ومقتضى حكمة الله ألاَّ يَخلُقَ الشيءَ عبثاً دون نفعٍ أو جدوى؛ فمِنَ المُؤكَّد أنَّ ثمَّة منفعةً من ورائه للبشر، عَلِمَها مَنْ عَلِمَها وجَهِلَها مَنْ جَهِلها. وما علينا إلاَّ أنْ نتأمَّل هذه الآلام، وندرُسَها بشيء من التعمُّق؛ لِنَعرِف ثمارَها وفوائدَها، أو الحكمةَ منها...
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده:
وبعد: فقد أنعم الله -تعالى- على الإنسان بنعمه الوفيرة، فقال -سبحانه-: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا)[إبراهيم:34]، وقد يَكْفُر المرءُ ببعض هذه النعم جاهلاً أو غافلاً، فقد يبدو الشيءُ في ظاهره نقمةً لكنه في حقيقته نعمة؛ كالآلام الذي تُصيب الإنسان، ومن الألم ما له وجهان، ونحن لا نرى إلاَّ وجهاً واحداً، وهو جانب الشقاء والعذاب.
وتتنوع أسباب الألم؛ فبعضها جسدي، والآخر نفسي. فأما الأسباب الجسدية فمثل الجوع، والعطش، والجروح، والحروق ونحوها. وأما الأسباب النفسية فمثل القلق، والهم، والمخاوف ونحوها. والناس -عادة- يقرنون الألمَ بالإصابات الجسدية أو المرض، مُتناسين أن الأحاسيس أو العواطف يُمكن أنْ تُسَبِّب ألماً أيضاً.
ولا شك أنَّ تحديدَ سببِ الألم ومعرفةَ مصدرِه بدقة من الأمور الضرورية لعلاجه أو الوقاية منه مستقبلاً؛ لذا أوصى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عثمانَ بنَ أبي العاص -رضي الله عنه- وكان يشكو وجَعاً في جسده بتحديد موضِعِ الألمِ والمباشرةِ في علاجه بالرُّقية بقوله: "ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ - ثَلاَثًا. وَقُلْ - سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ"(رواه مسلم).
عباد الله: تتنوَّع الآلامُ حَسَبَ شدتها وضعفها إلى آلام ضعيفة، وآلام متوسطة، وحادة. وتنقسم الآلام حَسَبَ المدة الزمنية إلى آلامٍ قصيرة الأجل -وهذه تزول بمجرد زوال السبب أو المؤثر، وبعضُها آلامٌ مُزمِنة- تدوم وقتاً طويلاً، وتُعاوِد صاحبَها كلَّ فترة زمنية.
ويدخل المريضُ -الذي يُعاني من هذه الآلام المُزمِنة- في دوَّامةٍ ودائرةٍ مُتَّصلة من الآلام؛ فتوقُّعُه للآلام وانتظارُه لها يُسَبِّب له آلاماً نفسيةً، فتُصبح حياتُه عبارة عن سلسلة من الآلام المُتَّصلة يُسلِم بعضها إلى بعض.
وكثير من الناس يَقْرِن الألمَ بالشر، أو الإحساسِ بالبُغض، فهل هذا يدل على أنَّ الألم -في جميع أحواله- شرٌّ محض؛ فلا يُرتَجى منه نفعٌ أبداً؟
فيقال -جَواباً على ذلك-: إنَّ الله -تبارك وتعالى- هو خالِقُ كلِّ شيء، والألمُ شيءٌ من الأشياء، ومن صفاته -سبحانه- أنه حكيم وخبير، ومقتضى حكمة الله ألاَّ يَخلُقَ الشيءَ عبثاً دون نفعٍ أو جدوى؛ فمِنَ المُؤكَّد أنَّ ثمَّة منفعةً من ورائه للبشر، عَلِمَها مَنْ عَلِمَها وجَهِلَها مَنْ جَهِلها. وما علينا إلاَّ أنْ نتأمَّل هذه الآلام، وندرُسَها بشيء من التعمُّق؛ لِنَعرِف ثمارَها وفوائدَها، أو الحكمةَ منها.
أيها الكرام: ومن أبرز فوائد الألم:
1- أنَّ فيه وقايةً من آلامٍ أكبر: فبالرغم من أنه إحساسٌ غير مرغوب فيه؛ لكنه يُشبه ناقوس الخطر، ويؤدي إلى أعمال عصبية انعكاسية تهدف إلى حماية الجسم، فالإحساس بالألم يُجبر الإنسانَ على الراحة واستشارةِ الطبيب؛ مما لا يترك الفرصة للمرض حتى يستفحل، فيصعب علاجه.
وكذا الحال بالنسبة للألم النفسي، فإنَّ الألم النفسي -الناشئ عن خوف العبد من عذاب الله تعالى- يقيه من الوقوع في العذاب الأليم في الدنيا أو الآخرة؛ وقد وُصِفَ العذابُ بكلمة "أليم" في القرآن الكريم في اثنين وسبعين موضعاً.
2- تطهير المسلمِ من الآثام والذنوب: فالألم ذو فائدة عظيمة؛ فهو ابتلاء من الله -تعالى-، والابتلاء مع الصبر نعمةٌ تستوجب الشكر، واللهُ -تعالى- إذا أحبَّ عبداً ابتلاه، وأشدُّ الناس بلاءً هم الأنبياء؛ فعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: "الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا؛ اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ؛ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ"(رواه الترمذي وابن ماجه).
فالألم يصهر مَعْدِن المسلم، فتصفو رُوحه، ويزكو خُلُقُه، وتَطْهُر نفسه؛ فألم الابتلاء سبيلٌ إلى لذةِ التَّقوى ونعيمِ القرب من الله، وهل يبرق الذهبُ إلاَّ إذا ذاق آلامَ النار؟
3- الألم يُصحِّح مسار المسلم، ويُفيقُه من غفوته: فيرجع عن سالف عهده من الذنوب والمخالفات، فمِنْ رحمة الله -تعالى- أنه جعل الآلامَ نذيراً لخطر داهمٍ وعقوبة شديدة. فإذا أفاق العبدُ وتضرَّع إلى الله رَفَعَ عنه الضر. قال -سبحانه-: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)[الأعراف:94].
4- الآلام تُنمِّي نِعمةَ الإحساسِ بالآخَرين: فنُقَدِّم لهم يدَ العون والمساعدة، فيتحقق بذلك التكافل الاجتماعي؛ فالغني يتألَّم للفقير فتكون الصدقة والزكاة، والمُقتدِر يتألَّم للمعوزين فتكون المشروعات الخيرية، والقوي يتألم للضعيف فيكون العون والمساعدة.
5- الآلام تُقوِّي العزيمةَ والإرادة: فيكتسب المرءُ حصانةً من آلام الحياة، ويستمد من مقاومتها قوةً وصلابةً يستطيع بها مواجهة صعوباتِ الحياة وظروفِها القاسية؛ فألم الإخفاق يُبَصِّر صاحبَه بطريق النجاح، وألم الندم على المعصية يقود إلى لذة الطاعة، وألم الفقر يخطو بصاحبه صوب الغِنى والثراء.
عباد الله: ولا يكون الألمُ نعمةً حتى تتوفَّرَ فيه عِدَّة شروط:
1- الإيمان بالقضاء والقدر: وبأنَّ هذه الآلام من قضاء الله وقَدَره، قال -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التغابن:11].
2- التَّحلي بالصبر: قال الله -تعالى-: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)[لقمان:17]. ولمَّا صبر أيوب -عليه السلام- على الآلام المرض والابتلاء؛ جعل اللهُ -تعالى- عاقبته خيراً، وتأمَّلْ كيف امتَدَحه اللهُ -تعالى- بقوله: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص:44].
3- احتساب الأجر عند الله -تعالى-: فالألم والوجع والتَّعب يُصيب المسلمَ والكافرَ، ويتألَّم منه الجميع؛ كما قال -سبحانه-: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ)[النساء:104]؛ فالمُسلمَ له مَزِيَّةٌ، فهو يرجو ثوابَ الله، ويحتسب الآلامَ التي تُصيبه عند الله -تعالى-، ويرجو من اللهِ الرحيمِ -سبحانه- أن يُكفِّر بها عن سيئاته، أو يرفعه درجات في جنات النعيم، فلا يصح أنْ يكون المسلمُ أضعفَ من الكافر، وهو يؤمن بالله -تعالى-، ويرجو ثوابَه، ويخاف عقابه.
4- قوة الإرادة: حتى يمكن تحمُّل الآلام؛ فلو استسلم لآلامه لَدَبَّ اليأسُ في قلبه، وتحوَّل الألمُ إلى نِقمة عليه، فنراه يقنط من رحمة الله، وتُثبَّط همته. فيجب على المرء أنْ يعتني بتقوية إرادته، وتدريب نفسِه على تحمُّل آلامِ الحياة وصعابِها، ثم عليه أنْ يتخطى هذه الآلام ويتناساها؛ لِيَتَّجِهَ إلى العمل النافع، والإنتاج المُثمر.
5- الأخذ بالأسباب في معالجة الألم، والتخلُّصِ من أسبابه: فإهمال الألم يؤدِّي إلى اشتداده واستفحاله، وحينئذٍ قد لا يُجدي معه علاج، ولا تنفع معه أيَّة مقاومة، فتَخُور القُوى، ويتحوَّل المرء إلى طاقة مُعطَّلة، فيعجز عن مواصلة الكفاح في هذه الحياة.
6- حُسن التقديرِ، وُبعد النظر: فينبغي على المسلم أنْ يُحسن تقديرَ آلامِه وتشخيصَها، وكذا تقدير الوسيلة والوقت اللاَّزِمَين لعلاج الألم ومقاومته، والإنسانُ من طبعِه التَّعجُّل: (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)[الأنبياء:37].
ثم عليه أنْ يتحلَّى بِبُعْدِ النظر؛ فالشفاء من الآلام بقَدَرٍ معلوم، وقد جعل الله لكلِّ شيءٍ قَدْراً؛ فعلى المرء أنْ يسعى، وليس عليه إدراكُ النجاح.
فإذا ما توافرت هذه الشروط فعندئذ يكون الألمُ نعمةً، يُثاب عليه المسلم، ويُصبح باعثاً للهِمَم، ومُحرِّكاً للطاقات البنَّاءة، ومُثيراً للعقول المُبدِعة، فهو نِعمةُ من الله -تعالى-، وسِرٌّ من أسرار النجاح في الحياة، نسأل اللهَ -تعالى- العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي