إن البشرية قاطبة مقرة بوجود الله -سبحانه و-تعالى- إلا من انتكست فطرتهم، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن أعظم الواجبات على العباد الإقرار بتوحيد الله -تعالى- ومعرفة وجوده؛ لأن الإنسان بهذا الإقرار وبتلك المعرفة يدرك طريقَ النجاة، فيحمل نفسه على سلوكه؛ ليبلغ الغاية الحميدة، والنهاية السعيدة.
وحينما يتأمل المرء وتصفو مرآة روحه يرى أنه لا شك في وجود الله –عز وجل-، وأن فطرته السليمة تشير إلى هذه الحقيقة دون أدنى تردد، قال -تعالى-: (أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)[إبراهيم:10].
روي أن فخر الدين الرازي كان يمشي في طريق وخلفه تلاميذ له؛ فمروا على عجوز فاستغربته وقالت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو عبد الله الرازي العالم الجليل يحفظ ألف دليل على وجود الله -تعالى-!! قالت العجوز: أفي الله شك!، وصدق الله إذ يقول: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى)[إبراهيم:10].
معاشر المسلمين: إن البشرية قاطبة مقرة بوجود الله -سبحانه و-تعالى- إلا من انتكست فطرتهم؛ قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة"؛ حتى الكفار مقرون بوجود الله؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[العنكبوت: 61-63]؛ وقال الله -عز وجل-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[ لقمان 25].
وقال بعض المؤرخين الغربيين: "لقد وُجدتْ في التاريخ مدنٌ بلا حصون، ومدن بلا مدارس، ومدن بلا قصور، ولكن لم توجد مدن بلا معابد".
وهذه الفطرة -عند كثير من المفسرين- هي الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم قبل أن يوجدوا، وجعل منه حجة قائمة عليهم لا يسعهم جهلها أو التنكر لها اعتذاراً بتقليد الآباء والأجداد، قال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)[ الأعراف: 172-173].
أيها المسلمون: إن الفطرة هي الأساس الذي تبنى عليه المعارف الإنسانية جميعها، وعلى رأسها معرفة الخالق -سبحانه- ودليلها على ذلك من أقوى الأدلة، قال -جل وعز-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الروم: 30].
ولو تُركت فطرة الإنسان من دون عواملَ تغييرٍ بشرية لبقي شاهداً بتلك الفطرة على توحيد الله ووجوده، ومصداق ذلك في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصراه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)[الروم:30]"(متفق عليه).
فلو افترضنا أن إنسانًا ولد في الصحراء بعيداً عن تعليم الأهل والمجتمع؛ فبقي هناك حتى بلغ؛ فإنه بلا شك سيعرف مِن نفسه أن هناك حاجة فيها تلح عليه بالاعتراف بأن الله -تعالى- موجود، كما تلح عليه إلى الحاجة إلى الطعام والشراب.
لكن المشكلة هي في تغيير البيئة لتلك المرآة الصافية، التي تبدل الفطر فتحوّل الصفاء إلى كدر، والضياء إلى ظلماء؛ فما يحيط بالإنسان كالأبوين الضالين هو الذي يعدل مسار الفطرة السليمة إلى الانحراف عن الجادة.
وقد خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم مبيناً ذلك؛ فكـان مما جاء في خطبته: "إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا: كل مال نحلته عبادي حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين؛ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطـاناً"(رواه مسلم).
عباد الله: لقد تحدث الكثير من علماء الغرب ومفكريهم عن الفطرة وأنها دالة على وجود الله؛ فهذه كلمةٌ لأكبر عالمٍ في الذرة، إنه آينشتاين -صاحب أقوى نظرية حتى الآن، وهي نظرية النسبية-، قال هذا العالم: "كل إنسان لا يرى في هذا الكون قوةً هي أقوى ما تكون، عليمةً هي أعلم ما تكون، حكيمةً هي أحكم ما تكون، هو إنسان حي ولكنه ميت"، يعني: كل إنسان لا يرى في الكون أن قوة الله هي أقوى القوى، وعلمه هو أعظم العلم، وحكمته هي أحكم الحِكم؛ فإنه إنسان ميت ولو كان يمشي بين الأحياء.
وألّف البروفسور باريت كتابه المشهور: (مؤمنون بولادة علم الإيمان الديني لدى الأطفال) وهذا الكتاب مبني على تجاربه العلمية خلال عشرين سنة، وقد دلّل بأدلة كثيرة جدًّا مبنية على أبحاث علمية أن الأولاد يولدون مفطورين على الإيمان بالخالق، وخلاصة كتابه أنه قال: "وبغضّ النظر عن الثقافة ودون الحاجة إلى تلقين بالإكراه، ينمو الأطفال بنزعة للبحث عن معنى محيطهم وفهمه، وعند منح المجال لتطوّر عقولهم ونموّها طبيعيًا يؤدّي بهم هذا البحث إلى اعتقاد مصمّم له غاية، وأن صانعًا حكيمًا قد صمّمه، ويفترضون أن هذا الصانع المقصود كلّي القدرة، وكلّي العلم، وكلّي الإدراك وأبدي، ولا يحتاج هذا الصانع أن يكون مرئيًا أو متجسّدًا مثل البشر، ويربط الأطفال بسهولة هذا الصانع بالخير الأخلاقي".
ويقول الكاتب الإنجليزي كولن ولسون: "الساعة الثانية ليلاً، وقد أنهيت كتابة مقال أُنكر فيه وجود الله، وحين خلدت إلى النوم لم أستطع إطفاء الضوء؛ خوفًا مما سيفعله الله بي" إنها فطرة الله في نفوس العباد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه ومن تبعه، وبعد:
عباد الله: فإن من مظاهر دلالة الفطرة على وجود الخالق -سبحانه و-تعالى-: حاجة النفس الشديدة إلى الالتجاء إلى الله سبحانه؛ فإنها إذا وقعت في محنة، أو أحاطت بها مصيبة شعرت بضعف كبير يحتاج إلى قوة كبيرة، وعجز عظيم يفتقر إلى قدرة عظيمة، ولم تجد أحداً يملك تلك القوة وتلك القدرة إلا الله -تعالى-، وقد تحدث القرآن الكريم عن هذا فقال الله -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا)[الإسراء:67].
وقال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[يونس:22]، وهذا في الماضي، ولا ريب أن في الحاضر أمثلة على ذلك الإقرار أيضًا؛ كما قد نسمع عن الحوادث في الجو على متون الطائرات، وفي البحر على ظهور السفن والباخرات.
عباد الله: إن الناس لو رجعوا إلى فطرهم، وأزاحوا عنها أغشية البيئة المظلمة لشهدت تلك الفطر بوجود خالقها، وعدم غياب فاطرها ومبدعها؛ فما أعظم شهادتها من شهادة، قال -سبحانه-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الروم: 30].
وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ حيث أمركم الله؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي