة والارتحال، وكم أوذي في الله يوم بزوغ فجر الإسلام وكم بذل لنجاح هجرة المصطفى -عليه السلام-، وكم له من التضحيات العظام لنصرة دين الإسلام.
ويأتي بعد الصديق الفاروق عمر بن الخطاب وذي النورين عثمان بن عفان ثم رابع الخلفاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم جميعا-، ثم العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة -رضي الله عنهم-، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة.
أيها المسلمون: ما أحوجنا إلى أن نلتزم منهج أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله، كما يجب علينا الاقتداء بهم، فإن في ذلك امتثالا لأمر الله ورسوله؛ كما أن في العدول عن ذلك مشاقاة لله ورسوله وانحراف عن سبيل المؤمنين الذي توعد الله من فعل ذلك بسوء المصير وعذاب السعير؛ فقال -جل في عليائه-: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء: 115]؛ ففي ذلك السلامة والنجاة.
فاحفظوا -أيها المؤمنون- لصحابة نبيكم قدرهم وأنزلوهم منزلتهم التي نالوها، وأحبوهم لمحبة الله ورسوله لهم، وابتعدوا عن الخوض في كل ما يؤدي إلى التقليل من شأنهم؛ فهم والله خير جيل عرفته البشرية وأقربهم إلى رب البرية.
اللهم ارض على الخلفاء الأربعة الأطهار والمهاجرين والأنصار وسائر الصحابة الأخيار.
اللهم اجعلنا ممن أحبهم وسار على نهجهم واقتفى أثرهم.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم الله في كتابه العزيز؛ فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي