فأيقظ قلبك الغافل، وألق السمع وأنصت، لنور الوحي من جهة، ولنداءات فطرتك من جهة ثانية، ثم شاهد معي؛ فإنما الكلمات مشاهدة، ومن شاهد استعد استعدادا لتلقي كلام الوحي من خالق الكون، وتأمل معي الأرض في...
الحمد لله خالق السماوات والأرض، جاعل الظلمات والنور، أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهُداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفتُ وأخرتُ استغفار من يُقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قائم بلا عمد، واحد بلا عدد، لا يفنى ولا يَبيد، ولا يكون إلا ما يُريد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خصه -تعالى- بجوامع الكلم، وغرر الحكم، علم المؤمنين الكتاب والحكمة. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. وبعد:
أيها المؤمنون: إن نعم الله -تعالى- على عباده أكثر من أن تحصى، وصدق ربنا -سبحانه-؛ حيث قال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34]؛ وفي هذا الآية تتجلى منة الله على عباده؛ حيث أعطاهم ما تعلقت به أمانيهم وما لا يخطر على بالهم، بل ويسر لهم كل ما يحتاجونه من أنعام، وخيرات وصناعات وغيرها مما يعجزون عن إحصائه وعده؛ فضلا أن يقوموا بشكره على جميع آلائه وعطاياه سبحانه!
ألا وإن أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده؛ هي نعمة اليقين به وبدينه وشرائعه وكتبه والأخبار التي جاءت بها رسله؛ وحسب هذه النعمة أن بها نيل سعادة الدنيا والفوز بجنة الآخرة، والعاقل من يشكر ربه على هذه النعمة ويحيطها بما يرعاها ويثبتها، بل ويسعى في البحث عن الأسباب التي تعززها وتعنى بالحفاظ عليها، ولعلنا في هذا المقام أن نشير إلى بعض السبل التي تعزز اليقين بالإيمان برب العلمين وما جاء في الدين المبين؛ فمن تلك السبل:
التأمل في كتاب الله وتدبر معانيه والاعتصام به؛ (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص: 29]؛ فهو بحر من الغيب يحدثك، ونور من السماوات يخاطبك؛ فكن على قدر الخطاب، تكن إن شاء الله من الفائزين؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض"(رواه الطبري وصححه الألباني).
فتعلقوا بحبل الله -عز وجل- يعصمكم من الضلالة والتهلكة، ويزيدكم إيمانا ويقينا به سبحانه، مصداقاً لقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "أبشروا؛ فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم؛ فتمسكوا به؛ فإنكم لن تهلكوا، ولن تضلوا بعده أبدا"(رواه الطبري وصححه الألباني)؛ فتمسك بالقرآن ولا تفارقه ولا تفرط فيه، ذلك تعبير نبوي رفيع، ومقصد شرعي أصيل؛ فهلا تمسكت ؟ ولا تحسبن أنك غير معني به، بل هو بلاغ يخاطبك أنت بالذات، اقرأه وتدبره، فوراء كل كلمة فيه حكمة بالغة، تطمئن بها نفسك، ويزداد بها إيمانك، قال -تعالى-: (ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغن النذر)[القمر: 4-5].
وقد أتاك يقين غير ذي عوج *** من الإله وقول غير مكذوب
ومن السبل -أيضا-: النظر في آيات الله الكونية الدالة على وجوده -سبحانه وتعالى- القائل: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الجاثية: 3-5]، والقائل: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ)[الشورى: 29]وقوله: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)[يونس: 101].
وقد طلب خليل الرحمن من ربه أن يريه ربه كيفية الخلق مشاهدة، قال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[البقرة:260].
فأيقظ قلبك الغافل، وألق السمع وأنصت، لنور الوحي من جهة، ولنداءات فطرتك من جهة ثانية، ثم شاهد معي؛ فإنما الكلمات مشاهدة، ومن شاهد استعد استعدادا لتلقي كلام الوحي من خالق الكون، وتأمل معي الأرض في دورتها كيف تجري محدثةً الليل والنهار! تسير مع الشمس إلى محطتها الأخيرة، واستحضر في ثنائية الليل والنهار كيف يجري عمرك، سويعات ثم أياماً، ثم سنوات؛ فنحن هنا مسافرون مع الأرض كرهاً لا طوعاً؛ فعمرك رحلةٌ ليس بيديكَ بدءها ولا منتهاها، لا تملك إيقافها أو إبطاءها ثانيةً بل جزءاً منها!
ولأهمية التأمل في ملكوت الله -سبحانه- جعله عبادة ورتب لمن قام بالأجر الوفير والخير الكثير؛ لأن بالتأمل يدرك العبد عظيم آلاء الله ونعمه على خلقه؛ يقول الإمام أبو سليمان الداراني -رحمه الله-: "إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة ولي فيه عبرة".
أسأل الله -تعالى- أن يرزقنا بركات القرآن، وأن يزيدنا به يقينا في إيمان، وأن يدخلنا بتدبره الجنان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، أما بعد:
عباد الله: ألا وإن من سبل تعزيز اليقين كذلك: دوام ذكر الله -تعالى-، وذلك لما يورثه الذكر من الطمأنينة والأنس في قلب الذاكر؛ فيزداد يقينا بربه وثقة بمولاه، قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28]؛ فالذكر مفتاح البصيرة؛ فهل تريدون أن تكونوا من المبصرين ؟ هل تشتاقون إلى مشاهدة الأنوار الربانية وهي تتدفق عليكم لتشمل الكون كله؟
وصدق القائل:
بذكر الله ترتاح القلوب **وتنزاح المتاعب والكروب
وتنزل رحمة الغفار غيثاً بهيّاً ** تمحي المعاصي والذنوب
وتنفتح البصائر بعد غي ** فتنكشف الغياهب والغيوب
أيها المسلمون: كفى الذاكر لربه شرف قربه من ربه وخالقه؛ لأن من اقترب منه سبحانه امتلأ قلبه يقينا بالله، ولهذا جاء في الحديث القدسي أن الله -تعالى- قال: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"(رواه البخاري ومسلم).
ومن سبل تعزيز الإيمان: سؤال الله -تعالى- اليقين؛ كما روى الإمام البخاري -رحمه الله- في الأدب المفرد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سلوا الله اليقين والمعافاة"، بل إن المصطفى -صلوات ربي وسلامه عليه- كان يداوم على سؤال ربه اليقين وقد ثبت أنه كان مما يقوله في دعائه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا"(صححه الألباني).
اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا.
اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّاتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي