إن العقل البشري مهما كان مبلغه من الذكاء وقوة الإدراك قاصر غاية القصور وعاجز غاية العجز عن معرفة حقائق الأشياء. فهو عاجز عن معرفة النفس الإنسانية ومعرفة النفس لا تزال من أعقد مسائل...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: ميز الله الإنسان عن غيره من المخلوقات بنعمة العقل، والذي يستطيع أن يميز به بين النافع والضار، والمصلحة والمفسدة، ويدرك به التكاليف الشرعية، ويتدبر به الآيات القرآنية، ويفهم به الأحاديث النبوية، ويجتهد به في أموره الدنيوية؛ فهو واسطة لا غنى للإنسان عنها في إدراك أمور دينه ودنياه.
ولقد اهتم الإسلام بالعقل اهتماما كبيرا، وأعلى من منزلته وقيمته ما ورد في كتاب الله -تعالى- من الآيات الكريمة التي تؤكد هذه الأهمية وتلك المكانة، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء:70]، ومن المعلوم أن من أبرز ما فضل الله به الإنسان على سائر مخلوقاته العقل.
ويكفي الإشارة إلى أهمية العقل في كتاب الله أنها تكررت كلمة العقل ومشتقاتها حوالي سبعين مرة، وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن وظائف العقل؛ كالتفكر والتأمل والنظر في آيات الله وفي الأنفس والآفاق، والتي لا يمكن حصرها من كثرتها في كتاب الله.
معاشر المسلمين: وإن الدلائل على عناية الإسلام بالعقل كثيرة؛ فمن ذلك:
أنه اعتبر العقل إحدى الضرورات الخمس الكبرى التي ينبغي المحافظة عليها، وحرَّم كل ما يضر بالعقل ويغيِّبه؛ كالخمور والمسكرات والمفتِّرات، وشرع العقوبات الرادعة لمن يتعاطى ذلك؛ حفاظاً على هذه النعمة العظيمة.
ومنها: أن الإسلام دعا العقل إلى اتباع البرهان، وأمر بنبذ الجهل والهوى والكبر والتعصب والتقليد الأعمى والجدل بالباطل والخرافات والأوهام والسحر والشعوذة والدجل؛ لأن هذه الآفات كلها تعطل العقل عن وظيفته؛ فيتمسك صاحبه بالخطأ ولو ظهر عواره، ويُعرض عن الصواب ولو استبانت أنواره، قال -تعالى-: (إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[البقرة:170].
ومن هذه المظاهر: أن الإسلام دعا العقل إلى التفكر والتأمل؛ سواء كان التفكر في نصوص الشرع بحسن فهمها والعمل بها، أو التفكر في مجالات الكون الفسيح، وما أودع الله فيه من عجائب المصنوعات، الدالة على وحدانيته وعظمته وجلاله، والقرآن مليء بالآيات الداعية إلى النظر في سنن الكون وقوانين الحياة، قال -تعالى-: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ)[يونس-101].
وعندما نزل على نبينا الكريم عليه السلام، قوله -سبحانه-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)[آل عمران:190] كان في حال عجيبة من التأثر، حيث سئلت عائشة -رضي الله عنها-، أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال: "يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي"، قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرَّك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي؛ فلم يزل يبكي حتى بل حِجْره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت عليّ الليلة آيةٌ، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها؛ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)[آلعمران190]"(حسنه الألباني).
وقد عاب الله على من يعطلون عقولهم عن وظائفها، ولا يسخرونها في التفكر؛ سواء في آياته الشرعية؛ كما في قوله، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد:24]، أو في آياته الكونية؛ كما في قوله، (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)[يوسف:105].
ومن الدلائل -أيها المسلمون-: أن القرآن حافل بالحجج العقلية الدامغة على وجود الله وتوحيد وصدق رسله وإثبات المعاد وغير ذلك؛ فمن ذلك على سبيل المثال، قوله -تعالى-: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)[الطور:35]؛ فهذا برهان عقلي قاطع؛ فإما أن يكونوا خُلقوا من العدم، ومعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وإما أن يكونوا خَلقوا أنفسهم، وهم يعلمون أنهم لم يخلقوا أنفسهم؛ فلا يبقى إلا أن لهم خالقاً، هو الله -تعالى-.
ومن مظاهر اهتمام الدين الإسلامي بالعقل: أنه دعا إلى تنمية العقول بالحث على التعلم والاستزادة منه؛ لأن العلم زاد العقول، والنصوص الشرعية حافلة بالحث على طلب العلم، وبيان كثرة فضائله ومزاياه، قال الله -تعالى-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 18]، وقال -سبحانه-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11]، وقال -تعالى-: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)]طه:114[.
ومنها: أن الدين تعامل مع العقل تعاملاً واقعياً؛ فاعترف بقصوره، وحث على تكميله؛ ولهذا جاء الحث على الشورى، والنصح بين الناس، بل وأرسل الله الرسل وأنزل الكتب لهدايتهم إلى تفاصيل ما لا تهتدي إليه العقول.
والعجيب ظهور فئة من الناس تدعو إلى إعمال العقل في أمور الدين والدنيا، وترك نصوص الشرع من الكتاب والسنة، مع أنه لا تعارض بين صريح النقل وصحيح العقل، لكنهم أرادوا من هذا العقل الذي يغفل وينسى، ويضعف ويسهى أن يحيط بجميع أمور الإنسان، وأن يكون له الكلمة الفصل في أمور الدين والدنيا والغيبيات وغير ذلك؛ فقاد ذلك البعض إلى ترك النصوص الشرعية بحجة أنها لا تتوافق مع العقل حسب زعمهم.
قال بعض أهل العلم: "إن العقل البشري مهما كان مبلغه من الذكاء وقوة الإدراك قاصر غاية القصور وعاجز غاية العجز عن معرفة حقائق الأشياء؛ فهو عاجز عن معرفة النفس الإنسانية ومعرفة النفس لا تزال من أعقد مسائل العلم والفلسفة، وهو عاجز عن معرفة حقيقة الضوء، والضوء من أظهر الأشياء وأوضحها، وعاجز عن معرفة حقيقة المادة، وحقيقة الذرات التي تتألف منها، والمادة ألصق شيء بالإنسان".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "لا ريب أن البصر يعرض له الغلط ورؤية بعض الأشياء بخلاف ما هي عليه ويتخيل ما لا وجود له في الخارج فإذا حكم عليه العقل تبين غلطه".
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدٌ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرًا، أما بعد:
أيها المؤمنون: ومع تكريم دين الإسلام للعقل واهتمامه به وصيانته له؛ إلا أنه حَدَّ للعقل حدودًا، هي كل ما يستطيع أن يستوعبه ويفهمه حسب قدرته، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: خَلَقَ الله الخَلْق فمن خَلَقَ الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا؛ فليقل: "آمنت بالله"(رواه مسلم).
وقال -تعالى-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الإسراء:85]؛ صـرف الجواب عن ماهيتها؛ حتى لا يتيه العقل فيما ليس يدركه، وليس من طاقته، وهذا لا شك تكريم وأي تكريم لعقل الإنسان، ولذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- لا يخوضون فيما لا يستطيعون دركه ومعرفته؛ فهذا عمر -رضي الله عنه- يقرأ على المنبر (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)[عبس:31]؛ فقال: "هذه الفاكهة قد عرفناها؛ فما الأبُّ؟"، قال: "الأبُّ هو المرعى وكل ما أنبتت الأرض مما تأكله البهائم كالكلأ والعشب"(صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ)، ثم رجع إلى نفسه فقال: "إن هذا لهو التكلف يا عمر".
يقول أحد الفلاسفة: "يجب على العقل أن يقف في تصوره عند حد التجربة الحسية؛ إذ لا يمكن لأفكارنا أن تمتد إلى الأشياء في أنفسها، فإذا ما حاولنا أن نعرفها بنفس الوسائل التي تعرف بها الظواهر -أي الزمان والمكان والسببية وغيرها– تورطنا في التناقض والخطأ".
إضافة إلى أن العقل مطالب بالتسليم للنص الشرعي الصريح ولو لم يفهمه، أو يدرك الحكمة التي فيه؛ لأن الشارع نص على كل ما يعصم من المهالك نصا قاطعا للعذر؛ فلا حجة لأحد بعد بيانه؛ كما ذكر ابن تيمية -رحمه الله- مستدلا على ذلك بآيات كثيرة، منها: قوله -عز وجل-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التوبة:115]، وقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)[المائدة:3].
أيها المسلمون: مهما ابتكر عقل الإنسان من اختراعات وحل من مشكلات معقدة وكبيرة؛ إلا أنه قاصر وله حدود يجب أن يتوقف عندها؛ فقد لا يستطيع أن يفسر الكثير من الغيبيات التي اختص الله بها نفسه، وقد لا يستطيع أن يعرف من علل الأحكام والتشريعات إلا القليل، ولأن هذا القصور يصاحب العقل؛ فلم يتركه المولى -سبحانه وتعالى- يتخبط دون هداية؛ فأرسل لأجل ذلك الرسل، وأنزل الكتب.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مظلين.
وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي