تعجلوا بالحج

عبد الله بن محمد البصري
عناصر الخطبة
  1. قرب موسم الحج .
  2. تهاون كثير من المسلمين بشعيرة الحج .
  3. الحج ركن من أركان الإسلام .
  4. وجوب الحج على الفور .
  5. وعيد من أخر حج الفرض بغير عذر .
  6. فضل الحج .
  7. حج المدين .

اقتباس

وَفي الوَقتِ الذي يَتَشَوَّقُ عِبادُ اللهِ الصَّالحونَ إلى حُضُورِ هَذَا المُؤتمرِ العَظِيمِ وَالمجمَعِ الكَرِيمِ في كُلِّ عَامٍ، وَتَتَقَطَّعُ قُلُوبُهُم حَسرَةً وَأَلمًا عَلَى فَوَاتِهِ لِعُذرٍ أَو عَجزٍ أَو مَرَضٍ، أَقُولُ: في هذا الوَقتِ تَجِدُ مِن أُمَّةِ الإِسلامِ مَن تَمُرُّ عَلَيهِ السُّنُونَ وَتَتَوَالى عَلَيهِ الأَعوَامُ وَقَضَاءُ الرُّكنِ وَأَدَاءُ الفَرِيضَةِ لم يَخطُرْ لَهُ عَلى بَالٍ، وَكَأَنَّ الحَجَّ عَلَى غَيرِهِ قَد فُرِضَ، أَو كَأَنَّهُ لَيسَ مِن أُمَّةِ الإِجَابَةِ...

 

 

  

أَمَّا بَعدُ: 

فَأُوصِيكُم -أَيُّها النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ القَائِلِ -عز وجل-: (الحَجُّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الحَجِّ وَمَا تَفعَلُوا مِن خَيرٍ يَعلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولي الأَلبَابِ) [البقرة: 197].

أيها المسلمون: لم يَبقَ عَلَى الحَجِّ مِن يَومِكُم هَذَا إِلا حَوالَي شَهرٍ يَزِيدُ قليلاً أَو يَنقُصُ، وَكَأَني بِالحَجِيجِ وَقَد وَقَفُوا في صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، أَو في مُزدَلِفَةَ يَقضُونَ وَاجِبَ البَيَاتِ، أَو في مِنًى يَرمُونَ الجَمَرَاتِ، أَو حَولَ الكَعبَةِ يَطُوفُونَ، أَو بَينَ الصَّفَا وَالمَروَةِ يَسعَونَ، أَو وَهُم يُحَلِّقُونَ أَو يُقَصِّرُونَ، أَو وهُم يُوَدِّعُونَ، فَيَا فَرحَةَ مَن فَازَ بِالوُقُوفِ بِتِلكَ المَشَاعِرِ المُقَدَّسَةِ! وَيَا سَعَادةَ مَن تَشَرَّفَ بِالتَّلَبُّسِ بِتِلكَ المَنَاسِكِ العَظِيمَةِ! حَطٌّ لِلذُّنُوبِ وَمَغفِرَةٌ لِلآثَامِ، وَنَفيٌ لِلفَقرِ وَإِعتَاقٌ مِنَ النَّارِ.

وَفي الوَقتِ الذي يَتَشَوَّقُ عِبادُ اللهِ الصَّالحونَ إلى حُضُورِ هَذَا المُؤتمرِ العَظِيمِ وَالمجمَعِ الكَرِيمِ في كُلِّ عَامٍ، وَتَتَقَطَّعُ قُلُوبُهُم حَسرَةً وَأَلمًا عَلَى فَوَاتِهِ لِعُذرٍ أَو عَجزٍ أَو مَرَضٍ، أَقُولُ: في هذا الوَقتِ تَجِدُ مِن أُمَّةِ الإِسلامِ مَن تَمُرُّ عَلَيهِ السُّنُونَ وَتَتَوَالى عَلَيهِ الأَعوَامُ وَقَضَاءُ الرُّكنِ وَأَدَاءُ الفَرِيضَةِ لم يَخطُرْ لَهُ عَلى بَالٍ، وَكَأَنَّ الحَجَّ عَلَى غَيرِهِ قَد فُرِضَ، أَو كَأَنَّهُ لَيسَ مِن أُمَّةِ الإِجَابَةِ، وَقَد عُلِمَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الحَجَّ رُكنٌ مِن أَركَانِ الإِسلامِ وَمَبَانِيهِ العِظَامِ، دَلَّ على وُجُوبِهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجمَاعُ، فَمَن جَحَدَهُ أَو أَبغَضَهُ بَعدَ البَيَانِ كَفَرَ، يُستَتَابُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ، وَمَن تهاوَنَ بِهِ فَهُوَ عَلَى خَطرٍ عَظِيمٍ، قال سُبَحانَهُ: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العَالمِينَ) [آل عمران: 97]، وقال -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "بُنيَ الإِسلامُ على خمسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيتِ، وَصَومِ رَمَضَانِ".

وَعَن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللهَ قَد فََرَضَ عَلَيكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا"، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَسَكَتَ حتى قالها ثَلاثًا، فقال رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-: "لَو قُلتُ: نَعَم، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا استَطَعتُم"، ثم قال: "ذَرُوني مَا تَرَكتُكُم".

وَقَدِ اختَلَفَ العُلَمَاءُ في وُجُوبِ الحَجِّ؛ هَل هُوَ على الفَورِ أَم عَلَى التَّرَاخِي، وَالصَّحِيحُ الأَرجَحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الفَورِ مَعَ الاستِطَاعَةِ، فمتى استَطَاعَ المُسلِمُ الحَجَّ وَتَوَفَّرَت فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِهِ وَجَبَ أَن يُعجِّلَ بِأَدَاءِ فَرِيضَةِ اللهِ فِيهِ، وَلم يَجُزْ لَهُ تَأخِيرُهُ وَلا التَّهَاوُنُ بِهِ، قَال ابنُ قُدَامَةَ -رحمه اللهُ- في المُغني: "مَن وَجَبَ عَلَيهِ الحَجُّ وَأَمكَنَهُ فِعلُهُ وَجَبَ عَلَيهِ على الفَورِ ولم يَجُزْ لَهُ تَأخيرُهُ، وَبِهَذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ".

وقال الشيخُ ابنُ بَازٍ -رحمه اللهُ-: "مَن قَدَرَ عَلى الحَجِّ ولم يَحُجَّ الفَرِيضَةَ وَأَخَّرَهُ لِغَيرِ عُذرٍ فَقَد أَتَى مُنكَرًا عَظِيمًا وَمَعصِيَةً كَبِيرَةً، فَالوَاجِبُ عَلَيهِ التَّوبَةُ إِلى اللهِ مِن ذَلِكَ وَالبِدارُ بِالحَجِّ".

وَسُئِلَ الشيخُ ابنُ عُثِيمِينَ -رحمه اللهُ تعالى-: "هَل وُجُوبُ الحَجِّ عَلَى الفَورِ أَم عَلَى التَّرَاخِي؟ فَأَجَابَ: "الصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الفَورِ، وَأَنَّهُ لا يجُوزُ لِلإِنسانِ الذي استَطَاعَ أَن يحُجَّ بَيتَ اللهِ الحَرَامَ أَن يُؤَخِّرَهُ، وَهَكَذَا جمِيعُ الوَاجِبَاتِ الشَّرعِيَّةِ، إِذَا لم تُقَيَّدْ بِزَمَنٍ أَو سَبَبٍ، فَإِنها وَاجِبَةٌ عَلَى الفَورِ".

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ يجِبُ عَلَى المُسلِم المُبَادَرَةُ إِلى تَأدِيَةِ فَرِيضَةِ الحَجِّ مَتى كَان مُستَطِيعًا؛ لأَنَّهُ لا يَدرِي مَاذَا يحدُثُ لَهُ لَو أَخَّرَهُ، قَال –صلى الله عليه وسلم-: "تَعَجَّلُوا إِلى الحَجِّ -يَعني الفَرِيضَةَ-؛ فَإِنَّ أَحَدَكُم لا يَدرِي مَا يَعرِضُ لَهُ"، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَن أَرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ؛ فَإِنَّهُ قَد يَمرَضُ المَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعرِضُ الحَاجَةُ".

وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ في الوَاقِعِ اليَومَ لَيَجِدُ مِنَ النَّاسِ مُوَاطِنِينَ وَمُقِيمِينَ مَن بَلَغَ مِنَ العُمُرِ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً وَلم يحُجَّ، فَمِنهُم مَن جَاوَزَ الأَربعِينَ وَقَارَبَ الخَمسِينَ، وَمِنهُم مَن تَعَدَّى الثَّلاثِينَ، أَمَّا أَبنَاءُ العِشرِينَ ممَّن لم يحُجُّوا فَكُثرٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَن وَجَبَ الحَجُّ عَلَى أَبنَائِهِ وَبَنَاتِهِ فَضلاً عَن وُجُوبِهِ عَلَيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَاهُم يُؤَخِّرُونَ الحَجَّ سَنَةً بَعدَ سَنَةٍ، وَيُؤَجِّلُونَ هَذَا الرُّكنَ عَامًا بَعدَ آخَرَ، غَيرَ مُلتَفِتِينَ إِلى أَنهم أَتَوا مُنكَرًا مِنَ الفِعلِ عَظِيمًا، وَارتَكَبُوا في حَقِّ أَنفُسِهِم مُخَاطَرَةً كَبِيرَةً؛ إِذْ لا يَأمَنُ أَحَدُهُم مَوتًا مُجهِزًا يَأخُذُهُ عَلى غِرَّةٍ، أَو مَرَضًا مُقعِدًا يَهجُمُ عَلَيهِ عَلَى غَفلَةٍ، أَو فَقرًا يَعتَرِيهِ بَعدَ غِنًى وَقِلةَ ذَاتِ يَدٍ بَعدَ كَثرَةٍ، أَو غَيرَهَا ممَّا يَعرِضُ لِلإِنسَانِ فَيُعجِزُهُ بَعدَ قُدرَةٍ وَيُضعِفُهُ بَعدَ قُوَّةٍ.

وَيُؤسِفُكَ أَن تجِدَ هَؤُلاءِ المُؤَخِّرِينَ لِفَرِيضَةِ اللهِ قَد جَابُوا الدِّيَارَ شَرقًا وَغَربًا، وَسَافَرُوا في البلادِ جَنُوبًا وَشمالاً، وَبَذَلُوا الأَوقَاتَ وَأَنفَقُوا الأَموَالَ في تَمَشٍّ وَتَنَزُّهٍ وَسِيَاحَةٍ، وَقَد يَكُونُونَ اكتَسَبُوا مِن وَرَاءِ سَفَرِهِم ذُنُوبًا وَتحمَّلُوا آثَامًا، وَمَعَ ذَلِكَ لم يُفِكِّرُوا في أَعظَمِ سِيَاحَةٍ وَأَجَلِّ سَفَرٍ، وَلم يَشُدُّوا الرِّحَالَ لأَشرَفِ البِقَاعِ وَأَعظَمِ الأَمَاكِنِ، وَالتي يَجنُونَ مِنَ السَّفَرِ إِلَيهَا رِضَا رَبِّهِم وَمَغفِرَةَ ذُنُوبِهِم، وَيَفُوزُونَ بِعِتقِ رِقَابِهِم وَتَكفِيرِ سَيِّئَاتِهِم وَحَتِّ خَطَايَاهُم.

فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَا مَن وَجَبَ عَلَيكُمُ الحَجُّ: بَادِرُوا بِهِ وَلا تُؤَخِّرُوهُ، وَاعلَمُوا أَن تَركَ حَجِّ النَّافِلَةِ مَعَ القُدرَةِ عَلَيهِ حِرمَانٌ مِن خَيرٍ عَظِيمٍ، فَكَيفَ بِالتَّهَاوُنِ بِالرُّكنِ اللاَّزِمِ وَالفَرضِ الوَاجِبِ، قَال –صلى الله عليه وسلم-: "يَقُولُ اللهُ -عز وجل-: إِنَّ عَبدًا صَحَّحتُ لَهُ جِسمَهُ، وَوَسَّعتُ عَلَيهِ في المَعِيشَةِ، تمضِي عَلَيهِ خمسَةُ أَعوَامٍ لا يَفِدُ إِليَّ لَمَحرُومٌ".

فَلْيَحمَدِ اللهَ -عز وجل- مَن مُدَّ في عُمُرِهِ وَأُنسِئَ لَهُ في أَجلِهِ، فَهَا هُوَ مَوسِمُ الحَجِّ قَد أَشرَقَت شَمسُهُ، وَهَا هُمُ الحُجَّاجُ قَد بَدَؤُوا يَأتُونَ مِن أَقصَى الأَرضِ شَرقًا وَغَربًا، بَعضُهُم لَه سَنَوَاتٌ وَهُوَ يجمَعُ مَالَهُ دِرهمًا دِرهَمًا وَفِلسًا فِلسًا، يَقتَطِعُها مِن قُوتِهِ وَقُوتِ أَهلِهِ وَأَبنَائِهِ حتى جمع ما يُعِينُهُ على أَدَاءِ هَذِهِ الفَرِيضَةِ العَظِيمَةِ، وَكثِيرٌ مِنَّا في هَذِهِ البِلادِ قَد تَيَسَّرَت لَهُ الأَسبَابُ وَتَهَيَّأَت لَهُ السُّبُلُ، وَمَعَ هَذَا يُؤَخِّرُ وَيُؤَجِّلُ وَكَأَنَّهُ لم يَقرَأْ قَولَ اللهِ -عز وجل-: (وَللهِ على النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) [آل عمران: 97]، وَقَولَهُ تعالى: (وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ للهِ) [البقرة: 196]، وَقَولَهُ -جل وعلا-: (وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27].

قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللهُ عنه-: "لَقَد هَمَمْتُ أَن أَبعَثَ رِجَالاً إِلى هَذِهِ الأَمصَارِ، فَلْيَنظُرُوا كُلَّ مَن كَان لَهُ جِدَةٌ ولم يحُجَّ فَيَضرِبُوا عَلَيهِمُ الجِزيَةَ، ما هُم بِمُسلِمِينَ، مَا هُم بِمُسلِمِينَ".

وَرُوِيَ في بَعضِ الأَحَادِيثِ وَحَسَّنَهَا بَعضُ العُلَمَاءِ أَنَّهُ -عليه الصلاةُ والسلامُ- قال: "مَن كَانَ ذَا يَسَارٍ فَمَاتَ وَلم يحُجَّ فَلْيَمُتْ إِن شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِن شَاءَ نَصرَانِيًّا"، وَقَالَ: "مَن مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلى بَيتِ اللهِ ولم يحُجَّ فَلا عَلَيهِ أَن يمُوتَ يَهُودِيًّا أَو نَصرَانِيًّا"، وَقَالَ: "مَن مَاتَ ولم يحُجَّ حَجَّةَ الإِسلامِ في غَيرِ وَجَعٍ حَابِسٍ أَو حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ أَو سُلطَانٍ جَائِرٍ فَلْيَمُتْ أَيَّ المِيتَتَينِ شَاءَ: إِمَّا يَهُودِيًّا أَو نَصرَانِيًّا".

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُون-، اِتَّقُوا اللهَ -يَا مَن لم تحُجُّوا-، وَبَادِرُوا إِلى أَدَاءِ هَذِهِ الفَرِيضَةِ العَظِيمَةِ وَأَسرِعُوا؛ فَإِنَّ الأُمُورَ مُيَسَّرَةٌ وَللهِ الحَمدُ، وَلا يُقعِدَنَّكُمُ الشَّيطَانُ وَلا يَأخُذَنَّكُمُ التَّسوِيفُ، وَلا تُلهِيَنَّكُمُ الأَمَانِيُّ البَاطِلَةُ أَو تَخدَعَنَّكُمُ الحِيَلُ الكَاذِبَةُ، فَتُؤَخِّرُوا الحَجَّ كُلَّ عَامٍ إِلى الذي يَلِيهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُم لا يَعلَمُ أَينَ هُوَ العَامَ القَادِمَ أَفَوقَ التُّرَابِ أَم تحتَهُ؟! وَتَأَمُّلُوا في حَالِ الأَجدَادِ كَيفَ كَانُوا يحُجُّونَ، وَكَيفَ سَارُوا عَلَى أَقدَامِهِم وَامتَطَوا رَوَاحِلَهُم شُهُورًا وَلَيَاليَ وَأَيَّامًا لِيَصِلُوا إلى البَيتِ العَتِيقِ وَيَقضُوا تَفَثَهُم، وَنحنُ وَللهِ الحَمدُ في نِعمَةٍ لم يَسبِقْ لها مَثِيلٌ، طُرُقٌ وَاسِعَةٌ وَسَيَّارَاتٌ فَاخِرَةٌ، وَأَمنٌ وَغِنًى وَصِحَّةٌ وَرَاحَةٌ، وَأَرزَاقٌ مُيَسَّرَةٌ وثَمَراتٌ مُتَوفِّرَةٌ، لَكِن مِنَّا مَن يُلَبِّسُ عَلَيهِ الشَّيطَانُ وَيَفتَعِلُ لَهُ الأَعذَارَ، إِمَّا بِشِدَّةِ الحَرِّ أَو قُوَّةِ الزِّحَامِ أَو كَثرَةِ الحُجَّاجِ، وَكَأَنَّهُ لَن يحُجَّ حتى يَرَى الطَّرِيقَ لَهُ وَحدَهُ، وَالمَشَاعِرَ قَد خَلَت مِن عِبادِ اللهِ سِوَاهُ.

فَاللهَ اللهَ يَا مَن لم تحُجُّوا، فَاستَعِدُّوا مِنَ الآنَ وَأَعِدُّوا، وَاعزِمُوا وَلا تَتَوَانَوا، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَلا تَعجَزُوا، وَحَاسِبُوا أَنفُسَكُم بِصِدقٍ، فَإِنَّ الأَمرَ لَيسَ بِالهَوَى المُتَّبَعِ أَوِ الرَّغَبَاتِ النَّفسِيَّةِ وَالقَنَاعَاتِ الشَّخصِيَّةِ، وَإِنمَا هُوَ رُكنٌ مِن أَركَانِ الدِّينِ وَاجِبٌ، لا خِيَارَ أَمَامَ مَن وَجَبَ عَلَيهِ إِلاَّ المُضِيُّ فِيهِ وَأَدَاؤُهُ، وَإِلاَّ فَوَيلٌ لِمَن لم يَرحَمْهُ اللهُ وَيَتَجَاوَزْ عَنهُ.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ للهِ فَإِن أُحصِرتُم فَمَا استَيسَرَ مِنَ الهَديِ وَلاَ تَحلِقُوا رُؤُوسَكُم حَتَّى يَبلُغَ الهَديُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِن رَأسِهِ فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُم فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمرَةِ إِلى الحَجِّ فَمَا استَيسَرَ مِنَ الهَديِ فَمَن لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبعَةٍ إِذَا رَجَعتُم تِلكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لم يَكُنْ أَهلُهُ حَاضِرِي المَسجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ * الحَجُّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الحَجِّ وَمَا تَفعَلُوا مِن خَيرٍ يَعلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولي الأَلبَابِ * لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُوا فَضلاً مِن رَبِّكُم فَإِذَا أَفَضتُم مِن عَرَفَاتٍ فَاذكُرُوا اللهَ عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ وَاذكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُم وَإِن كُنتُم مِن قَبلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاستَغفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيتُم مَنَاسِكَكُم فَاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُم آبَاءكُم أَو أَشَدَّ ذِكرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاَقٍ * وِمِنهُم مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُم نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ * وَاذكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ في يَومَينِ فَلاَ إِثمَ عَلَيهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثمَ عَلَيهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم إِلَيهِ تُحشَرُونَ) [البقرة: 196-203].

 

 

 

الخطبة الثانية:


 

 

أَمَّا بَعدُ:

فَاتّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يجعَلْ لَهُ مخرَجًا * وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدرًا) [الطلاق: 2، 3].

أيها المسلمون: إِنَّ فَضلَ الحَجِّ عَظِيمٌ وَأجرُهُ كَبِيرٌ، وَهُوَ يجمَعُ بَينَ العِبَادَةِ البَدَنِيَّةِ وَالمَادِيَّةِ، وَالأَحَادِيثُ في فَضلِهِ وَعَظِيمِ أَجرِهِ وَأَثرِهِ كَثِيرَةٌ، قال –صلى الله عليه وسلم-: "مَن حَجَّ هَذَا البَيتَ فَلَم يَرفُثْ ولم يَفسُقْ رَجَعَ كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ"، وَسُئِلَ : أَيُّ الأَعمَالِ أَفضَلُ؟! قال: "إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ"، قِيلَ: ثم مَاذَا؟! قال: "جِهَادٌ في سَبِيلِ اللهِ"، قِيلَ: ثم مَاذَا؟! قال: "حَجٌّ مَبرُورٌ"، وقال -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "تَابِعُوا بَينَ الحَجِّ وَالعُمرَةِ، فَإِنهما يَنفِيَانِ الفَقرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَيسَ لِلحَجَّةِ المَبرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الجَنَّةُ"، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِن يَومٍ أَكثَرَ مِن أَن يُعتِقَ اللهُ فِيهِ عَبدًا مِنَ النَّارِ مِن يَومِ عَرَفَةِ".

وَمَعَ هَذَا الأَجرِ العَظِيمِ وَالثَّوابِ الجَزِيلِ فَإِنَّ أَيَّامِ الحَجِّ قَلِيلَةٌ، لا تَتَجَاوَزُ أُسبُوعًا لِمَن بَعُدَت دِيَارُهُ، وَأَمَّا مَن قَرُبَت دِيَارُهُ فَإِنَّهُ لا يكادُ يَغِيبُ أَكثَرَ مِن أَربَعَةِ أَيَّامٍ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: وَقَد يَعتَذِرُ كَثِيرٌ مِنَ المُؤَخِّرِينَ لِلحَجِّ بِالدَّينِ، وَيَتَحَجَّجُ بِأَنَّ عَلَيهِ حُقُوقًا لِلآخَرِينَ، فَيُقَالُ: لا شَكَّ أَنَّ الاستِطَاعَةَ شَرطٌ مِن شُرُوطِ وُجُوبِ الحَجِّ، وَأَنَّ حُقُوقَ الآدَمِيِّينَ في هَذَا مُقدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ اللهِ؛ لأَنَّ حُقُوقَهُم بَينَهُم مَبنِيَّةٌ عَلَى المُشَاحَّةِ، وَحَقّ اللهِ مَبنَاهُ عَلَى الإِحسَانِ وَالمُسَامَحَةِ، لَكِنَّ هَذِهِ الدُّيُونَ -أَيُّهَا الإِخوَةُ- لا تخلُو مِن أَن تَكُونَ دُيُونًا حَالَّةً أَو مُؤَجَّلَةً، فَإِن كَانَت مُؤَجَّلَةً فَلا إِشكَالَ، وَإِنْ كَانَت حَالَّةً وَقَدَرَ عَلَى دَفعِهَا وَعَلَى نَفَقَةِ الحَجِّ لَزِمَهُ أَنْ يحُجَّ، وَإِنْ تَوَارَدَا عَلَيهِ جمِيعًا وَلم يَستَطِعْهُما مَعًا فَلْيُقَدِّمْ تَسدِيدَ القِسطِ الذِي يُطَالَبُ بِهِ، وَلْيُؤَخِّرِ الحَجَّ إِلى أَن يَستَطِيعَهُ؛ وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى الإِنسَانِ دَينٌ طَوِيلُ الأَمَدِ، مِثلُ الدَّينِ الذِي لِصُندُوقِ التَّنمِيَةِ العَقَارِيَّةِ، وَهُوَ وَاثِقٌ مِن أَنَّهُ كُلَّمَا حَلَّ عَلَيهِ القِسطُ أَوفَاهُ، فَإِنَّهُ في هَذِهِ الحَالِ إِذَا تَوَافَرَ عِندَهُ المَالُ وَقتَ الحَجِّ فَعَلَيهِ أَن يحُجَّ؛ لأَنَّ هَذَا الدَّينَ قَد أُمِّنَ بِالرَّهنِ الذِي لِلصُّندُوقِ وَهِيَ العِمَارَةُ؛ وَلأَنَّ هَذَا الدَّينَ مَضمُونٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، حَيثُ إِنَّ صَاحِبَهُ وَاثِقٌ مِن أَنَّهُ يُوَفِّيهِ كُلَّمَا حَلَّ عَلَيهِ القِسطُ، فَيَكُونُ مَا في يِدِهِ زَائِدًا على هَذَا الدَّين فَعَلَيهِ أَن يحُجَّ بِهِ.

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَاحرِصُوا عَلَى فَرَائِضِهِ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيهِ بها، فَإِنَّهَا أَحَبُّ مَا تُقُرِّبَ بِهِ إِلَيهِ، وَتَزَوَّدُوا مِنَ النَّوافِلِ وَاستَكثِرُوا مِنهَا يُحبِبْكُمْ وَيُوَفِّقْكُم وَيَجعَلْ لَكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ وَيَغفِرْ لكم، قال -تعالى ذِكرُهُ- في الحَدِيثِ القُدسِيِّ: "وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِليَّ ممَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حتى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سمعَهُ الذِي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التي يَبطِشُ بها، وَرِجلَهُ التي يَمشِي بها، وَإِنْ سَأَلَني لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ استَعَاذَني لأُعِيذَنَّهُ".
 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي