أمَا آنَ للضعفة الأتباع أن يتبرؤوا من متبوعيهم الظالمين والمفسدين، وألا يكونوا أداة لهم في إيذاء الناس أو ظلمهم في دم أو مال أو عِرْض؛ فهذا أوان الإنابة والبراءة من الظالمين قبل أن يتبرؤوا منهم في الدنيا وفي يوم القيامة، وهم في النار يختصمون.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: من كتاب الله نستلهم العِبَر، ومن سُنّة الهادي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسيرته نستقي الدروس ونستخرج الدرر، وعلى ضوئهما وهديهما نحدد المواقف من الأحداث ونقرّر وجهات النظر، وقد قال ربنا عن كتابه: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)[الأنعام:38]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها؛ لا يزيغ عنها إلا هالك".
ومن حكمة الله -تعالى-، بل من رحمته، أن جعل الآيات والأحكام القدرية الكونية شاهد عدل، ودليل صدق على أن آياته الشرعية الدينية حق، كما قال سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[فصلت:53].
فمهما ارتاب أناس في شرع الله، أو خالفوه أو جزَّأوه أو غفلوا عنه أو كفروا به؛ فإن أحكام القدر تجيء إليهم بأحداثها وأحوالها، لتثبت أن مُنَزِّل هذا الشرع هو مُنزِّل الأقدار ومسبِّب الأسباب، الذي ضمن السعادة في الدارين لمن أطاع رسله، وبشَّر بالشقاوة من خالفهم، وأنذرهم ضَعَةً وضيعة وضعفاً.. فهم في فتنة مقدّرة على قدر مخالفتهم. قال -تعالى-: (فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور:63].
إن آيات الله وأحاديث رسوله هي رسائل للأمة تتجدد مع الأحداث وسنن لا تتبدل مع مرور الأيام؛ (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[الأحزاب:62].
إنه ما من حدث يحدث في هذا العالم، ولا نازلة تنزل بالأمة، ولا خَطْب يحل بها إلا وفي هدي الوحيين له إشارة وتذكير، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ولتستبين سبيل المجرمين، وليبين لكم ربكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، وليكون بيانًا للناس؛ (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[إبراهيم:52].
في عالم اليوم أحداث متجددة، صراعات ونزاعات، تبدُّلات وتغيرات، وربنا كل يوم هو في شأن، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء، ويُعز من يشاء، ويُذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ومن معين الوحيين أنهل رسائل لتكون نبراسًا نستضيء به، ونهتدي في دياجير الحيرة وظلمات الشكوك واليأس والإحباط:
الرسالة الأولى من رب العالمين ونصها (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[يونس:27].
إنها رسالة تقرّر مصير الظالمين، ومآل المجرمين الذين اتخذوا الظلم لهم شعارًا وعنوانًا؛ إنهم الظالمون لأُمّتهم في دينها وشريعتها، إنهم الظالمون لأوطانهم في أمنها واستقرارها، إنهم الأزواج الظالمون لزوجاتهم والآباء الظالمون لأبنائهم والأبناء الظالمون لوالديهم وأهليهم، إنهم الظالمون لإخوانهم المسلمين في حقوقهم وأعراضهم، والظلم مراتب ودركات.
إنها رسالة لكلّ ظالم وباغٍ في الأرض فسادًا تقول لهم بأن الظلم مرتعه وخيم، و"إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، وأن الظالم مهما طال ظلمه فله يوم يجد فيه عاقبة ظلمه عاجلاً أو آجلاً (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إبراهيم:42].
إنها رسالة لكل مَن ظَلَم ليفتّش عن قلبه ويطفئ جذوة الظلم والطغيان بماء العبودية لله -تعالى-، والخضوع له واتباع شريعته التي أمرت بالعدل والإحسان ونهت عن الظلم والطغيان.
رسالة القرآن تنادي (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ)[الأنبياء:11]، ورسالة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تعلن "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
القرآن ينادي (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)[الكهف:59] وينذر (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود:102]، ويهتف (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت:40]، ويؤكد أن خراب الأمم وزوال الدول إنما يكون بالظلم والطغيان (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[النمل:52].
ذهبت لذَّات الظالمين *** بما ظلموا، وبقي العار
وداروا إلى دار العقاب*** وملك الغير الدار
وخلوا بالعذاب في *** بطون تلك الأحجار
فلا مغيث ولا أنيس *** ولا رفيق ولا جار
وما من يد إلا يد الله فوقها *** ولا ظالم إلا سيُبْلَى بأظلم
فكم قد رأينا ظالما متجبرًا *** يرى النجم تيهًا تحت ظل ركابه
فلما تمادى واستطال بظلمه *** أناخت صروف الحادثات ببابه
وعوقب بالظلم الذي كان يقتفي *** وصبَّ عليه الله سوط عذابه
رسالة الهادي -صلى الله عليه وسلم- تقول لكل من ظلم: "اتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
قالت إحدى بنات العرب الذين نُكِبُوا: "أصبحنا وما في الأرض أحد إلا وهو يحسدنا ويخشانا، وأمسينا وما في الأرض أحد إلا وهو يرحمنا".
و"كانت أخت أحمد بن طولون كثيرة السرف في إنفاق المال، حتى إنها زوَّجت بعض لُعَبها فأنفقت على وليمة عرسها مائة ألف دينار، فما مضى سوى زمن يسير حتى رُئِيَتْ في سوق بغداد، وهي تسأل الناس"!!
وحيثما التفت في كل جيل وعصر رأيت من ذلك أحداثًا وعبرًا.
اسأل التأريخ عمن (ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)[الحشر:2]، (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)[هود:83]، فـ"ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه وخالفوا أمره".
إنها رسالة لكل ظالم لأخيه في مال أو عرض أن يتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا متاع، إنها رسالة لآكلي أموال اليتامى ظلمًا، وسارقي أموال الناس بالأسهم والمساهمات والمضاربات الكاذبة، إنها رسالة لكل من يخوض في الأعراض أو ينتهك الحرمات، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الشورى:42].
الرسالة الثانية من كتاب ربنا والتي تحكي مجريات الأحداث وواقع الحياة ونصها (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)[البقرة:166-167].
إن كل علاقة بين البشر لا تقوم على الحق والهدى، وإنما قوامها المصالح الذاتية وعمادها التضامن في محاربة الحق ومعاداة أهله؛ فإنما هي علاقة مصيرها التخاصم والتعادي، ونهايتها التبرؤ والتخلي، ويوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضًا.
لقد تقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب، وحينما تحلّ النكبات ينشغل كلٌّ بنفسه تابعًا كان أو متبوعًا، وسقطت التبعيات التي كان المخدوعون يتبعونها، وعجزت عن وقاية نفسها فضلاً عن وقاية تابعيها.
إنها رسالة لكلّ مَن تعلَّق بغير الصالحين، واصطفى لصحبته الفاسدين والمفسدين؛ يوم أن يجدّ الجدّ، ويعظم الأمر، وتحل النكبة؛ فلن يقف معك إلا مَن اتخذ مع الرحمن عهدًا، وأقام علاقته معك على مبدأ النصرة للحق وأهله، وأما من تعلق بك لهوى أو منفعة فسيتخلى عنك قائلاً: (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ)[الأنفال:48].
أمَا آنَ للضعفة الأتباع أن يتبرؤوا من متبوعيهم الظالمين والمفسدين، وألا يكونوا أداة لهم في إيذاء الناس أو ظلمهم في دم أو مال أو عِرْض؛ فهذا أوان الإنابة والبراءة من الظالمين قبل أن يتبرؤوا منهم في الدنيا وفي يوم القيامة، وهم في النار يختصمون.
أما آن الأوان للمرأة المسلمة في زماننا اليوم أن تتنبه لهذه الحقيقة؛ فتتبرأ في دنياها اليوم من كل ناعق باسم الحرية والتمدن حتى لا تحق عليها الحسرة الكبرى عندما يتبرأ منها شياطين الإنس والجن.
أما آن لمن أعطوا قيادهم لأهل الفساد وجلساء السوء يسوقونهم إلى مواطن الرذيلة ويفتحون قلوبهم لألاعيبهم ومكرهم أن ينتهوا ما داموا في زمن الإمكان، وأن يعلموا أن مودة هؤلاء وطاعتهم إن لم تنقطع في الدنيا فهي ولا شك منقطعة في الآخرة بل ومتحولة إلى عداوة وبراءة.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[ق:37].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
أما بعد: فثمة رسالة من كتاب ربنا ترسم الحقيقة وتبعث الأمل وتستحث لأخذ الحيطة والحذر، رسالة مضمونها (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)[الطارق:15-17].
عداءٌ أزليٌ وُجِدَ مع وجود البشر، عداءٌ مستعر لا تُطفئ لهيبَه المجاملاتُ ولا اصطناعُ الابتسامات؛ و لا تزيدها الأحداث إلا يقيناً وجلاءً (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا)[النساء:101].
أخطر أساليب هذا العداء، الكيد والمكر المنطويان على تقصّد الإضرار بالمؤمنين بخفية واستتار وتمويه.
كيد كبير، ومكر خطير، كاد بضراوته أن يقلع الجبال الرواسي عن قرارها المكين، (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)[إبراهيم:46]، كيد دائب لا يعرف الكلل والملل. كيدٌ دافعه حسد الضلال، وأزُّ الشياطين، وتزيين المكر السيء، (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)[البقرة:109].
إن هذا الكيد والمكر مفردة من قدر الله، قد علمه وقدّره وأحاط به، وهو الذي يعلم السر وأخفى (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)[إبراهيم:46]؛ فهم في قبضة تصرفه، لا يخفى عليه مكرهم، وإنما أملى لهم؛ ليمتحن سرائر الإيمان ويبلو الأخبار. وقد كشف لعباده الموقنين حقيقة مكر الكافرين وكيدهم، وأرشدهم للتعامل الأمثل إزاء ذلك المكر والكيد؛ رحمة بهم، وتسلية لهم، وتقوية لقلوبهم، ورصاً لصفوفهم.
إن كيد الكافرين مهما بلغ في قوته وإحكامه ووسائله ودهائه، فإن الله مضعفه، ومُحِلٌ بَرْمَ عُقَده، (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)[الأنفال:18]، ولا عجب في ذلك؛ فضعف كيد الكفر مستمد من ضعف كيد مَصدره (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)[النساء:76].
ومن صور إيهان الله لكيد للكافرين إلقاءُ الرعب في قلوبهم، وتفرّق كلمتهم، وفشو العداوة والبغضاء بينهم، (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)[الحشر:14]، ومكر أولئك الكافرين السوءَ راجع بالسوء عليهم، وسيصطلون بناره، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ)[فاطر:43].
ومكر الله بأولئك الماكرين متين؛ لا يدرك بُعْدَه إلا من أنار الله بصيرته بنور الوحي، وعمر قلبَه باليقين، وكان له بصر بتاريخ الأمم، ولم تغرّه ظواهر الأحوال، ولم تأسره اللحظة الحاضرة؛ فالكيد الإلهي للكافرين كيد قوي شديد، خفي، متدرج، طويل الأمد، يأتي من مأمن، ويصيب في مقتل، وينقضّ على أصول مكرهم السيء، ويقوّض أساس بنائه حتى يتهاوى السقف على أهله، كما قال -تعالى-: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)[النحل:26].
وكذلك، فإن من شأن ذلك الكيد الكفري أن يوقظ جذوة الإيمان في القلوب، ويسوق أهل الإيمان للاحتماء بربهم، والرجوع لدينه، والتمسك به. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن سنة الله: أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل؛ فيدمغه؛ فإذا هو زاهق". وهكذا ينقلب كيدهم نقيض ما أرادوا وخططوا ودبَّروا وموّهوا، كما حكى الله عاقبة كيد قوم إبراهيم -عليه السلام- به، فقال: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)[الصافات:98].
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي