التحذير من الكهنة والدجالين

عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان
عناصر الخطبة
  1. من أعظم عطايا الله للإنسان العلم والعقل .
  2. الحكمة في استئثار الله بعلم الغيب .
  3. ضلال من يدعي علم الغيب وكذبه .
  4. دجل السحرة والكهان بلاء واختبار .

اقتباس

لا يجتمع في قلب عبد إيمانٌ بالقرآن الكريم، وتصديقٌ لهؤلاء الكهنة الدجَّالين؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أتى كاهِنًا أو عرَّافًا فصَدَّقَه فيما يقول فقد كفَر بما أُنزِلَ على محمد"؛ فتحصَّنوا بعقيدتكم، وتمسَّكوا بقرآنكم...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي هدانا للإيمان، وأوضح لنا معالم الحق والبرهان، وأرسل الرسل وأنزل معهم الكتاب والميزان، أشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، شهادة حق بصدق وإيمان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بُعِثَ إلى الإنس والجانِّ، فأنقذنا اللهُ به مِنْ وَحْلِ الضلالِ، ونجَّانا به من دَرَكات الكفر والخسران، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 131].

معاشر المسلمين: إنَّ الله منَح الإنسانَ وسائل يُكتَسَب بها العلمُ، ووهبه العقلَ والفهمَ، وأَذِنَ له في التعلُّم فقال: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[الْعَلَقِ: 3-5]، لقد اختار الله الإنسانَ ليستخلفه في الأرض؛ فوهَبَه العلمَ مناط العمل والتشريف، ومنَحَه العقلَ مناطَ الخطاب والتكليف، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 30]، وبيَّن سبحانه فضلَ العلم وشرَفَه فقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[الْمُجَادَلَةِ: 11].

عباد الله: إن الإنسان يُولَد جاهِلًا لا يعلم شيئًا، قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)[النَّحْلِ: 78]، وقد رفَع الله الحُجُبَ عن قليل من العلوم فأَذِنَ للعباد في تناولها، ومعظم العلم قد غاب عن إدراك البشر، قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 85]، واستأثر سبحانه وتعالى بعلم الغيب فأخفاه، وحجَبَه فلا يعلم تأويلَه إلا اللهُ، (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)[الْأَنْعَامِ: 59]، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مفاتيحُ الغيبِ خمسٌ لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحامُ إلا الله، ولا يعلم ما في غَدٍ إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطرُ أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفس بأيِّ أرضٍ تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" ثم تلا: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الْأَنْعَامِ: 59](رواه البخاري).

عباد الله: إن من حكمة الله وسننه أن حَجَبَ الغيبَ عن خلقه، بل وعن أحَبِّ عبادِه إليه، فلا يعلمه مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرسَلٌ، (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)[النَّمْلِ: 65]، وأمَر رسولَه -صلى الله عليه وسلم- أن يفوِّض الأمورَ إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلَعَه اللهُ عليه، قال تعالى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)[الْأَعْرَافِ: 188].

معاشرَ المسلمينَ: تتطلع النفوس إلى عالم الغيوب، وكل محجوب مرغوب، فمنهم من تستذله الشياطينُ وأعوانهم الأفَّاكون، فبالكهانة والعِرَافة والتنجيم والسحر يفترون ويكذبون، ويقولون على الله ما لا يعلمون، (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الْأَعْرَافِ: 33]، ولقد كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتستَرِقُ السمعَ وتُخبر أعوانَهم بذلك، فيتنبأ أعوانُهم للناس، ألَا وإنَّ الشياطين مُنِعُوا من استراق السمع، وحِيلَ بينَهم وبينَه منذ بعثة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولقد أخبر القرآنُ بذلك عنهم فقال: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)[الْجِنِّ: 8-9]، وقال تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 210-212]، فقد منَعَهم اللهُ من التسمُّع إلى الملأ الأعلى، وجعَل الكواكبَ شُهُبًا يُرجَمون بها من كل جهة يقصدون السماءَ منها، قال تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ)[الصَّافَّاتِ: 6-10].

عباد الله: لا يجتمع في قلب عبد إيمانٌ بالقرآن الكريم، وتصديقٌ لهؤلاء الكهنة الدجَّالين؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أتى كاهِنًا أو عرَّافًا فصَدَّقَه فيما يقول فقد كفَر بما أُنزِلَ على محمد"؛ فتحصَّنوا بعقيدتكم، وتمسَّكوا بقرآنكم، واعلموا أن الله عالم الغيب، فلا يُظهر على غيبه أحدًا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبِيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله: لقد امتُحِنَ الناسُ بدَجَل الكهنة والسحرة والعرَّافين والمشعوذين، فتسلَّطوا على الضعفاء، وتربَّصوا بهم واستهزؤوا بعقولهم غايةَ الاستهزاء، حتى التجؤوا إليهم في السراء والضراء، وصدَّقوهم في علم الغيب وخبر السماء، وقد ثبَت النهيُ عن إتيانهم وتصديقهم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أتى عرَّافًا أو كاهِنًا فصَدَّقَه فيما يقول فقد كفَر بما أُنزِلَ على محمد -صلى الله عليه وسلم-"، وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس مِنَّا مَنْ تطيَّر أو تُطِيَّر له، أو تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ له، أو سَحَرَ أو سُحِرَ له".

عباد الله: إن الشياطين بضاعتُهم الكذبُ والافتراءُ، قال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 221-223]، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سأل ناسٌ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن الكُهَّان فقال: "إنهم ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثوننا أحيانا بالشيء فيكون حقًّا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكُر الأمرَ قُضِيَ في السماء، فتسترق الشياطينُ السمعَ فتسمعه فتُوحيه إلى الكُهَّان، فيكذبون معها مائةَ كذبةٍ من عند أنفسهم"، وفي رواية: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنيُّ فيُقِرُّها في أُذُن وَلِيِّه قَرَّ الدجاجةِ، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة"(متفق عليه).

معاشر المسلمين: إن شياطين الإنس والجن حلفاء، وهم لكم أعداء (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)[الْأَنْعَامِ: 112]، وقد توعَّدَهم اللهُ جميعًا فقال: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)[الْأَنْعَامِ: 128].

وبعدُ معاشرَ المسلمينَ: فإن الله هو المتفرِّد وحدَه بعلم الغيب، فمن ادَّعى مشاركةَ الله في شيء من ذلك فقد جعَل لله شريكًا وكذَب على الله ورسوله، ألَا وإنَّ مَنْ ترَك طاعةَ الله إلى طاعة غيره واتَّبَعه في أمر دينه فقد أشرَك بالله -تعالى-، (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)[الْأَنْعَامِ: 121]؛ فاستمسِكوا بدينكم وعقيدتكم، فأنتم على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالكٌ.

اللهم يا مقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك، اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، وانصر عبادَكَ الموحِّدينَ، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقك، وأيِّده بتأييدِكَ، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا هنيئا مريئا، سحًّا غَدَقًا، نافعا مجللا غير ضار، اللهم تحيي به البلاد وتجعله بلاغا للحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي